منصور الكيلاني (باحث في علم الاجتماع) في لحظة من الزمن المتعطش للحرية وللكرامة، في تلك اللحظة القصوى من الرفض والتمرد والانتفاض، أي لحظة تلك التي أشعل فيها البوعزيزي النار في جسده الشاب، هذا الاحتراق الأسطوري المقدس والمؤسس طهّر كل الأجساد من عقالها والحناجر من صمتها ليبدّد نظام البطش والاستبداد والقهر، تلك اللحظة عمّقت احساسنا بالأشياء وأعطت للوجود معنى وهدفا وأعادت الى الروح صفاءها وانسجامها والى الكلمات معانيها ودلالاتها. احترق البوعزيزي وأشعل ألف شمعة أضاءت الطريق وعبرت بنا نحو الحرية. هل نحن أمام انتحار إيثاري بالمعنى الدوركهايمي؟ أم هل نحن أمام حالة من الرفض الأقصى والأقسى على الجسد؟ هل نحن أمام طريقة للتعبير تلغي الجسد من أجل الهدف والفكرة؟ هل نحن أمام شكل مختلف من الرفض والمقاومة؟ هذا النموذج الفريد والمستحدث في الانتفاضة والثورة يعمق حاجتنا الى استنطاق مقاربات العلوم الانسانية والى قراءات جديدة ومتجذرة مرتبطة باللحظة التاريخية تبحث في راهنها ومستقبلها وتؤسس لمرتكزاتها ومرجعياتها. ولعل ومضة الاحتراق ذهبت بالبوعزيزي الى فضاءات أرحب والى عوالم أوسع، لعله في تلك اللحظة أدرك أن الحلم آت لا ريب، لعله رأى بعينيه البراقتين ووجهه الممتلئ حياة أن النصر قادم لا محالة. أي آلام تلك التي عاشها البوعزيزي وهو يحترق، آلام اختزلت سنوات طويلة من الظلم والاستبداد والإقصاء. عندما نظر البوعزيزي بعينين يلفهما البياض الى وجه جلاده.. كان الجلاد وقتها خائفا مرتبكا منتهيا أمام البياض الذي كان يلف جسد البوعزيزي، صورة البطل/ الضحية ملففا في بياضه وفي صمته الصاخب كانت إيذانا بنهاية الدكتاتورية. لنكن أوفياء لشهداء الثورة التونسية العظيمة، ولنعمل على المحافظة على مكتسبات الثورة وحمايتها وتجذيرها من خلال التغيير العميق والشامل على كل المستويات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية بما يتماشى وطموحات هذا الشعب العظيم ويلبي تطلعاته واحتياجاته للحرية والديمقراطية والتنمية والعدالة.