لا يختلف عاقلان في ان التراث بما فيه من عادات وتقاليد هو ثروة وطنية وجبت حمايتها من التلاشي والاندثار من خلال نفض الغبار عنها واستغلالها بشكل جيّد ومن ثم تقديمه للجمهور في أبهى حلة باعتبارها أصالة الشعوب وديمومة حضارتها. الاغنية القديمة هي حلقة من سلسلة طويلة... لذلك سعى عدد من الفنانين والمهتمين بالشأن الموسيقي في بلادنا بالبحث عن كنوز مهملة في القرى والأرياف حيث المنبع الحقيقي لهذه التحف الغنائية والفنية بأشكالها المتنوعة وتلاحينها المختلفة فكان المرحوم عم الطاهر غرسة سباقا الى هناك فرشح من اناء اصالتها ما شاء له... هذب... وصحّح... وانجز اعمالا قيمة جمع فيها بين القديم والحديث دون المساس بجوهره... فالتحقت بركبه ثلة من خير مطربينا الذين اختاروا ما يناسبهم من التراث... ويتلاءم مع توجههم الفني وتركيبتهم الموسيقية. فلولا صفوة ما كنا أبدا نستمع الى «دبلج وحديدة»... ولولا المرحوم مصطفى الشرفي ما كان لنا لنستمتع على الأقل ب«يامّه وجعتوها» التي حولها لطفي جرمانة الى أغنية راقصة... دون أن ننسى السيدة زهيرة سالم ورائعة «باطل يا حمة باطل»، وساسية زيتون... يا سرة... كل هذا لن يمنعنا من العودة الى زمن الاذاعة القديم والجميل حقا... زمن متحف الاغاني وليلة من ليالي تونس القديمة... حين كان عبد المجيد بن جدو يصول ويجول وقدم للمستمعين أحلى الأمسيات وأهدى لعشاق الكلمة الحلوة أروع الابداعات من الاغنيات... رحمه الله. الزميل العزيز والقدير أحمد العموري أثار نقطة هامة في ردّه وتوضيحه بخصوص أغنية «أنا التارڤي» حين قال «ما الفرق بين متاعك ومتاعي»؟ خاصة وأن التراث مهما حاول الباحثون والمختصون فلن يصلوا الى مصدره الاساسي حين يتعلق الامر بالأغاني... وعليه فقد بات هذا التراث كقطعة حلوى في فم الناس كل يريد ركبه والكل أصبح يدعي ملكيته... وبين الألف والباء، قضايا وتراشق بالتهم من أجل أغنية قد تكون غير فنية أو دونت كلماتها في السجون والسراديب الارضية في الأزمنة الغابرة... العجيب أن عددا من الفنانين التونسيين وقع السطو جهرة على أغانيهم وهي الان تروج على نطاق واسع في أشرطة الكاسيت والأقراص المضغوطة بل شوهوها أصلا ورغم ذلك لا أحد من هؤلاء حرك ساكنا والأكيد أنهم استمعوا الى ابداعاتهم كيف سلبوا منها هويتها على غرار أغنيته «مانيش منا» لمحسن الرايس التي تحولت الى راي جزائري «مغروب» فما بالنا واغاني التراث المجهولة الهوية والمصدر يتنازع عليها من كنا نظنهم رواد ابداع عندنا وهو شيء يؤسف له ويعد أضحوكة القرن الواحد والعشرين تستحق التوثيق... ففي الوقت الذي اشتدت فيه المنافسات بين الافراد والجماعات من اجل تقديم أفضل الخدمات وارقى الأعمال... والأبحاث والانتاجات... يدخل بعض مطربينا أروقة المحاكم للثأر لاغنيته يدعون أنهم أصحاب حق وأنهم الوارثون الأصليون للتراث ولحضارة أمّة بأكملها رواها التاريخ في آلاف المخطوطات ومئات الكتب... أليست هذه جناية؟ لا نقول أكثر من ذلك سوى أن الالفلاس المادي والفني هما الدافعان بالتجاء نجوم (...) الاغنية التونسية الى المسك بتلابيب التراث المغنى والمسجل... لأنه أيسر السبل وافضل طريقة «لترقيص» الجماهير في البطاحي... واستوديوهات التلفزيونات مع اضافة بعض التهديب الماسط ان لزم الامر حتى تصبح الاغنية «تربّخ» أكثر كما فعلت ايمان الشريف في «على الله». حدّث التراث فقال: عندما ظهر نجم الاغنية الصحراوية بلقاسم بوڤنة على الساحة الفنية وقدم أجمل ما يزخر به تراثنا من أغاني اختارها بدقة وتقمصها بأفخر الألوان الفنية حتى تتماشى وامكانيات الارياف وبات صوته مطلوبا في مختلف الاذاعات... كانت أغنية «على الله» بمثابة جواز عبور دخل بها البيوت والقلوب معا... فلهجة بوڤنة اعطت لأغانيه التراثية رونقا خاصا... فأحبه الجمهور وبات حضوره لافتا في عديد المهرجانات الصيفية، فاستغلت ايمان الشريف نجاح الاغنية كما يجب وسطت عليها، حيث شوهتها بحركاتها وغمزاتها واشياء أخرى لا تليق، لاثارة حفيظة الجمهور وتدليعه كما قالت هي... ومن قبلها فعلت أمينة فاخت نفس الشيء ب «على الله»... وقد كنا ننتظر ردة فعل بوڤنة على تصرف ايمان وأغنيته الذي علق بالقول «ربي يهدي»، اذ يبقى الاختيار للمتلقي بأي صوت يحبذ سماع «على الله» تعليق رشيق وذكي في الآن نفسه... وطوينا صفحة بلقاسم وايمان حتى فاجأتنا نوال غشام وهي تؤدي أغنية «هز حرامك وخمريك» التي اشتهرت بها الفنانة الاستعراضية سعاد محاسن... فتعددت الاحتجاجات والاتهامات من هذه وتلك وهدد محمد علي النهدي وكيل أعمال والدته الفنانة باللجوء الى القضاء لايقاف نوال عند حدّها فيما أصرت الاخيرة بأن الاغنية من التراث ولم تسمع طوال مسيرتها الفنية بسعاد محاسن تؤدي هذه الطقطوقة... والحال وهذه الحقيقة لا غبار عليها أن «هز حرامك وخمريك» مسجلة بصوت طليقه لمين النهدي منذ سنوات باعتبار أن السيدة سعاد أكثر الفنانات التونسيات اهتماما بالتراث وأن أغلب أغانيها تنتمي الى هذا الباب... كل ذلك لم يقنع نوال غشام وظلت تردد مقولة «بايته» وقديمة ان التراث ملك للجميع. آخر البدع جاءتنا من منيرة حمدي التي كنا نخالها نجمة «قد وقدود» وتمثل مستقبل الاغنية التونسية والعربية، حيث قدمت ما شاء الله من الاغاني الجميلة وكانت لها مشاركات محترمة في مختلف التظاهرات الثقافية والفنية في تونس وخارجها... منيرة حمدي تعدت الخطوط الحمراء ولم تجد غير مواطنتها الفنانة زهيرة سالم لتسطو (...) على أغنيتها التراثية «باطل يا حمة باطل»، وقد كان في نية منيرة حمدي ان جارتها في باجة لن تهتم بالموضوع بحكم صلة الجوار لكن السيدة زهيرة انتفضت ورفضت مجرد النقاش في الموضوع وتوجهت الى المحكمة لاثبات أحقيتها في الاغنية فيما اكتفت منيرة بترديد ما رددته زميلتها نوال «التراث ملك للجميع» معتبرة اياه الحجة الدامغة لمقارعة زهيرة سالم... في واقع الأمر وبعيدا عن أطراف النزاع فهذه الاغنية رغم أنها قديمة ومجهولة فهي تمثل جزءا من مآثر وابداعات زهيرة وهي ايضا الفنانة التونسية الوحيدة التي أدت الطقطوقة وممضاة بصوتها في أرشيف مؤسسة الاذاعة... فكيف لمنيرة ان تتجنى على زهيرة و«باطل يا حمة باطل»؟ لنُسلم ان التراث فعلا ملك للجميع أفلا يجدر بايمان الشريف ونوال غشام ومنيرة حمدي الابحار في هذا الموروث الحضاري الكبير وانتقاء ما يناسبهن من أغاني وتقديمها للجماهير بدلا من أكل «اللقمة الباردة»؟ فلا يلجأ الى مثل هذه الاساليب الا المفلس والفاشل وتصرف كالذي تحدثنا عنه يقلل من شأن الفنانة ويحط من قيمتها... أغاني بلا هوية تتجول في محاكمنا التونسية يا لمرارة الأيام!!