د. زبير خلف الله: باحث تونسي مختص في التاريخ العثماني والشؤون التركية- استانبول لم يتوقع أحد أن ما أقدم عليه شهيد الحرية محمد البوعزيزي سيؤول إلى الإطاحة بأكبر نظام ديكتاتوري عرفته تونس على مدار تاريخها الذي يمتد إلى آلاف السنين. كانت حادثة في ظاهرها مؤلمة ولا تتعدى سوى أن يقول العاقل القانع بالظلم: لقد ضيع نفسه وفقد حياته وخسر عمره. لكن البوعزيزي كان يملك رؤية ومشروعا يتجاوز كل الدلالات والإيحاءات التي تتعدى حدود الجسد والحس لتتصل بعمق فطري وفلسفي وحضاري تراكم على مر السنين في وعي البوعزيزي الذي أرهقته سياط الجلاد، وأتعبه سماع آهات شعب ذاق ويلات الحرمان، وتجرع كأس القمع والإرهاب من مجرم كان يتلذذ بعذابات الآخرين. وصل البوعزيزي إلى مرحلة من الوعي بمأساة هذا الشعب الجريح جعلته يقف مع نفسه وقفة فيلسوف بل مصلح أدرك أن القبول بالظلم والإهانة هو الإنتحار الحقيقي لمن يقبل به. لقد كان البوعزيزي يدرك أن الحرية قيمة غالية لا تقدر بأي ثمن، قيمة تتطلب روحا عالية مستعدة لكي تذوب في نار الموت حتى تضيء شمعة الحرية التي أطفأتها قوى القمع والإرهاب. لم يكن أحد يعتقد أن موت البوعزيزي سيكون بداية حياة جديدة لشعب ظل يموت كل يوم على مدار سنين طويلة تحت أقدام جلاد لا يعرف معنى للكلمات، ولا يعترف للإنسان بأي قيمة. ثورة تونس نبعت من هذا العمق الحقيقي لقيمة الحرية والكرامة في المشروع الفلسفي لمحمد البوعزيزي وهو نفس المشروع الذي يحمله كل مناظل حر في تونس عبر سنوات طويلة. لكن ما يميز البوعزيزي عن غيره ممن يشاركونه في هذا المشروع القائم على احتراق الذات في سبيل سعادة الآخر أنه كان شجاعا وجسورا رفض أن تظل أدبيات هذا المشروع الفلسفي الحضاري في غياهب الصمت والكتمان. لقد أراد أن يصدر أول بيان تأسيسي لهذا المشروع الحضاري الذي يستند على فلسفة التضحية بالذات من أجل الآخر. نعم لم يؤسس البوعزيزي هذا المشروع الحضاري الجديد من فراغ بل يأتي من تراكمات عديدة تتجاوز الخمسين عاما، و قادها كثير من الأوفياء وعشاق الحرية والكرامة في تونس وفي العالم، وذاقوا ويلات السجون والتعذيب والتشريد والتهجير. ولكن ما يميز البوعزيزي عن إخوانه من عشاق الحرية ومن رواد هذه المشروع الحضاري أن هؤلاء ظل يحبسهم عائق الجسد والحس المفعم بحب الذات وبغريزة حب البقاء وبهاجس الخوف من الموت مما جعلهم يصابون بداء خطير وهو داء قابلية الظلم والإستبداد، لكن البوعزيزي سبق هؤلاء في مدى إيمانه وتمسكه بقيم الكرامة والحرية حتى وصل به الأمر إلى استدعاء الموت عزيزا لأنه كان يعتقد أن الحياة تنبع من الموت وأن البداية تولد من رحم النهاية . لقد كان موته بداية لحياة البوعزيزي في ضمير كل إنسان حر يعشق الحرية والكرامة. لقد كانت نهاية البوعزيزي الجسد بداية للبوعزيزي الفكرة التي ستظل تنساب في أعماق كل مفكر وفيلسوف رفض أن يكون عبدا لذاته وجسده فقط. سيظل البوعزيزي أغنية يعزفها كل فنان تستهويه سمفونية الحرية والحب، بل سيظل البوعزيزي أكبر شهادة على حقيقة الصراع بين الحرية والإستبداد، بين موت يأتيك وموت تحتاره. سيظل البوعزيزي مصطلحا جديدا في قاموس مواجهة الظلم والاستبداد.