ليبيا ضمن أخطر دول العالم لسنة 2024    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    جماهير الترجي : فرحتنا لن تكتمل إلاّ بهزم الأهلي ورفع اللقب    كلوب يعلق على المشادة الكلامية مع محمد صلاح    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية للمنتجات الغذائية    زيادة ب 4.5 ٪ في إيرادات الخطوط التونسية    وزارة السياحة أعطت إشارة انطلاق اعداد دراسة استراتيجية لتأهيل المحطة السياحية المندمجة بمرسى القنطاوي -بلحسين-    وزير الخارجية يواصل سلسلة لقاءاته مع مسؤولين بالكامرون    عمار يدعو في ختام اشغال اللجنة المشتركة التونسية الكاميرونية الى اهمية متابعة مخرجات هذه الدورة وتفعيل القرارات المنبثقة عنها    رئيس البرلمان يحذّر من مخاطر الاستعمال المفرط وغير السليم للذكاء الاصطناعي    الرابطة 2: نتائج الدفعة الأولى من مباريات الجولة 20    الترجي الرياضي يفوز على الزمالك المصري. 30-25 ويتوج باللقب القاري للمرة الرابعة    بطولة مدريد للماسترز: أنس جابر تتأهل الى الدور ثمن النهائي    سجنان: للمطالبة بتسوية وضعية النواب خارج الاتفاقية ... نقابة الأساسي تحتجّ وتهدّد بمقاطعة الامتحانات والعمل    إمضاء اتفاقية توأمة في مجال التراث بين تونس وإيطاليا    وزير الثقافة الإيطالي: "نريد بناء علاقات مثمرة مع تونس في مجال الثقافة والتراث    توزر: الندوة الفكرية آليات حماية التراث من خلال النصوص والمواثيق الدولية تخلص الى وجود فراغ تشريعي وضرورة مراجعة مجلة حماية التراث    تعاون مشترك مع بريطانيا    دعوة الى تظاهرات تساند الشعب الفلسطيني    هيئة الأرصاد: هذه المنطقة مهدّدة ب ''صيف حارق''    سوسة: القبض على 5 أشخاص يشتبه في ارتكابهم جريمة قتل    تامر حسني يعتذر من فنانة    بن عروس: حجز 214 كلغ من اللحوم الحمراء غير مطابقة لشروط النقل والحفظ والسلامة الصحية    الرابطة الثانية : نتائج الدفعة الأولى لمباريات الجولة السابعة إياب    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    اعتماد خطة عمل مشتركة تونسية بريطانية في مجال التعليم العالي    رئيس الجمهورية يستقبل وزير الثقافة الإيطالي    رئيس الاتحاد المحلي للفلاحة ببوعرقوب يوجه نداء عاجل بسبب الحشرة القرمزية..    الإتحاد العام لطلبة تونس يدعو مناضليه إلى تنظيم تظاهرات تضامنا مع الشعب الفلسطيني    خط تمويل ب10 مليون دينار من البنك التونسي للتضامن لديوان الأعلاف    صادم/ العثور على جثة كهل متحللة باحدى الضيعات الفلاحية..وهذه التفاصيل..    القطب المالي ينظر في اكبر ملف تحيل على البنوك وهذه التفاصيل ..    سيدي حسين : قدم له يد المساعدة فاستل سكينا وسلبه !!    عاجل/ خبير تركي يُحذّر من زلازل مدمّرة في إسطنبول..    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    البطولة الوطنية: النقل التلفزي لمباريات الجولتين الخامسة و السادسة من مرحلة التتويج على قناة الكأس القطرية    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    طقس السبت: ضباب محلي ودواوير رملية بهذه المناطق    هوغربيتس يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة.. ويكشف عن مكانه    كيف نتعامل مع الضغوطات النفسية التي تظهر في فترة الامتحانات؟    ابتكرتها د. إيمان التركي المهري .. تقنية تونسية جديدة لعلاج الذقن المزدوجة    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    وزير الفلاحة: "القطيع متاعنا تعب" [فيديو]    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    منوبة: تفكيك شبكة دعارة والإحتفاظ ب5 فتيات    قفصة: ضبط الاستعدادات لحماية المحاصيل الزراعية من الحرائق خلال الصّيف    تونس : أنس جابر تتعرّف على منافستها في الدّور السادس عشر لبطولة مدريد للتنس    مقتل 13 شخصا وإصابة 354 آخرين في حوادث مختلفة خلال ال 24 ساعة الأخيرة    عميرة يؤكّد تواصل نقص الأدوية في الصيدليات    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    انطلاق أشغال بعثة اقتصادية تقودها كونكت في معرض "اكسبو نواكشوط للبناء والأشغال العامة"    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملفات «الشروق»: هل اللاّئكية ممكنة في تونس؟: هل هي طريق الى الديمقراطية... أم تهميش للدين ؟
نشر في الشروق يوم 16 - 03 - 2011


٭ ملف من إعداد: اسماعيل الجربي
في خضمّ الحراك الكبير الذي تعيشه بلادنا اليوم بفضل ما أتاحته الثورة الشعبية ( 14 من جانفي) من مناخ حرّ، ظهرت حركات تنادي ب «اللائكية» وبتكريسها مبدأ ومنهجا لبلوغ الهدف الذي ناضلت من أجله الأجيال والمتمثل في بناء مجتمع ديمقراطي مستنير يسوده العدل والمساواة.
وما من شكّ في أن ظهور هذه الحركات المنتصرة للائكية جاء كردّة فعل على العودة القوية للتنظيمات المنضوية تحت لواء الاسلام السياسي مثل حزب حركة النهضة التي يرأسها راشد الغنوشي أو غيرها من التنظيمات التي أصبحت تراهن بجدية على دور فاعل في الحياة السياسية الوطنية مستقبلا والتي تتهيأ لانتخابات 24 جويلية المقبل كموعد فارق في تاريخ تونس الجديدة.
الواضح إذن ان الاسلام السياسي يثير مخاوف كبيرة لدى التونسيين لاسيما المثقفين منهم الذين يخشون ان يقع التفريط في المكاسب الحضارية التي حصلت عليها بلادنا في مجالات التعليم والمرأة والتعامل الهادئ مع الشأن الديني. وأخشى ما يخشاه التونسيون هو ان تصبح بلادنا شبيهة ببعض دول الخليج العربي او مثل إيران او السودان يكون الأمر والنهي فيها لرجل الدين. من هذا المنطلق جاءت المناداة باللائكية للفصل بين الدين والدولة وتخليص السياسة من الدين والدين من السياسة وهو المبدأ الذي سارت عليه بلدان عديدة في العالم لعل أشهرها وأقربها منّا فرنسا التي أقرّت اللائكية منذ سنة 1905 وتركيا سنة 1919.
واللائكية التي لاقت في البداية اعتراضا شديدا وصل أحيانا الى التصادم في البلدين المذكورين ليست ضد الدين بل هي ضد الاستعمال السياسي للدين انطلاقا مما جاء في التوراة «اعطوا لقيصر ما لقيصر وللربّ ما للربّ» واللائكية تعطي مكانة للدين وتضمن حرية المعتقد والممارسة الحرة للطقوس الدينية وهو ما يمكن ملاحظته في المجتمع الفرنسي المعروف بأسبقيته في التجربة اللائكية وتعلقه الشديد بهذا الخيار مبدأ دستوريا لا حياد عنه لكن المجتمعات الغربية الأخرى لا تنقص تشبّثا بحق ضمان حرية المعتقد لكل مواطنيها لكن دون الاعتراف بالدين أيا كان هذا الدين كسلطة تعلو فوق قانون البلاد.
اما في مجتمعاتنا العربية الاسلامية فإنه رغم ثبوت حديث للرسول الأكرم يرادف ما جاء في التوراة وهو «أنتم أدرى بشؤون دنياكم» الذي يستدل به العالم علي عبد الرازق في كتابه الشهير «الاسلام وأصول الحكم» للتأكيد على ضرورة الفصل بين الشأن والدين والخيار السياسي كسبيل للخروج من التخلّف السياسي واللحاق بالأمم المتقدمة، رغم ذلك وقع الاعتراض على اللائكية والإستراب منها بل واتهامها بمحاولة إبعاد الناس عن دينهم لذلك وقع ترجمتها «باللاّدينية» ثم ب«العلمانية» لتعميق نفور العامة منها.
ولكن هل تمثّل اللائكية فعلا خطرا على الدين أيا كان هذا الدين ؟ أم هي مجرد حيلة سياسية ابتدعها رجال الدين ثم لجأ الى استعمالها السياسيون الذين يجدون في الدين أرضية صلبة لانتشارهم؟ ألم يجد الكثيرون من هؤلاء الساسة من حركة النهضة وغيرها الملجأ الآمن في بلدان لائكية؟
وحتى لا نخطئ التقدير فإن تكريس اللائكية ليس بالأمر الهيّن لأن ذلك يحتاج الى توفّر ثلاثة معطيات متضافرة، أولها وجود أدبيات مرجعية تدعم الخيار اللائكي مثل الانتاجات الفكرية والأطروحات الفلسفية وثانيها بروز عقلية لائكية، وثالثها سنّ القوانين اللائكية التي يتعهد باحترامها المواطن، وتوفّر هذه المعطيات يحتاج لوقت ولجهد لاسيما في مجتمعاتنا الاسلامية التي لم تشرع بعد في إنتاج فكري يقطع مع التقديس المفرط لمرجعياتنا الدينية ويضعنا نهائيا في مدار الحداثة.
هل اللائكية ممكنة في تونس وهل توفّرت لها كل الشروط حتي يقع نقشها على رخام الدستور المقبل؟
أم هل هي حلم بعيد المنال يمنعه فقرنا الفكري والفلسفي وتدعمه حسابات السياسيين ممن اختاروا الاعتماد على المرجعية الدينية للوصول الى الحكم؟
للإجابة عن هذه الأسئلة وعلى غيرها فتحت «الشروق» هذا الملف مع عدد من الأساتذة والحقوقيين والجامعيين.
الباحثة ألفة يوسف: الإسلام رسالة لا حُكم... ودين لا دولة
تقول الباحثة ألفة يوسف التي عُرفتْ بمقاربتها النقدية للفكر الإسلامي وتحليل التصورات عن الدين والنصوص المقدسة إنّ المشكل مع كلمة اللائكيّة هو المصطلح المعتمد. فمن أبجديّات المنهج ضرورة تحديد المفاهيم ومفهوم اللائكيّة بهذا المصطلح المعتمد أو بمصطلح العلمانيّة مصطلح مقلق من منظورين: المنظور الأوّل أنّ المصطلحين ليسا من التراث العربي الإسلاميّ فلا وجود في أمّهات الكتب لكليهما بما يعني أنّهما مصطلحان مستوردان مفتقران إلى الانغراس في التربة الحضارية. أمّا المنظور الثّاني فهو ضبابيّة المفهومين واتّصالهما بالكفر أو اللاتديّن. ونعتقد جازمين أنّ لاستعمالات بعض الفضائيّات لهذين المفهومين بهذه المعاني دورا كبيرا في جعل اللائكية مرادفة للكفر أو اللاتديّن. ولا نظنّ أنّ هذا الاستعمال الخاطئ عفويّ بل نتصوّره مقصودا لتشويه مفهوم اللائيكيّة.
وإذا كانت اللائكية في معناها الأبسط فصلا للدّين عن الدّولة فيمكن لي أن أتساءل عن الفرق بينها وبين ما يدعو إليه القرآن من احترام عقيدة البشر واعتبار كلّ واحد حرّا في دينه واقتناعاته العقديّة:
{وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ}. بل أكثر من ذلك إنّ القرآن يؤكّد أنّ اختلاف العقيدة بين البشر ممّا أراده الله تعالى في الكون: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين}. والموقف من هذا الاختلاف هو بالضّرورة القبول والرّضا لإرادة الله هذه.
وإنّنا إذا اتّفقنا في هذه المسألة فإنّ الخلاف بين ما يسمّى لائيكيّين وإسلاميّين قد يتعدّى ذلك ليتّصل بالتّشريع المعتمد في الدّولة. وإنّنا من موقعنا نؤكّد أنّ التشريعات مهما تكن إنّما هي في آخر الأمر قراءات بشريّة سواء استندت إلى العقل والمنطق أواستندت إلى النصوص الدّينيّة مهما تكن. إنّ الثعالبي في كتابه روح التحرر في القرآن يؤكّد أنّ جوهر الأخلاق والدّين واحد.
والمهمّ أن نتّفق أنّنا في مجال التشريع الذي يصوغه بشر نظلّ دائما في مجال النسبيّة أي في مجال المسائل الدّنيويّة الّتي نختلف فيها وتتعدّد حولها الآراء والمواقف. إنّ الدّين بصفته علاقة خاصّة بين الإنسان وربّه أمر فرديّ لا يمكن لأيّ كان أن يتدخّل فيه ولا سيّما إذا كان الآخر الدّولة التي من المفروض أن تحقّق لجميع أفرادها إمكان ممارسة شعائرهم أوطقوسهم في أمان وحرّية.
أمّا الدّين من حيث يراه البعض وجها من وجوه تنظيم الحياة بين البشر فإنّه يفترض المستحيل أي إمكان نفاذ الدّولة إلى هذه العلاقة الخاصة الفريدة بين الإنسان وربّه، فإذا افترضنا جدلا إمكان ذلك نجد أنفسنا إزاء قراءات بشريّة مصلحيّة سياسيّة تتّخذ الدّين مطيّة ومآرب لسيطرة بعض النّاس على البعض الآخر بحجّة السّعي إلى تطبيق الشّريعة. وإنّي من موقعي داخل المنظومة الإسلاميّة أربأ بالدّين عن أن يتدخّل في الشّؤون السّياسيّة الدّنيويّة التي تظلّ سياقيّة نسبيّة وعرضة للخلافات والمصلحيّة وأعدّ جوهر الإسلام قائما على الحرّية المسؤولة في الحياة الدّنيا لا على ادّعاء امتلاك الحقيقة وفرضها على الآخرين باسم الدّولة. إنّنا نضمّ صوتنا إلى صوت علي عبد الرازق صاحب كتاب «الإسلام وأصول الحكم» مؤكّدين أنّ الإسلام رسالة لا حكم ودين لا دولة.
الاستاذ صالح الزغيدي (كاتب عام الجمعية التونسية للدفاع عن اللائكية): نريد أن يعيش شعبنا في دولة مواطنين لا في دولة مؤمنين (!!)
«العلمانية أواللائكية، قلها كما تشاء، فالمهم ليس المصطلح، ولوأن المصطلحات، أنتم في تونس، بلد مسلم ولستم في السويد أو بداية كل حديث.. لكن لا مانع يقولون لنا نحن معشر اللائكيين في النرويج، وكأن هذين البلدين لا دين لهما» هكذا يبدأ الاستاذ صالح الزغيدي كاتب عام الجمعية التونسية للدفاع عن اللائكية حديثه .
ويواصل قائلا: «يعود بي كل هذا إلى 30 سنة مضت، عندما بدأنا نضالنا في هذه البلاد وطالبنا بالديمقراطية وبحقوق الإنسان في بلد غابت عنه هذه المصطلحات وبدا علينا وكأننا نريد فرضها على بلد غريب عنها حتى اتهمنا من طرف سلطة ذاك الزمن بالدفاع عن « أفكار وايديولوجيا مستوردة»...، واليوم أصبح الجميع يؤمن، أوقل على الأقل، يتحدث عن الديمقراطية، بل أن أكثر من يتحدث عن الديمقراطية في السنوات الأخيرة زين العابدين بن علي رمز مشروع الاستبداد الأرضي وراشد الغنوشي رمز مشروع الاستبداد الديني ، ولله في خلقه شؤون.. .بكل بساطة، أقول لمن يقيمون الأرض كل يوم ولا يقعدونها على اللائكية، أنه مطلوب منهم أن يبدؤوا بشيء بسيط جدا، وهو النظر إلى خارطة العالم بشيء من الاهتمام، وسيرون أنه، وباستثناء مجموعة البلدان العربية الإسلامية (ما عدا تركيا)، فان كل بلاد العالم تقريبا، تعيش تحت أنظمة لائكية أوعلمانية، يعني أنها تفصل الدولة عن الدين، أي أن تشاريعها وقوانينها ليست تشاريع وقوانين دينية، بل تنتمي إلى ما يسمى بالقانون الوضعي.. تلك هي، وبكل بساطة، اللائكية التي ندافع عنها ونقول إن بلادنا تستحقها مثل ما تستحقها هذه العشرات من البلدان المنتمية الى مناطق مختلفة ولأديان وحضارات مختلفة.. عندما نقول هذا، تنطلق التهمة كالرصاصة . أنتم معادون للدين.. والحقيقة عكس ذلك تماما .ليس هناك إطلاقا نظرية تؤمن بحرية المعتقد مثل ما يؤمن بها ويضمنها الفكر اللائكي، وليس هناك أكثر مدافعين عن حق التدين والقيام بالشرائع الدينية من اللائكيين.. وليس هذا من باب الكلام المعسول أو الدعاية الفارغة.
حرية المعتقد تمثل إحدى الحريات الأساسية
تجربة تونس في السنوات الأخيرة أبرزت بما لا يدع مجالا للشك أنه إذا استثنينا مجموعتي «الإنصاف والحرية» و«جمعية الدفاع عن المساجين السياسيين»( وهما مجموعتان تابعتان لحركة النهضة بالأساس) اللتان تولتا الدفاع عن المواطنين والمواطنات الذين وقع التسلط عليهم من طرف الإدارة أو البوليس من أجل ترددهم على المساجد أو قيامهم بشرائعهم الدينية، فإن قيادات رابطة حقوق الإنسان، وأغلبيتهم لائكيون، هم الذين تكفلوا بهذه المهمة على مستوى وطني وعلى مستوى جهوي لأن اللائكيين، على عكس الإسلاميين، يعتبرون أن حرية المعتقد تمثل إحدى الحريات الأساسية لكل إنسان..
وانظروا الى العالم حولكم فسترون أين تخرق حرية المعتقد.. في البلدان التي يحكمها نظام لائكي أم في البلدان التي يحكمها نظام ديني.. نحن اللائكيين، همنا الوحيد هو ضمان التعايش المشترك بين جميع المواطنين والمواطنات على اختلاف مشاربهم ومعتقداتهم الدينية والعقائدية في ظل نظام حداثي يتطابق مع العصر ومع التقدم الذي أصبح غير قابل للتراجع.. نريد أن نعيش في ظل دولة لسنا رعايا فيها، لا رعايا لسلطان يستبد علينا باسم الكرسي ولا رعايا لسلطان يحكمنا ويستبد علينا باسم السماء.. نريد أن يعيش شعبنا في دولة مواطنين لا في دولة مؤمنين بالله ورسوله.. نريد أن يكون الإيمان بالله من عدمه أمرا لا يخص إلا صاحبه ولا أحد يمتلك أو يمنح لنفسه الحق في محاسبته.. نريد أن لا يختلط الدين بالسياسة، لأن الدين يفضي على نفسه طابعا قدسيا والسياسة أبعد شيء عن القداسة، الدين إيمان والسياسة رأي.. يقول الدكتور رفعت الأسد: «إذا تحول الرأي إلى دين، فتلك كارثة، وإذا تحول الدين إلى رأي، فتلك كارثة ثانية».. فأن يتحول الدين إلى حزب سياسي، يعني ذلك أن الدين يصبح موضوع جدل وصراع بين الفرقاء على الساحة السياسية، ويتحول الفضاء السياسي الى حلبة دينية تتصارع فيها المذاهب والتأويلات والتفسيرات والمقاربات الفقهية، في حين أن السياسة لا تحتمل ذلك، لأنها مجموعة من الأفكار والتصورات الدنيوية المختلفة والمتنوعة والمتناقضة والمتغيرة باستمرار.
المساواة بين الرجال والنساء أمر لا مفر
اللائكية تعني أننا نتدبر أمرنا في مجتمعنا وفي زماننا حسب ما يمكن أن يجمع بيننا من مصالح ومستحقات مشتركة لمدة معينة من الزمن تتغير وتتطور فنعيد الكرة وننظر من جديد في أمورنا حسب الظروف الجديدة، وما كان صحيحا وصالحا بالأمس القريب يصبح لاغيا اليوم....تلك هي السياسة، لا استقرار لها ولا ديمومة لها ولا غراما واحدا من القداسة لها.. عندما نقول اليوم في تونس أن المساواة بين الرجال والنساء أمر لا مفر منه، فذلك لأن مجتمعنا شهد تطورات ضخمة في مستوى تموقع المرأة وتقدمها وما حققته من مكاسب وما أصبحت عليها طموحات النساء وتطلعاتها....نقول بالمساواة الكاملة بين الجنسين ونطالب من أجل ذلك بتحوير نظام الإرث الذي لا يزال غير متساو، حتى تتحقق المساواة الكاملة في الإرث بين الذكر والأنثى.. ذلك نقول بضرورة إلغاء منشور 1973 الذي يمنع على التونسية المسلمة الزواج بالرجل الذي تحب وترغب في بناء حياة زوجية معه في ظل حبهما المشترك، بتعلة أنه مسيحي مثلا أوغير مسلم بصفة عامة.. .هذا المنشور الفضيحة الذي كنا نتمنى من وزير العدل الذي أصدره في ذلك التاريخ، أن يكون اليوم من المبادرين بالمطالبة بإلغائه.
دفاعنا عن اللائكية اليوم يكتسي أهمية بالغة، لأنه وبقطع النظر عن تحوير وتطوير تشريعاتنا لتطهيرها مما علق بها، وهو غير قليل، من رواسب الماضوية والظلامية، فان بلادنا تمر بفترة عصيبة مليئة بالمخاطر، بعد الانتفاضة الشعبية التي مكنت شعبنا من الخلاص من رمز بارز لنظام الاستبداد، وهي تطرح على نفسها وبكل إلحاح، التحول من نظام استبدادي الى نظام ديمقراطي....والجميع واع بالمخاطر التي تهدد البلاد، ولعل من أهمها خطر الانزلاق من نظام استبداد مدني إلى نظام استبداد ديني وهولعمري بئس المصير.
الجمعية التونسية للدفاع عن اللائكية: لماذا ارتبط مفهوم اللائكية بالإلحاد ؟

يُنظر في المجتمعات الإسلامية إلى العلمانية على أنها جزء من التيار الإلحادي بمفهومه العام. وهو ما أشار إليه بيان تكوين الجمعية التونسية للدفاع عن اللائكية التي تأسست في نوفمبر 2007 والذي جاء فيه: «..وبقطع النظر عما يمكن أن تثيره مبادرتنا من جدل بين مساندين ومعارضين وحتى من ردود فعل أوساط سارعت إلى الخلط بين اللائكية والإلحاد، فإننا اعتبرنا أن تأسيس جمعية فكرية ثقافية للتعريف بالمبادئ والمنهجيات والقيم اللائكية بمشاركة بارزة لعدد من الوجوه الجامعية المعروفة بإنتاجها الأكاديمي والمعرفي عموما في تونس وخارجها، وكذلك لثلة من رجال ونساء القانون، ليس فقط حق أساسي من حقوق المواطن الذي يطمح بصفة طبيعية للمشاركة في الحياة العامة، بل يشكل أيضا خدمة معرفية ووطنية لصالح البلاد ومستقبلها»
والعَلْمانِيَّة بفتح العين مشتقة من الكلمة عَلْم، وهي مرادفة لكلمة عالَم. قارن الانقليزية Laicism والفرنسية Laïcisme وهما مشتقتان من الكلمة اليونانية: لاوُس/ «شعب»، «رعاع» أي عكس «الكهنة» وهم النخبة في الماضي. من ثم صارت الكلمة تدل على القضايا الشعبية «الدنيوية»، بعكس الكهنوتية «الدينية».
وجاء في الموسوعة الحرة ويكيبيديا أنّ الكلمة العربية هي ترجمة مستعارة من السريانية لأن السريان اشتقوها أولا في لغتهم ترجمة مستعارة عن اليونانية أيضاً. عَلْما/ «العالم، الدهر، الدنيا»، فالعلماني في السريانية هو«الدنيوي، الدهري»، ولا علاقة لهذا المعنى بالعِلم (بكسر العين).
وفي تعريف آخر للعلمانية: هي رفض أية سلطات تشريعية أو تنفيذية في الدين تتدخل بحياة الفرد. فالدين في العلمانية ينتهي عندما يخرج الفرد من المسجد أومن الكنيسة. مثال للتوضيح: لوحكم على شخص بالإعدام على أساس ديني فهذا الحكم مرفوض في النظرة العلمانية. فيجب أن يكون الحكم مبني على قانون قضائي وطني تضعه حكومة الدولة ولا يتدخل رئيس الدولة فيه لأنه يجب أن يكون القضاء مفصولاً عن الحكم.
وفى تعريف أخر للعلمانية هو استخدام أساليب المنهج العلمي البحثى التجريبي القائم على العقل العلمي في إدارة جميع شؤون الحياة بعيدا عن أي معتقدات دينية لاهوتية بأي شكل من الأشكال حيث أن المعتقدات الدينية بطبيعتها تقسم البشر لأصناف بين أتباع مؤمنين ومخالفين غير مؤمنين.
فالعلمانية لا تنهى عن اتباع دين معين أو ملّة معينة، بل تنادي فقط بأن يتم فصل الدين عن السياسة والدولة، وبأن تكون الأديان هي معتنق شخصي بين الإنسان وربه.
هناك من يقول بأن «أبو العلمانية هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد أو باختصار «ابن رشد». في الوقت ذاته يدافع آخرون عن ابن رشد ويتهمون الغرب بفهمهم الخاطئ له، فقد كان فقيهاً وقاضياً يحكم بالشريعة الإسلامية»
أحمد الغربي (باحث في علوم الدين): لا تفتحوا آذانكم للذين يخوّفونكم من الإسلام والذين لهم أجندات سياسية
يذكر الأستاذ الشيخ أحمد الغربي الباحث في علوم الدين أن ثورة 14 جانفي التي أنجزها التونسيون قد زلزلت المجتمع التونسي وهزّت أركانه هزّا فكانت لها ارتدادات كبيرة داخل البلاد وخارجها.
ويضيف قائلا: «من أبرز مظاهر هذه الهزة الحراك الكبير الذي ميّز المشهد التونسي من كل واجهاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية بعد أن كان مشهدا جامدا وميتا أكثر من نصف قرن.
فالمتتبع لما يحدث في تونس اليوم يلاحظ لوحة فسيفسائية متنوعة ذات ألوان متعددة من المطالب الشعبية , وشارع الحبيب بورقيبة بالعاصمة أصبح نبض الجماهير الشعبية من خلال تلك المسيرات والمظاهرات التي تجوبه طولا وعرضا رافعة للافتات ومرددة لجملة من الشعارات .
ومما لفت انتباه كثير من الناس مسيرة من الشباب ينادون بتطبيق اللائيكية والعلمانية على الدولة التونسية بدعوى حماية الإسلام الذي هو الدين الرسمي للبلاد من الابتذال وركوبه لخدمة أغراض سياسية خسيسة أوإحداث الفتنة بين الناس.
إن هذا الطرح يفرض جملة من التساؤلات منها: هل نحن محتاجون حقا في تونس للعلمانية؟ وهل بالعلمانية نحقق الكرامة والحرية كما ورد بإحدى الشعارات؟ وهل أن العلمانية ضرورة لا محيد عنها للتقدم والازدهار ورقي المجتمع ؟
فالعلمانية التي تعني فصل الدين عن الدولة وكلمة علمانية هي ترجمة غير صحيحة للكلمة اللاتينية (securalisme) وترجمتها الصحيحة هي اللادينية, فقد ورد في دائرة المعارف البريطانية التعريف التالي (هي حركة اجتماعية تهدف إلى صرف الناس وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها).
وقد نشأت العلمانية في أوربا بسبب عبث الكنيسة بدين الله المنزّل وتحريفه وتشويهه وتقديمه للناس بصورة مشوهة ومنفرة ممّا جعل الكنيسة تصبح أكبر معوّق للتقدم في الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية للمجتمعات الأوروبية ممّا جعل أوروبا تنبذ الدين وتقبل على العلمانية وتعتبرها المخلّص الوحيد لها من سطوة رجال الدين والكنيسة وسبيلا للانطلاق نحو التقدم والرقي.
أما مصطلح اللائيكية في مفهومه لا يختلف كثيرا عن مصطلح العلمانية وهي نظام سياسي لإدارة البلاد ليس لرجال الدين أي دور.. أي ينبغي على الدين ألاّ يتدخل في السياسة وقد نشأ هذا المفهوم في بلاد الغرب وبالخصوص في أوروبا نتيجة تصرفات الكنيسة المنحرفة حيث كانت الكنيسة أكبر سند للنظام الإقطاعي الظالم الذي ساد في القرون الوسطى وكذلك بسبب ممارسة الكنيسة للاستبداد الديني الشديد الناتج عن الفهم الخاطئ والمتعسف لتعاليم المسيحية وبذلك عانت هذه الأخيرة من نظرة مشتتة حيث اعتبرت الدين والدولة قطبين متناقضين لا يلتقيان أي بمعنى آخر أن على كل من أراد الآخرة التخلي عن الدنيا وبذلك رفعت المسيحية شعار (أعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله).
ما ينطبق على المسيحية لا ينطبق على الإسلام
إن ما ينطبق على المسيحية وعلى قساوستها لا ينطبق على الإسلام الذي جاءت تعاليمه ثورية تحثّ على الحرية (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا) وعلى العدل والمساواة {إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}(النحل/90) ومقاومة الظلم والاستبداد {وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} (هود/130)وتنظيم حياة المسلمين على أسس من التعاون {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}(المائدة/2) ونشر المحبة والإخاء والخير:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ}(الحجرات/10), واحترام الآخر في معتقداته{لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ}(البقرة/256) إلى غير ذلك من القيم النبيلة والمبادئ العظيمة ذات البعد الإنساني والكوني، ثمّ إن من السذاجة وقصر النظر لدى بعض المثقفين ذوي الأحكام المسبقة أن يدّعوا أن سبب تخلّف العرب والمسلمين عامة مرّده تشبثهم بدينهم طيلة قرون من الزمان وهذا ما روّج له المستعمرون من أجل إضعاف المسلمين واحتلال بلدانهم وفي هذا المعنى يقول المستشرق (هانوتو) مستشار وزارة الاستعمار الفرنسية آنذاك( إنّ الإسلام دين وسياسة وأن شعور المسلمين مبهم من حيث الجامعة السياسية والرابطة الوطنية فالوطن عندهم هو الإسلام) ثمّ يشير (هانوتو) إلى نجاح فرنسا في فصل السلطة الدينية عن السلطة السياسية في تونس فيقول:(إنها قد استطاعت أن تحقق هذا الانقلاب العظيم بلباقة وحذق دون أن يثير ضجيجا وتذمرا فتوطدت دعائم السلطة المدنية بدون أن يتأثر منها إيمان المسلم وبذلك انفصل الحبل بين البلد والبلاد الإسلامية الأخرى الشديدة الاتصال بعضها بعضا).
التضحية بالإسلام
إن دخول العلمانية إلى بعض المجتمعات الإسلامية أفضى إلى التضحية بالإسلام وإخراجه من جلّ ميادين الحياة وحصره فقط داخل المساجد وجعله أمرا فرديا ويتجلّى ذلك من خلال:
إتباع منهج تربوي مقطوع كليا وجزئيا عن الإسلام وتفريغه من كل المبادئ الإسلامية الكونية
تغييب متعمد للإسلام عقيدة وتشريعا وحضارة عن وسائل الإعلام بكل أنواعها المرئية منها والمسموعة وحتى المكتوبة والاكتفاء بعرضه عرضا لاهوتيا وفلكلوريا في مناسبات معينة
فلو كان الإسلام حجر عثرة وعقبة أمام التحرّر والتطور حسب ما يدعيه خصومه فمن الذي دخل وما يزال في صراع مع قوى الظلم والبغي والاستبداد!؟ من الذي نقل الإنسان المسحوق من عبادة العباد إلى عبادة ربّ العباد!؟ من الذي راهن على العلم والمعرفة وأمر بالقراءة ونقل نتاج الحضارات الأخرى إلى العربية وزاد عليها الكثير!؟ من الذي ألّف ملايين المخطوطات والكتب في شتى أنواع العلوم والمعارف!؟ أليس المسلمون هم الذين بنوا هذه الحضارة الشامخة التي امتدت إلى أكثر من خمسة قرون في الأندلس انطلاقا من تعاليم الإسلام السمحة الداعية إلى الرقي والتقدم والأخذ بأسباب القوة والمناعة!؟.
خوف في غير محلّه
إن ما عبّر عنه بعضهم من دعوة إلى جعل تونس دولة لائيكية علمانية بدعوى الخوف من استغلال الدين لزرع الفتنة والطائفية والكراهية بين أصحاب الديانات الأخرى وللحدّ من الحريات الفردية للناس هوحسب رأيي خوف في غير محلّه وذلك للاعتبارات الآتية:
تركيبة الشعب التونسي خالية من الأعراق والأجناس والطوائف.
الديانة السائدة والغالبة للتونسيين هي الإسلام (99%).
عرف التونسيون منذ قديم الزمان بالاعتدال والتسامح مع غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى ورفضهم التطرف بكل أشكاله وألوانه
التعايش السلمي الذي عرفته تونس بين الديانات الثلاث (الإسلام والمسيحية واليهودية) منذ آلاف السنين.
صحيح أنه من الصعب إجراء أحكام الإسلام كلها في بيئة غير مهيأة تماما لذلك لعدة اعتبارات تاريخية وسياسية واجتماعية لكن يمكن أن نستعين بروح الإسلام وأفكاره وطروحاته وهي الكفيلة بأن تكون لنا بمثابة البوصلة التي تهدينا سواء السبيل في أي مكان أوزمان كنّا فيه وكذلك تسليمنا بأن روح الإسلام هي التي ينبغي أن تكون الهادي للسلوك لن يدع مجالا لاتهام الإسلام بمنافاة مقتضيات العصر وتطوراته, وكذلك سيؤدي إلى الحدّ من المتخلين من أبنائنا المثقفين عن الإسلام بأسره بدعوى أن الديانات والتقاليد إنما هي للمتاحف لا لمواجهة احتياجات العصر وتحدياته.
علينا أن نجد حلولا إسلامية للمشكلات الاجتماعية والسياسية غير الحلول الغربية فقد رأينا كيف أن أولئك الذين صدّقوا منّا قول الغرب (اتبعوني تحلّ مشاكلكم) قد اكتشفوا الآن أن الغرب لم يكن في وقت من الأوقات مخلصا لهم وأن معظم من اتبعه منّا قد زادت مشاكله.
كما أنه بات من الضروري الآن وتونس تعيش في مناخ من حرية التعبير أن تعقد المنابر العلمية بين مثقفينا وعلمائنا لتقديم الرؤى والأفكار لإيضاح معالم الطريق الجديد في جو من النقاش العلمي الأمين الهادي لا سباب فيه ولا تكفير ولا مزايدات.
أخيرا نقول لشبابنا لا تخافوا من الإسلام ولا تفتحوا آذانكم لهؤلاء الذين يخوفونكم من الإسلام والذين لهم أجندات سياسية يريدون تحقيقها بواسطة (الإسلامفوبيا) التي يروجونها
فالإسلام دين كله خير كله محبة كله تسامح كله إخاء يسعى إلى تحقيق السعادة للإنسان في الدنيا والآخرة.
سامي براهم (باحث جامعي في إختصاص الحضارة): العبرة بفصل السّياسة عن كلّ إعلاء أو قداسة دينية أو فلسفية أو إيديولوجيّة
في رأي الباحث الجامعي في اختصاص الحضارة سامي براهم فإن الفكر العربي المعاصر بكلّ اتّجاهاته لا يزال يخوض في العلاقة بين الدّين والسّياسة دون أن يحسم هذه الإشكاليّة المعقّدة لصالح مقاربة مّا، فلا دعاة الفصل تمكّنوا من صياغة مقاربة متينة تحقّق حياد الدّولة عن الشّأن المدني العام في سياق ثقافي يقوم على التّداخل العضوي بين المجالين الدّيني والسّياسي بشكل يؤثره على كلّ مناشط الحياة، ولا دعاة الوصل تمكّنوا من إعادة تنظيم العلاقة بين الدّيني والسّياسي بشكل يضمن مدنيّة الشّأن العام القائم على عقد المواطنة دون اعتبار التّمايز العقدي الذي تمثّله ثقافة الملّة القائمة على الانتماء إلى رابطة المشتركين في العقيدة .
وبقي كلّ فريق مستمسكا بأطروحته، لا يحاول تفهّم وجهة النّظر المقابلة ويكتفي بالرّدود والحجج المتعارف عليها، ممّا يدعو إلى استنطاق الأطروحتين لتمثّل منطقها الدّاخلي واختبار وجاهة التّحفّظات التي يبديها كلّ فريق.
تحفّظات دعاة الفصل
يرى هؤلاء أنّ السّياسة باعتبارها نشاطا يهدف إلى تنظيم شؤون النّاس هي فنّ الممكن ومجال الاجتهاد والتّدافع والاختصام والمناورة تدور مع المصلحة حيث دارت ومع الغلبة حيث تحقّقت تتساوى فيها حظوظ النّاس في الحكم ولا تتفاضل المشاريع السّياسيّة وفق أي اعتبارات ماورائيّة ولكن بما تعكسه من تعبير عن إرادة الشّعب وتحقيق لمصالحه . هذه القيم التي تحقّق الحريّة والعدل والمساواة تضمن حسب أصحاب هذا الطّرح حقوق المؤمنين والملحدين على حدّ سواء وتحمي الدّين نفسه باعتباره شأنا خاصّا يتعلّق بضمير المواطنين.
وكلّ نزوع إلى الوصل بين الدّين والسّياسة سيؤدّي إلى تدخّل المقدّس ليرهن الشّأن العامّ إلى اعتبارات ما فوق تاريخيّة مسقطة على الإرادة الحرّة للمواطنين فتتفاوت حظوظ المشاركة السّياسيّة باعتبار شرعيّة المرجعيّة وتخضع لتأويلات تمليها مصالح فئة رجال الدّين التي كانت دائما تكرّس التّفاوت بين فئات المجتمع فضلا عن ارتهان الشّأن العام تشريعا وقيما وسلوكا إلى ثوابت وقطعيّات مفروضة على النّاس لا مجال فيها للاجتهاد .
ويخشى أصحاب هذا الفريق من أن يُواجَهُوا أثناء خوضهم لغمار التّدافع السّياسي مع أصحاب المرجعيّة الإسلاميّة بمن يلتجئ إلى الآية والحديث والإجماع والقياس لتبكيت الخصوم واستثارة المشاعر الدّينيّة للشّعب لفرض مشروع ديني تدلّ العديد من المؤشّرات خاصّة بعد صعود الحركات السّلفيّة المتطرّفة على نزوعه الاستبدادي الثّيوقراطي. لذلك يصرّ دعاة الفصل على أنّ الدّيمقراطيّة ليست مجرّد آليّة لحسم التّداول على السّلطة بشكل سلميّ بل هي قبل ذلك منظومة من القيم الإنسانيّة الضّامنة للحقوق والحريّات وهي كلّ لا يتجزّأ تحت أيّ ظرف من الظّروف وغير قابلة للمساومة أو الاستفتاء.
وفي مقابل ذلك يُستمسك الكثير من دعاة الفصل بالفهم الحرفي للدّيمقراطيّة باعتبارها حقّ الأغلبيّة في الحكم وحقّ الأقليّة في المعارضة ويرفعون بكلّ ثقة شعار الاحتكام إلى الشّعب الذي إذا خُيّر بين الإسلام والعلمانيّة فسيختار «الحلّ الإسلامي».
تحفّظات دعاة الوصل
أمّا تحفّظات هذا الفريق فتتأسّس على الاعتقاد الرّاسخ في إمكان قيام مشروع مجتمعي يحقّق العدالة والتّنمية انطلاقا من المرجعيّة الدّينيّة كما أنّ الفصل بين الدّين والسّياسة يناقض رسالة الإسلام القائمة على أنّ الإسلام دين ودولة عقيدة وشريعة، ففصل الدّين عن الشّأن العامّ سياسة وتشريعا وقيما وسلوكا وحبسه في ضمائر المؤمنين به هو من قبيل {يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض}.
كما أنّ تبعات الفصل حسب هذا الفريق ستكون كارثيّة بما يستتبعه فصل الدّين عن التّشريع والأخلاق من تدمير كلّ ما تعدّه الأديان ولا سيما الإسلام مقوّمات المجتمع السّليم مثل مؤسّسة العائلة والزّواج ونظام المحارم والمحرّمات وقيم العفّة والمصلحة المقيّدة بضوابط الشّرع خاصّة في سياق ما تعرفه المنظومة القيميّة والتّشريعيّة الغربيّة من مراجعات جذريّة مستفزّة للضّمير الدّيني وذلك لصالح تجريب تشريعيّ وإيتيقي جديد يؤسّس « لروحانيّة وضعيّة» لم تضبط بعد مرجعيّاتها بشكل دقيق، ولعلّ من أهمّ مظاهرها ما أصبح يُعرف بحقّ اختيار الانتماء إلى النّوع الجنسي وما استتبعه من تقنين زواج المثليين وحقّهم في التبنّي وتشكيل عائلة «مثليّة الوالدين homo parentale» فضلا عن حقّ المعاشرة الجنسيّة قبل الزّواج وإطلاق حقّ الإجهاض..
ولعلّ أقسى المظاهر الدراماتيكيّة لفكّ الارتباط بين الأخلاق الدّينيّة والتّشريع الوضعي الجدل القانوني الحادّ الذي يطرحه في الغرب مشكل الموت الرّحيم euthanasie وما يثيره من تساؤلات رهيبة عن مدى أحقيّة الإنسان في اتّخاذ قرار بوضع حدّ لحياته أو حياة أحد أقربائه المرضى . ويعتبر أصحاب أطروحة الوصل أنّ الإنسان لا يمكن له أن يستغني بالعقل عن الوحي في بناء الاجتماع البشري. ويتفاوت المؤمنون بهذا الطّرح أثناء انخراطهم في الشّأن العام في تحديد ما يجوز فيه الاجتهاد وحجم القطعي وحدود التّأويل .
إنّ التّحفّظات التي يقدّمها كل من الفريقين تتوفّر على قدر من الوجاهة والمصداقيّة حسب تقديرنا كما أن تخوّفاتهما جديرة بالاحترام والدّرس. غير أنّنا نعزو سوء التّفاهم هذا إلى الكثير من الخلط في المفاهيم والتّصوّرات لدى كلى الفريقين على حدّ سواء ممّا يدعو حسب ما يتراءى لنا إلى إعادة النّظر في العديد من المسلّمات التي تحكم وعينا السّياسي ومعرفتنا الدّينية.
1 مفهوم السّياسة:
منذ اليونان عرّف الفلاسفة السّياسة باعتبارها تدبيرا للنّفس والجسد والمدينة، ثمّ تطوّر المفهوم ليختزل في شؤون الحكم المركّز في أيدي فئة قليلة بمقتضى الغلبة والسّيطرة في العصور الوسطى وبمقتضى العقد الاجتماعي منذ عصر الحداثة. ثمّ تطوّر المفهوم بعد نضج مباحث الأنطروبولوجيا السّياسيّة وتحرّرها من النّزعة الاستعماريّة وانفتاحها على أنماط من التّدبير السّياسي كثيرا ما عدّها المستشرقون والمؤرّخون الغربيّون بدائيّة متخلّفة وذلك في سياق تقسيم تفاضلي مركزي بين مجتمعات ما قبل الدّولة ومجتمعات الدّولة.
وحصيلة هذه المباحث الانتباه إلى أنّه حيث وجدت مجموعة بشريّة وجدت السّياسة مهما كان نوع المنشط الذي يجمع أفراد تلك المجموعة وذلك في سياق ما يسمّى بحركيّة المجموعات التي تخوّل للأفراد أن يتقاسموا أعباء حياتهم بصورة تشاركيّة توزّع الأعباء والمنافع، أو استبداديّة تفرض الأعباء وتحتكر المنافع. ويؤكّد هذا التّصوّر على أنّ التّمييز الحدّي بين الدّيني والسّياسي لا معنى له إذ يقوم المنشط السّياسي لفرض مشروعيّته على خطّة الإعلاء والتّبرير انطلاقا من مرجعيّة دينيّة أو فلسفيّة أو إيديولوجيّة أو تاريخيّة.. كما أنّ المناشط الدّينيّة ذات الطّابع الجماعي سياسيّة بالضّرورة لأنّها تقوم على تنظيم وهيكلة وتسيير وتوزيع مهام وتبادل منافع ماديّة أو معنويّة معجّلة أو مؤجّلة، فشعائر الصّلاة والصّوم والزّكاة والحجّ بهذا المفهوم مناشط سياسيّة باعتبارها تجمع النّاس وتنظّمهم وفق خطّة لها أهداف وقواعد وضوابط وتتنازع على تحديدها مؤسّسات الدّولة والمجتمع ممّا يدلّ على أنّ الدّين لا يمكن أن يكون شأنا شخصيّا في حدود ضمائر النّاس لأنّه شأن عامّ يمكن استثماره بشكل تلقائي أثناء الفعل السّياسي فيؤثّر على هيئة الدّولة وخيارات الحكم وأمن المجتمع والعلاقات بين أفراده والتّشريعات التي تنظّمه.. يؤكّد ذلك من جديد أنّ الدّعوة إلى الفصل الحدّي بين الدّيني والسّياسي ضرب من الوهم الإيديولوجي المحكوم بخوف من قطعوا معرفيّا وسلوكيّا وقيميّا مع الدّين من استثمار الشّعور الدّيني الغالب على الشّعب لحسم المعارك السّياسيّة والفكريّة بشكل غير متكافئ. وهوخوف مشروع في ظلّ عدم تنظيم العلاقة بين المجالين بشكل يوازن بين حريّة المعتقد وحريّة الممارسة السّياسيّة .
2 الكتاب المقدّس
إذا كان الشّأن الدّيني سياسيّا بالضّرورة يجمع بين مجالين متداخلين بشكل عضوي لا فكاك بينهما، ويستمدّ حيويّته من انخراط المؤمنين به في الشّأن العام وانتظامهم طوعا في نظامه المعرفي القيمي فما علاقته إذا بالعالم ما فوق التّاريخي والشّرعيّة العلويّة والأحكام المطلقة؟إنّ الصّلة بين عالم الشّهادة وعالم الغيب هي نصّ التّنزيل الذي وسم في الدّيانتين اليهوديّة والمسيحيّة بالكتاب المقدّس، ولعلّ مردّ ذلك الوصف أنّ أجزاء من التّوراة كما يعتقد اليهود والمسيحيّون كتبت بيد الله في شكل ألواح أنزلت من السّماء واعتبرت مقدّسة لذاتها فضلا عمّا حوته من تعاليم. وبقيت تلك الألواح محلّ تقديس وتبرّك في شكل طقوس جماعيّة خاصّة نجد صداها إلى اليوم في الشّعائر اليهوديّة . إنّ هذا المعنى للقداسة لا يعبّر بصدق عن تمثّل الضّمير الإسلامي لكتابه إذ يعدّ وصفه بالمقدّس غير دقيق فلم يطلق الله على نصّه اسم الكتاب المقدّس بل هو القرآن والفرقان والكتاب والتّنزيل والذّكر.. كما وصفه بالحكيم والكريم والمبين والهدى.. وجميعها سمات وظيفيّة تؤكّد على وصف القرآن من خلال أثره الموضوعيّ المفترض في التّاريخ.
وتتأكّد هذه السّمات من خلال الدّعوة لتدبّر آياته والنّظر فيها وتعقّلها والاهتداء بهديها . وهذا التّصوّر عن القرآن بعيد عن القداسة بالمفهوم الذي عليه التّوراة في اليهوديّة والمسيحيّة، إذ القداسة في أبرز معانيها تقوم على الإعلاء والإطلاق والبداهة والجبريّة والنّهائيّة والخرق والرّهبة والحجر، وهي معان وإن كان التديّن الفِرقي والعامّي يجيش بها فإنّ مباشرة النّصوص لا تصدّقها بل توازيها دلالات وقيم تأويليّة أخرى:
ففي مقابل تلك المعاني يقوم نصّ التّنزيل على عالم دلاليّ يزخر حيويّة ويتشكّل من شبكات معنويّة متقابلة مثل الحقيقة والمجاز، والمحكم والمتشابه، والمجمل والمفصّل، والعامّ والخاصّ، والمطلق والمقيّد، والمبيّن والمفسّر والنصّ، والظّاهر والباطن، والفحوى والمشترك.. وكلّها مستويات من الدّلالة ترسّخ جملة من القيم.
فالأمر لا يتعلّق حسب تقديرنا بالفصل بين الدّين والسّياسة ولا بتحييد الدّين عن الشّأن العامّ ولا بدنس السّياسة وارتهانها لعالم لا أخلاقي قائم على المناورة والمؤامرة، ولكن بفصل السّياسة عن كلّ إعلاء أ إطلاق أو قداسة أو سواء كان مصدرها ديني أوفلسفي أو إيديولوجيّ أوثقافي.
خميس الخيّاطي (كاتب وإعلامي): القطيعة بين الدين والدولة حماية للدين من الاستعمال السياسوي
يقول الكاتب والإعلامي خميس الخياطي: «لن أحاجج في هذا المقال أعداء اللائكية من الرافضين لها جملة وتفصيلا لا لسبب إلا لأنه حوار طرشان حيث انتفاخ الحبال الصوتية أقوى من ترابطات المنطق، بالتالي سأتوجه للقراء قبل وبعد كل شيء، لأنهم أصبحوا هم الحكم لاسيما ونحن على أبواب انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي، وبالتالي وضع ورقة من الاتجاه «الصحيح» (الذي قد يقبل الخطأ) في صندوق الانتخاب هو أنجع من إضاعة الوقت في السفسطة.. فلنحتكم إلى أحدى سمات الديمقراطية: صندوق الاقتراع.
حدثان هامان كان لهما كبير الأثر في أن أتبنى اللائكية كتصور للعالم ومطلب حياتي بنتاجاته المتعددة من جهة وأن أدافع عنه بإيمان عضوي، غير متحزّب من جهة أخرى.. الحدث الأول وقد ذكرته، استجابة للصديقة المصرية «إجلال هيريرا»، في رسالة مفتوحة للكاتب البريطاني الجنسية، الهندي الأصل، الباكستاني الثقافة والمقيم بلندن سلمان رشدي زمن إهدار دمه بفتوى من الإمام خميني لجهة «الآيات الشيطانية»، هذا الحادث جد بمسقط راسي بالشمال الغربي التونسي (القصور) ولم يتجاوز عمري آنذاك العقد الأول إلا ببضعة اشهر.. سألتني الوالدة، رحمها الله، لماذا أرفض الصيام؟ قلت لها بلغة الأطفال حينها «ما عينيش فيه».. لم تعاقبني ولم تشكوني لأي كان من كبار العائلة وهي المسلمة بالفطرة، إمرأة لم تضيع صلاة ولم «تكسر» صياما، تخرج للشارع متى تريد ولم تلبس الخمار قط، أم ألزمتني حفظ القرآن في كتاب القرية، بل نظرت عميقا في عيني وشهرت سبابتها في وجهي ونحن في قلب الحوش وقالت كلمات لم أنسها أبدا حتى هذه اللحظة: «أنا ماليش دخل، هذا ما بينك وبينو» ورفعت سبابتها نحو السماء وأدارت لي ظهرها لتنشغل بشؤونها..
هو أول درس في حياتي تلقيته من والدتي وفي قريتي بعيدا عن ممتهني التدين، درس في حرية الاختيار ونسبية الإيمان وتحمل المسؤولية..
الحادث الثاني الذي أذكره للمرة الأولى وقع في «دار أيران» بالحي الجامعي بالدائرة الرابعة عشرة باريس في نهاية الثمانينات. كان ذلك في اجتماع عام حول تونس، اجتماع حضره ممثلون عن عديد الأحزاب التونسية المعارضة.. في فترة النقاش، أخذت الكلمة ككل الحاضرين قلت في مستهلها بإني أؤمن باللائكية نهجا ومقصدا، وبالتالي فهي رؤية للعالم تصلح لأن تنتفع منها بلادنا في تنظيم قوانينها وترفع من شأنها في محيطها العربي الإسلامي، لا سيما فيما يخص تقنين الأحوال الشخصية.. كان من بين المتواجدين على المنصة ممثل لحزب «النهضة» الذي علق على تدخلي بوابل من التّهم على اللائكية مثل الكفر والإلحاد والاستغراب و»حزب فرنسا» (مع أننا كنا كلنا بفرنسا) وختم بصريح العبارة: «سي خميس، واحد كيفك إنت، نهار إللي نحكمو تونس إما يمشي للحبس أو يخرج مالبلاد».. وعدت إلى البلاد قبله لأستقبله حينما يعود «هو» إليها..
الدين لله والوطن للجميع
بين هاتين الحادثتين المتناقضتين جملة وتفصيلا وإن اتحدتا في مصدرهما الإيماني، بينهما تفتّح واع على حضارات وثقافات وبلدان وأجناس متشابهة- مختلفة عربية وغير عربية، بعضها يعيش في تنافر دائم لجهة اعتماده الكلي على المنطلقات الدينية البحتة التي حنطها غياب الاجتهاد وفقر مخيال النخبة لتصبح من المسلمات، حتى أن هياكل الدولة تفتت وانتشرت الفوضى وبعضها يعيش اليوم حربا أهلية أساسها ديني مقولب.. فيما البعض الأخر، رغم وجود هذه التناقضات، غير أنها وجدت مساحة تلاقي بينها هو«العيش معا»، ومن التنافر أنتجت قوة تلاقي إيجابية تترك الإيماني في خانة الحميمية وتضع المواطنة كنقطة لقاء بين كل المنتمين لرقعة وطنية واحدة .. هذه المساحة هي «اللائكية» أو ما نسميه تعريبا ب»العلمانية» وهي ما يعبر عنها أحسن تعبير شعار «الدين لله والوطن للجميع»..
فإن علمني الحادث الأول أن الحرية الفردية مقدسة حتى من جانب الثقافة الشعبية التي تؤمن أن «كل شاة مشدودة من ساقها»، فإن الحادث الثاني أقنعني أن الاستبداد العقائدي من طرف تيار ما من النخبة السياسوية التونسية أمر مرفوض جملة وتفصيلا حتى ولو طلعت علينا في هذه الأيام أصوات تقول بديمقراطية تيار الإسلام السياسي.. بل أن هناك من قال أن «القرآن لا يتعارض والعلمانية» (!!!) فيما يبين كتاب الصديقة سلوى الشرفي «الإسلاميون والديمقراطية» أن ازدواجية اللغة لدى هذا التيار هي سمة من سماتهم.. وبالتالي، ودون أن نلعن المستقبل الذي لم نعشه بعد، خاصة بعد الثورة التي عاشتها بلادنا، فإننا مقبلين على «إمكانية التراجع في المكتسبات المدنية» مثل بوادر المساواة بين الجنسين ومجلة الأحوال الشخصية التي يعتبرونها «البقرة الذهبية» للتيار اللائكي التونسي.. ودون أن نكون من عبدة الأبقار، فإن مجلة الأحوال الشخصية وضرورة تطويرها والتركيز على المساواة التامة بين الجنسين أصبحت سمة من سمات الشخصية الحداثية في بلادنا وتم تخزين البعض من مقوماتها في الذهنية الجماعية وحتى لدى المنتمين للإسلام السياسي في جانبه الإصلاحي..
اللائكية والزاوية الحيّة
واللائكية هي إحدى الزوايا الحية التي تسمح بالنفوذ إلى مرافق الحداثة أو كما يصفها الصديق فتحي بلحاج يحي هي «أوكسيجين في ظلّ وضع تونسيّ أخذ يسجّل منذ العقدين الأخيرين تراجعات كبيرة من حيث الذّهنيّة الجماعيّة وتحديدَا منذ ظهور المدّ الإسلامي الذي عرفته كلّ المنطقة العربية والإسلامية».. بين التراجع المستنتج في الذهنية العامة من جهة وهو واقع معاش عملت على تدجينه كوكبة من القنوات التلفزية الخليجية بإسم «الإسلام الحق» وتخزين هذه الذهنية لمقومات اللائكية في جانب الأحوال الشخصية وضرورة المساواة بين الجنسين في جميع ميادين الحياة العامة من جهة أخرى، هناك ناقوس إنذار يجب دقه.. فإن رفض الرئيس المخلوع الاعتراف بجمعية مدنية تونسية تدافع عن اللائكية بتعلة «أنها كفر وستخلق حربا بينها والتيار الإسلامي»، فإن على أعضاء المجلس التأسيسي المقبل أن يضعوا نصب أعينهم أن المجتمع التونسي لم يعد بالتجانس الإيماني الشامل الذي عهدوه ولم نعد «جرابة صافي»، بل هناك انتشار ملحوظ للشيعة التي قدمت يوم عيد الجمهورية الولاء للسيد «خامنئي» وتحول بعض التونسيين إلى المسيحية ووجود التونسيين من اليهود إضافة إلى من لا ديانة لهم.. كل هذا يحتم على المجلس أن يأخذ بعين الاعتبار، ليس إلغاء للطابع الثقافي الإسلامي للمجتمع التونسي، بل القطيعة بين الدين والدولة حماية للدين من الاستعمال السياسوي.. ذلك أنه حينما يلتقي الدين بالسياسة، فإن الخاسر الأول هو الدين اعتمادا على المساوئ الكبيرة التي نجمت عن مقولة «الإسلام دين ودولة». وبالتالي، اللائكية هي حماية الدين من استغلاله لأغراض وأهواء سياسوية. فبتحييد الدين، يكون الصراع بين الأحزاب السياسية صراعا متكافئ المعطيات لأنه بين مواطنين لهم انتماءاتهم المتعددة دون اللجوء إلى قدسية الأطروحات، قدسية تلجم العقل وتطمس المواطنة.. والتعددية والاختلاف هما من أسس المواطنة التي هي نتاج الديمقراطية. ولنا في هذه الفترة أن نختار أي نهج نريد.
هل هو الانغلاق على المقولات المكبلة للعقل والحرية والماحية للمواطنة تحت تعلة «صدام الحضارات»، فندفع إلى السجن أو الهجرة بمن لا يؤمنون بإيماننا، شاهرين في وجوههم سيف الاستسلام رافعين شعار «لا حكومة ولا دستور، عنا الله والرسول»
هل أننا سنترك أمور الله إلى الله، سنبعد بيوت العبادة عن تقلبات الشارع السياسي و»شياطينه» ونؤسس إلى مواطنة تونسية قوامها المساواة ولا شيء غير المساواة بين أبناء الوطن الواحد رغم اختلافاتهم الجنسية والعقائدية؟
بين الزاوية الميتة التي تغرس في المواطن الشعور بالخطيئة وأن مستقبله ليس بين يده وزاوية تنبع منها الحياة لان الإنسان إنسان يربى على المواطنة الصالحة مهما كانت ديانته وجنسه، علينا أن نختار من اليوم حتى نهاية أفريل المقبل. نقول «الاختلاف رحمة» وننسى أن المواطنة هي حاميته..
هشام قريسة (باحث وأستاذ جامعي): دعاة العلمانية هم أوّل من يتصدّى للديمقراطية والحرية الفردية
يقول الباحث والأستاذ هشام قريسة أن الديمقراطية تقوم اليوم على معنى سياسي متفق عليه، أن لا وصاية على الأمة فهي تختار من نظم الحكم ورجال الدولة ولا مصادرة لحرية الفرد في نشاطه السياسي والديني، وأنه لا تغييب لدور المواطن في تقرير مصيره في بلده وممارسة واجباته، والتمتع بحقوق المواطنة التي كفلها له القانون.
ويواصل قائلا: «الديمقراطية بهذا المعنى السياسي، وحتى بمعناها الإيديولوجي القديم الذي يعني حكم الشعب démos - Kratos تؤول بطبيعتها، وبمعناها المنطقي إلى أن الأغلبية هي التي تحكم البلد، وهي التي تتولى شؤون الأمة المختلفة وهي التي تطبق برامجها التي دعت إليها في حملتها الانتخابية الرئاسية والبرلمانية على السواء.
المفهوم الديمقراطي
ويقوم النظام الديمقراطي الذي يعني حكم الأغلبية، في مقابلة النظام الاستبدادي الفردي (الذي يعني حكم الأقلية) واعتبر استبداديا من جهة أنه استولى على الحكم من دون اختيار الناس له، ومن دون أن يمثل أكثرية في الأمة، فالنظام الاستبدادي هو قيادة الأقلية للأكثرية وهي مصادرة لحق لا يملكه، لأن مكان الأقلية الذي يتناسب مع وضعيتها هو أن تكون محكومة لا أن تكون حاكمة، ومن هذا المدخل بالذات أي مدخل الاستيلاء على حق ليس لها، وصفت بأنها استبدادية ولكن حكم الأغلبية في المفهوم الديمقراطي وإن شئت في مفهوم العدالة الاجتماعية لا يعني إلغاء الأقلية أومصادرة حقوقها، ولا يعني اضطهادها لأنها تخالف الأكثرية فحقوقها باقية، لا تسلب ولا تنتهك ولا يُعتدى عليها، وإنما هي معنية بمتابعة الأكثرية والتوافق مع الإرادة السياسية والاجتماعية للأمة. ذلك أن الأكثرية أصبحت تمثل الأمة وتمثل برامجها المختلفة وتطلّعاتها المستقبلية في نظام الدولة الذي اقترحته هذه الأكثرية، وفي مقابلة هذه الحماية التي ستضمنها الأكثرية، تلتزم الأقلية بقرارات الدولة ويبقى لها حقّ النقد والاعتراض على هذه البرامج.
وتنبني «العلمانية» على أساس ما تهيئه مبادئ الديمقراطية من حقوق المواطنة كحق التعبير وحق الانتخاب وحق الترشح وحق الانتماء إلى مذهب سياسي معين وحق الاعتقاد والتديّن من دون المساس بمصالح الآخرين وحقوقهم وتعني العلمانية في مظهرها العام، منع الفرد من تكريس الإيديولوجيا وفرض الوصاية على الآخرين، لأنه تجاوز للحرية الشخصية، وتعارض مع الديمقراطية، وهذا هو منتهي العلمانية أن يترك لجميع أفراد المجتمع على اختلاف انتماءاتهم السياسية حرية التفكير، وحرية التمذهب وحرية العقيدة، على أن يكون زمام المبادرة السياسية ووضع البرامج المختلفة للدولة في أيدي من تحصلوا على الأكثرية في الانتخابات الحرة والنزيهة وهذا ما تعنيه بصدق الديمقراطية وإن شئت الشورى ولا التفات إلى الأسامي إذا كان المعنى متفقا عليه. وكما بينت فلا تعارض بين «العلمانية» التي تتمحور حول الحرية وبين أن يكون الحكم والتسيير والاجتهاد في القانون حقا للجماعة الغالبة في الانتخابات لتطبيق برنامجها الانتخابي الذي دعت إليه من دون المساس ببديهيات الدستور، ولذلك فلا يحق للأقلية في المجتمع بدعوى الحرية أن تمنع تطبيق المبادئ التي نادت بها الأكثرية أو تعطيلها أورفض الانضواء تحت حكم الأغلبية لأن ما تمارسه الأقلية حينئذ، يكون معارضا للديمقراطية، ومعارضا لأبسط الحقوق السياسية المتعارف عليها، والمتفق على أسسها بين جميع شعوب العالم. ويصبح ما تنادي به الأقلية من الامتناع عن الانقياد لاختيارات الأمة والتحريض على الرّفض تكريسا للفوضى والاستبداد، ومحاولة تسلم القيادة من دون أن يكون لها الحق في ذلك. ويصبح هذا الخطاب المغلف «بالعلمانية» خطابا عنصريا، متخلفا مقيتا لا يتجاوب مع تطلّعات الأكثرية.
الأحزاب المتخفية تحت شعار «الديمقراطية»
ولا أدل على تخلف هذا الخطاب وانغلاقه ما تنادي به بعض الأحزاب المتخفية تحت شعار «الديمقراطية» و«التقدمية» و«العلمانية» في مجتمعاتنا الإسلامية من الدعوة إلى «الدولة اللائكية» أي نفي الحضور الديني في المجال السياسي والاجتماعي وحصر الممارسة الدينية في بيوت العبادة، وقصرها على المجال الفردي والشخصي، فالتدين عندهم حق، ولكنه حق ذاتي لا يسمح به إلا داخل كينونة الفرد وأن بروز ظاهرة التدين في المجتمع، يعني عندهم تجاوز للحد المسموح به، وتعدٍّ على الحرية، ولكن هؤلاء غاب عنهم أوتجاهلوا أن للدين مظهرا اجتماعيا كما أنّ له مظهرا فرديا. فأما المظهر الفردي فلا إشكال فيه، ولا اختلاف في أحقيته. وإنما الخلاف مع هؤلاء المتناسين لحقوق الآخرين المتلاعبين بمبادئ الديمقراطية في الجانب الاجتماعي للتدين فأقول لهم إن التدين والممارسة الدينية والتمظهر الديني في المجتمع التونسي، وكذلك المواصفات الدينية، مظاهر معلومة، متحققة، مأخوذ بها حاضرة في ممارساتنا الاجتماعية، فكيف يعقل أن يطلب إقصاء الإسلام بدعوى «اللاّئكية» في مجتمعنا، الذي يمتد تاريخ أسلمته إلى أكثر من أربعة عشر قرنا، وكيف يكون لقلة من الناس هجينة في تفكيرها، أن يكون لها الحق في تكريس مبدإ سياسي لائكي فيه إقصاء للإسلام من الحياة السياسية للمجتمع، مع العلم بأن الإسلام في بلدنا، تجاوز مرحلة الحضور الشخصي الفردي إلى مرحلة أضاء فيها جميع جوانب الحياة الاجتماعية وعمّر في كافة مشاغله، واختلط بعاداته وسياسته وقانونه وآدابه وجميع حركاته وسكناته.
كيف يكون لقلة، استمدت مبادئها وقيمها ونظم حياتها من أطروحات غريبة عن حضارتنا، أن يكون لها الحق في تقرير مصيرنا، وتحديد اختياراتنا وضبط المبادئ التي سنسير عليها.
ألا يستحي هؤلاء أن يدعوا إلى الديمقراطية والعلمانية واحترام اختيارات الأكثرية وهم أوّل من يقف في مواجهة هذه المبادئ.
أليس من مظاهر الديمقراطية أن يكون للإسلام حضور يتناسب مع حجمه الحضاري والثقافي في الأمة، وأن يكون له تقديم يتناسب مع هذا الحضور. نعم الواجب في حقّ هذا الدين، أن لا يقمع الاقلية، ولا يمنع التعبير المخالف ولا يمنع الحرية الفردية فيما لا يتعارض مع ثوابت الهوية، وهذا الأمر قد كفله وحماه بالترتيبات المدنية المختلفة، بل قنّنه بالتشريعات والأحكام بما لا يسمح هذا المقال المختصر ببيانه، وقد يكون مجال غير هذا لتوضيح هذه التشريعات.
وأجلى مظاهر هذه العدالة الاجتماعية التي نرجوأن تقع المحافظة عليها، أن نحتكم إلى «صناديق الانتخاب» السّالمة من التزوير، فما أفرزته على أنه يمثل الأكثرية، فهوالحقيق بالحضور السياسي والاجتماعي، ونترك التجني على الآخرين لأنه ليس من أخلاق الديمقراطية.
فإن أفرزت هذه الصناديق الفوز لمناصري اللائكية واختار النّاس إقصاء الدين عن الحياة السياسية وقصره على الممارسة الشخصية للعبادة، فإنني أكون أول من يعترف بهذه اللائكية وأول من يعمل تحت رايتها، وإن كان الأمر الآخر، ويكون الدين على خط التواصل الاجتماعي، فإنه لا يسعك أيها الرفيق اللائكي إلا أن تبدي تقاسيم الطاعة لنظام سياسي مدني، يتوافق مع تعاليم الإسلام وقيمه ويتجانس مع حضارة بلادنا التي هي بالأساس حضارة إسلامية، نظام يقوم على التعاقد الاجتماعي، وتبادل الحقوق، ونشر الحريات الدينية والسياسية واحترام الآخر في عقيدته وفكره، آخذا بعين الاعتبار أن الدين الإسلامي مقوم أساسي وظاهرة بارزة محترمة في مجتمعنا وأننا لا نسمح لمن يدوس قيمنا أو ينتقص منها، أويحاول إقصاءها من مضموننا الاجتماعي والحضاري، والإسلام ليس مذهبا تيوقراطيا ( Théocratique) يحكم فيه الحاكم باسم الإله، أو يقوم على تعاقد اجتماعي بين مختلف فئات المجتمع تسوده الشورى، ويحتكم إلى قيم العدالة والمساواة والتكافل الاجتماعي وتقوم القوانين فيه على أساس رعاية مصالح الخلق في الآجل والعاجل معا، ولا أدل على هذا الحضور المدني للإسلام ما استفادته القوانين الوضعية العربية منها والغربية في شتى مجالات الحياة المختلفة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وغيرها. واشتقت منه الدساتير، في بنودها العريضة من مبادئ الحرية الدينية، والمشاركة السياسية ونبذ العنصرية وإقامة العلاقات البشرية على أساس المواطنة وما استفادته الحضارة الإنسانية من قيم سامية في العلاقات الأسرية والمهنية وفي مجال المعاهدات والقوانين الدولية، بما لا يُنكر ولا يُجحد
وفي الأخير أقول لأنصار اللاّئكية إنكم إن كنتم تريدون سلما اجتماعيا في بلد عربي يدين بالإسلام فإنما يكون ذلك في إطار أن تقروا للآخر المنكر لللاّئكية أن يعيش ويحس بانتمائه لحضارته وتاريخه، وإنه من الديمقراطية أن تسلم له بذلك وتحترم اختياره، وتسلم بأكثريته وبالتالي تسلم بأن دستور البلد يقوم على الإسلام شكلا ومضمونا وهدفا».
هشام قريسة
عبد الوهاب الهاني (الناطق الرسمي للشبكة الدولية للحقوق والتنمية وممثلها الدائم لدى الأمم المتحدة): نُخبنا تريد إسقاط نماذج لا تمتّ لواقعنا بصلة
يعتبر الأستاذ عبد الوهاب الهاني الناطق الرسمي للشبكة الدولية للحقوق والتنمية أن هناك سوء تفاهم كبير جدّا اليوم في تونس بخصوص قضية العلمانية.
وأضاف يقول: «نحن نطرح أسئلة في تونس 2011 بعد الثورة.. والمطلوب أن نطرح الأسئلة في الزمان والمكان المناسبين.. فأنا أشعر بأن الكثير من الإخوة والأخوات يطرحون أسئلة لا علاقة لها بتحديات اليوم.. فالتحدّي مرتبط بالمخاطر التي نواجهها اليوم.. نواجه الارتداد على الثورة ومحاولة إجهاضها ولا نواجه خطر الدولة الدينية أو الدولة العلمانية.
وفي اعتقادي هناك نوع من التركيز المبالغ فيه على تحديات جانبية. وهذا يذكّرني بقصة شهيرة حيث جاء أناس لرجل كان يبحث عن نقود له تحت عمود إنارة.. فبحثوا معه (تحت الضوء) لكنهم لم يعثروا على شيء فسألوه عما إذا كان واثقا من أنه أضاع نقوده في ذلك المكان. فأجابهم بأنه فقد نقوده في مكان آخر مظلم.. لكنه اختار البحث عنها تحت عمود الإنارة!».
ويواصل قائلا: «العلاقة بين المؤسسة الدينية والمؤسسة السياسية كانت سؤالا مؤرقا لأوروبا وجدت له حلاّ بعد قرون من الصراع بين المؤسستين».
اسقاط نموذج المؤسستين
وفي اعتقادي يمكن اعتماد حلّين اثنين:
الحلّ الأول: هو الحل الفرنسي غير قانون 1905 للفصل بين المؤسستين حماية للمؤسسة الدنيوية السياسية من تصلّب الكنيسة.
الحلّ الثاني: وهو الحل البريطاني الأمريكي الذي أقرّ الفصل بين المؤسستين حماية للمؤسسة الدينية من تغوّل الدولة وهو ما يعني أن اشكالية الفصل بين السلطة الدينية والدنيوية تفاعلت معها الشعوب الغربية بطريقة مختلفة من بلد إلى آخر حسب خصوصياته وتاريخه والقوى الفاعلة فيه آنذاك.
وللأسف الشديد فإن الكثير من نخبنا تُريد اسقاط نموذج ما (تركي أو فرنسي) بقطع النظر عن الظروف التاريخية التي أحاطت بهذا البناء التاريخي. أما عن الحضارة الإسلامية فإنها عاشت نماذج مختلفة في علاقة المؤسسة الدينية بالمؤسسة الدنيوية تراوحت بين التماهي المطلق في بعض التجارب وبين الفرقة والتضارب المطلق، حيث ذكر التاريخ الإسلامي حالات عديدة للصراع وحتى الاستقلالية بين المؤسستين.
مخزون عربي
وإذا ما عدنا إلى تونس فإننا نجد أن الحركة الإصلاحية انطلقت من المخزون العربي الإسلامي لتبني نموذجا سياسيا وقانونيا حداثيا. فقد شهدت بلادنا أول دستور في العالم العربي واجتهد فقهاؤها في سنّ القوانين الوضعية الجزائية والمدنية في إطار منظومة القانون الإسلامي الذي هو قانون وضعي بامتياز وضعه البشر لتسيير شؤون البشر وأحيل هنا على كتابات العديد من الفقهاء التونسيين من مدارس مختلفة وعلى رأسهم الشيخ محمد الفاضل بن عاشور والأستاذ محمد الشرفي والأستاذ الصادق بلعيد وغيرهم الذين حرصوا على تبيان هذا البناء التاريخي للقوانين التونسية المعاصرة.
ثم نأتي إلى مسألة المواءمة مع مبادئ القانون الدولي والاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الانسان وهي بالمناسبة اتفاقيات حديثة لا يزيد عمرها عن ال 50 سنة ساهمت فيها المنظومات التشريعية والقانونية المختلفة عبر مفاوضات شاقة مثلت أغلب بلدان المعمورة ومن بينها بلادنا وعديد البلدان الإسلامية. كما صادقت بلادنا على حلّ هذه الاتفاقيات وإدخالها صلب القانون المحلّي، فلا تضارب إذن ولا خوف مثلا في مسائل العقوبات الجسدية التي حرمها المشرّع.
لا تناقض
كما أنّ تحريم وتجريم التعذيب مثلا الذي نصّت عليه الاتفاقية الدولية لمناهضة التعذيب لسنة 1984 والتي صادقت عليها بلادنا في أواخر حكم الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، هذا التجريم يجد جذوره في القانون الإسلامي وخاصة في المدرسة المالكية.
وفي اعتقادي فإنه علينا أن لا نقدّم كونية حقوق الانسان على أنها معادية لثقافتنا العربية الإسلامية، بل أن نبحث في جذورنا عن أسس هذه الكونية.. فالكونية ليست نتاج حفنة من الدول الغربية بل هي نتاج الإنسانية جمعاء بكل ثرائها وتنوّعها وتنوّع أنظمتها التشريعية والقانونية. وللتاريخ فقد رحل بين ظهرانينا الأستاذ الفاضل الجمّالي العراقي الذي شارك في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
أما بخصوص المرأة فلا تناقض بين الاتفاقية الدولية لمكافحة جميع أصناف الميز ضدّ المرأة والإسلام.
علما بأن تاريخ التشريع التونسي الذي هو جزء من القانون الإسلامي المبيّأ تونسيا تونسيا حرص منذ أبي زيد القيرواني ووصولا إلى مجلة الأحوال الشخصية على ضمان حقوق المرأة.
تفاعلات
أما ما يتعلق بمسألة الميراث مثلا فإن الكثيرين يطرحونها من زاوية حقوق المرأة ويغفلون طرحها من زاوية إصلاح قانون المواريث عموما وهم في ذلك يؤكدون لا شعوريا تبنيهم لقانون المواريث العام الذي هو قانون إسلامي بامتياز نظّمه القرآن الكريم في أدقّ تفاصيله. ولا أخال الأستاذ صالح الزغيدي مثلا يدافع عن توريث القطط والكلاب مثلما ينصّ على ذلك القانون الأمريكي فكلّنا باختلاف مشاربنا ندافع عن قانون تونسي حداثي هو في الحقيقة جوهر القانون الإسلامي المبيّأ تونسيا. فلا قانون مطلق يطبّق على كل الشعوب والحضارات والأديان، لأن القانون في جوهره هو نتاج للعقد الاجتماعي لشعب ما في مرحلة تاريخية ما تأخذ بعين الاعتبار التفاعلات الاجتماعية والثقافية والسياسية.
فنجاح مجلة الأحوال الشخصية من حيث الانخراط الشعبي في مبادئها هو نتيجة الاجتهاد القانوني من داخل المنظومة الثقافية الإسلامية للشعب والحرص على مراكمة الإصلاحات التشريعية بعيدا عن استفزاز ومصادمة الضمير الديني.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.