منذ سقوط نظام بن عليّ رفع العديدون شعار «لا للاقصاء» وقد تحمّست مثل الكثيرين غيري لهذا الشعار لأن تونس ملك مشترك وعزيز لدى جميع أبنائها.. ولكن إلحاح أطراف معيّنة على تكرار «لا للاقصاء» بمناسبة وبغير مناسبة.. جعلني أحترز وأفكر في التفاصيل لأن الشيطان يكمن في التفاصيل. وممّا زادني توجّسا الحوار الذي أجرته احدى القنوات الخاصة مع الأستاذ راشد الغنوشي والأجوبة التي قدمها حول بعض الأسئلة التي عكست في العمق انشغال فئات واسعة من التونسيين حول مستقبل البلاد ومآل المكاسب المحققة منذ انطلاق الحركة التحديثية في أواسط القرن التاسع عشر. والحقيقة أن الأستاذ راشد الغنوشي ما فتئ يحاول أن يطمئن التونسيين في هذا الخصوص مكرّرا كلاما عاما حول احترام حركته لجملة من المكاسب وخاصة مجلة الأحوال الشخصية.. ولكن أمام إلحاح محاوره الاعلامي جمال العرفاوي اضطرّ الى الدخول في التفاصيل كاشفا عن «عش من الشياطين» الكامنة خلف تلك التفاصيل.. فقد عرف ما تضمّنته مجلة الأحوال الشخصية بأنه اجتهاد مقبول من جملة الاجتهادات الاسلامية الممكنة. وهنا تكمن كل الخطورة لأن هذا التعريف يبقي الباب مفتوحا أمام امكانية الأخذ بالاجتهادات الأخرى.. بينما المفروض أن مضمون هذه المجلة يمثل اختيارا نهائيا للشعب التونسي ولا يقبل إلاّ التطوير في نفس الاتجاه وبنفس الروح ولا مجال لأي ارتداد. وفي مجال آخر لا يقل أهمية حاول الأستاذ الغنوشي جاهدا طمأنتنا بأن حركته لا تحتكر الاسلام باعتباره دين الجميع، ولكنه عندما اضطر الى التدقيق كشف عن الحقيقة الشمولية الثابتة لدى جميع حركات الاسلام السياسي: المعتدل منها والمتطرف وذلك بتأكيد أن السياسة لا تنفصل أبدا عن الاسلام الذي هو بالضرورة سياسي وشمولي لكل مناحي الحياة حسب قوله. وهو ما يفتح الباب واسعا أمام المطالبة بتطبيق الشريعة عندما تحين الفرصة على غرار بعض بلدان الخليج والسودان والمحاكم الاسلامية في الصومال.. ولا نعتقد أن شبابنا الذي ضحى بدمائه إنما فعل ذلك طلبا للجلد في الساحات العامة وقطع الأيدي والأرجل من خلاف!! قد يقول البعض إن هذا من باب سوء الظن والأولى أن نتوسم الخير في الجماعة حتى يبدو منهم ما يؤكد هذا التخوف وهو ما أودّه فعلا، ولكن أجدادنا قالوا عن حق: «اقرأ «يس وامسك حجرة في يدك».. وهو ما يحتم علينا أن نسوق بعض المقترحات التي نضعها بإلحاح بين يدي لجنة الاصلاحات السياسية برئاسة الأستاذ عياض بن عاشور حتى لا يكون هنالك اقصاء ولا تهديد للمكاسب الوطنية وتنظيم شراكتنا جميعا في الوطن على أساس عقد اجتماعي سياسي لا يقبل التراجع. والحقيقة أن كلام الأستاذ عياض بن عاشور في نفس القناة التلفزية وقبيل دقائق من كلام الأستاذ راشد الغنوشي. لم يطمئني تماما أيضا لأنه بدا جليّا وكأنه خاضع للضغوط الاعلامية التي بدأ البعض فعلا يمارسها عليه.. فأخذ يؤكد لهم أن اللجنة لن تفعل كذا ولن تغير كذا.. وبدا وكأنه محرج كثيرا من وصفه بصفة اللائكية.. وكنا ننتظر فعلا ممّن يتصدى للمسؤولية العظيمة والخطيرة التي كلف بها الأستاذ عياض بن عاشور أن يكون فعليا لائكيا وأن يكون متحمّلا باقتناع للائكية لأن المطلوب منه هو بالتحديد اقتراح قوانين وضعية لا أحكاما فقهية على مقتضى هذا الاجتهاد أو ذاك في الشريعة الاسلامية. وممّا زادني تخوّفا ذاك الجواب الانشائي الفضفاض الذي ردّ به على سؤال محاوره حول الآليات الضامنة لعدم اقدام بعض الأطراف السياسية في حالة فوزها بالأغلبية الانتخابية على التراجع في بعض المكاسب الحيوية كالديمقراطية ومجلة الأحوال الشخصية وغيرها. والحقيقة أنني كنت أنتظر من الأستاذ عياض بن عاشور التأكيد على ضرورة التنصيص في الدستور على أن هذه المكاسب تعتبر اختيارا نهائيا للشعب التونسي غير قابل للتنقيح لا بالأغلبية ولا بالاستفتاء. كما كنت أنتظر أن يتم التأكيد بكل وضوح ومن خلال بنود دستورية سيتم اقتراحها على أن حقّ الممارسة السياسية مرتبط عضويا بمدى الالتزام بواجب احترام الدستور في ما يخصّ هذه المكاسب أساسا. وفي الختام لا أستطيع إلاّ أن أستغرب من احتكار عضوية هذه اللجنة من قبل أساتذة القانون خصوصا، ولعلّ ذلك يعكس نظرة تقنية خالصة لمفهوم الدستور لدى الأستاذ عياض بن عاشور، وإذا كان الأمر كذلك فإنه يبعث على المزيد من التخوف لأن الدستور وإن كان يحتاج الى التقنيات القانونية في صياغته فإنه يحتاج الى الفكر الحضاري والفلسفي في روحه، وهو ما كان يحتم وجود مختصين في علم الحضارة والتاريخ والفلسفة على الخصوص في عضوية هذه اللجنة.. والأمل كل الأمل أن يتدارك الأستاذ ابن عاشور هذا الأمر في القريب العاجل وعندها قد نرى ضمنها أسماء مثل الأساتذة زينب الشارني وعبد المجيد الشرفي والهادي التيمومي وغيرهم.. بقلم: د. مصطفى التواتي (أستاذ الحضارة العربية والاسلامية بكلية الآداب بمنوبة)