تونسي يتميز في جامعة دايفس بكاليفورنيا الأمريكية    معبر الذهيبة : ازدحام كبير جراء ارتفاع عدد العائلات الليبية القادمة نحو تونس    خلال يومين.. احباط 59 عملية "حرقة" وايقاف 24 منظما ووسيطا    سليانة.. تقدم موسم الحصاد بنسبة 45 بالمائة    الهيئة الوطنية للمحامين تنعى المحامي الدواس الذي وافته المنية في البقاع المقدسة    نحو 16 ألف شخص تعرضوا لإصابات خلال ذبح الخرفان في أول أيام العيد    احمد الجوّادي يُتوّج بذهبية سباق 400 متر في بطولة فرنسا للسباحة 2024    مدخرات تونس من العملة الصعبة تقدر ب 107 ايام توريد    بداية من الغد: تحذير من ارتفاع درجات الحرارة    وزير الشّؤون الدّينية يتفقّد أحوال الحجيج بمخيّمات المشاعر المقدّسة    قرقنة.. وفاة حاج من منطقة العطايا بالبقاع المقدسة    رئيس الاتحاد الفرنسي يحذر مبابي لأسباب سياسية    كأس أمم أوروبا: برنامج مواجهات اليوم والنقل التلفزي    القيروان : زوج يقتل زوجته بطريقة وحشية بعد ملاحقتها في الطريق العام    عاجل/ الاحتلال الصهيوني يحرق قاعة المسافرين في معبر رفح البري..    مصرع 6 أشخاص وفقدان 30 آخرين في انهيار أرضي في الإكوادور    تنس – انس جابر تحافظ على مركزها العاشر عالميا وتواجه الصينية وانغ في مستهل مشوارها ببطولة برلين    الرابطة المحترفة الاولى (مرحلة التتويج): برنامج مباريات الجولة الختامية..    حجاج بيت الله الحرام يستقبلون أول أيام التشريق    قتلى وجرحى بإطلاق نار خلال احتفال في تكساس الأمريكية    بسبب ين غفير.. نتنياهو يلغي مجلس الحرب    المتحدث باسم "اليونيسف".. الحرب على غزة هي حرب على الأطفال    طقس اليوم.. خلايا رعدية بعد الظهر والحرارة في ارتفاع    تراجع الإنتاج الوطني للنفط الخام في أفريل بنسبة 13 بالمائة    كأس أوروبا 2024 : المنتخب الفرنسي يستهل غدا مشاركته بلقاء النمسا    رقم قياسي جديد بالتصفيات الأولمبية الأمريكية للسباحة    فرنسا: تصدعات بتحالف اليسار وبلبلة ببيت اليمين التقليدي والحزب الحاكم يعد بتعزيز القدرة الشرائية    بن عروس/ 18 اتصالا حول وضعيات صحية للأضاحي في أوّل أيّام عيد الأضحى..    صفاقس : "البازين بالقلاية".. عادة غذائية مقدسة غير أنها مهددة بالإندثار والعلم ينصح بتفاديها لما تسببه من أضرار صحية.    الإنتاج الوطني للنفط الخام يتراجع في شهر افريل بنسبة 13 بالمائة (المرصد الوطني للطاقة والمناجم)    رئيس الجمهورية يتبادل تهاني العيد مع كل من رئيس المجلس الرئاسي الليبي ورئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية    استدرجوا امرأة للانتقام منها: صدور حكم بالسجن في جريمة قتل..    العلاقات الاندونيسية التونسية جسر تواصل من اجل ثقافة هادفة، محور ندوة بتونس العاصمة    في ظل انتشار التسممات الغذائية في فصل الصيف، مختصة في التغذية تدعو الى اعتماد سلوك غذائي سليم    47 درجة مئوية في الظل.. الأرصاد السعودية تسجل أعلى درجة حرارة بالمشاعر المقدسة    إخصائية في التغذية: لا ضرر من استهلاك ماء الحنفية..    صفاقس : الصوناد لم تكن وفيّة لوعودها يوم العيد    فرق التفقد الطبي بكامل الجمهورية تقوم بزيارات ميدانية غير معلنة لعدد من الأقسام الاستعجالية    وزارة الصحة السعودية تصدر بيانا تحذيريا لضيوف الرحمان    منسق البعثة الصحية: لا وفيات في صفوف حُجّاجنا    الصوناد: الرقم الأخضر 80100319 لتلقي التشكيات    تخصيص برنامج متكامل لرفع الفضلات خلال أيام العيد    بعد ظهر اليوم.. خلايا رعدية مصحوبة بأمطار متفرقة    أنس جابر تُشارك الأسبوع المقبل في بطولة برلين للتنس    أول أيام عيد الأضحى.. الحجاج يؤدون طواف الإفاضة    في أول أيام عيد الأضحى.. الحجاج يرمون جمرة العقبة الكبرى    المطربة المصرية منى عبد الغني تنهار باكية أثناء أداء مناسك الحج على جبل عرفات (فيديو)    أطباء يحذرون من حقن خسارة الوزن    المهدية: مؤشرات إيجابية للقطاع السياحي    بشرى لمرضى السكري: علماء يبتكرون بديلا للحقن    «لارتيستو»: الفنان محمد السياري ل«الشروق»: الممثل في تونس يعاني ماديا... !    رواق الفنون ببن عروس : «تونس الذاكرة»... في معرض الفنان الفوتوغرافي عمر عبادة حرزالله    المبدعة العربية والمواطنة في ملتقى المبدعات العربيات بسوسة    يحذر منها الأطباء: عادات غذائية سيئة في العيد!    "عالم العجائب" للفنان التشكيلي حمدة السعيدي : غوص في عالم يمزج بين الواقع والخيال    جامعة تونس المنار ضمن المراتب من 101 الى 200 لأفضل الجامعات في العالم    الدورة الخامسة من مهرجان عمان السينمائي الدولي : مشاركة أربعة أفلام تونسية منها ثلاثة في المسابقة الرسمية    تعيين ربيعة بالفقيرة مكلّفة بتسيير وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أستاذ علم الاجتماع السياسي الدكتور عبد الوهّاب بن حفيظ ل«الشروق» (2): الثورة في حاجة الى منظومة قيم بديلة والاحكام المسبقة سالبة للحرية
نشر في الشروق يوم 04 - 03 - 2011

٭ تونس «الشروق»:
ننشر اليوم الحلقة الثانية والأخيرة من حوارنا مع أستاذ علم الاجتماع السياسي الدكتور عبد الوهاب بن حفيظ مدير برنامج بحوث الشرق الأوسط وخبير مشارك في تقرير البرنامج الانمائي للأمم المتحدة حول المعرفة في المجتمع العربي.
٭ ألا يطرح ذلك مشكلات اضافية نحن في غنى عنها اليوم ؟
ان المطلوب ليس المس من الثوابت وانما تعزيزها لكي تشمل تونس ودولتها الجميع . فالديمقراطية ليست مجرد جواز سفر للدخول الى السياسة. انها التزام.. اليك مثالا ثانيا : الاضافة يمكن أن تتعلق هنا بتثبيت الديمقراطية في نص الدستور وفي الهوية الوطنية . ولا ننسى بأنه في جلسة 14 أفريل للمجلس التأسيسي من عام 1956 نظر المجلس الوطني التأسيسي في مسألة «الهوية الرمزية لتونس وتحديدا في مسألة العروبة والإسلام في إطار مناقشة الفصل الأول من مشروع الدستور والذي نص في البداية على : المادة 1 : «تونس دولة عربية إسلامية». المادة 2 : «الشعب التونسي هو صاحب السيادة». المادة 3 : «الدولة التونسية تضمن حرية المعتقد وتحمي حرية القيام بالشعائر الدينية». ومنذ افتتاح الجلسة قدم رئيس الحكومة اقتراحا يشمل على: المادة 1: تونس دولة مستقلة ذات سيادة. المادة 2 : الشعب التونسي هو صاحب السيادة يباشرها على الوجه الذي يضبطه الدستور. المادة 3 : الإسلام دين الدولة والعربية لغتها. وعلى الرغم من ظهور مقترحين لدى النواب الأول يدعو الى اعتماد صيغة : تونس دولة عربية إسلامية حرة مستقلة» والثاني الى اعتماد عبارة «تونس دولة ديمقراطية مستقلة ذات سيادة كاملة» فلقد إتجه الاختيار نحو صياغة هي أقرب من الصياغة الأولى، أي بصيغة الفصل الأول الحالي. ولم يكن هناك حوار طويل بين النواب حول هذه المسألة على الرغم من أن نصف النواب كانوا قد تلقوا تعليما زيتونيا. في المقابل لم يكن بورقيبة يجهل الحوار النظري القائم بين «التقاليد» و«الحداثة» ولا بين الدين والعلم أو حتى العلمانية، كما أنه لم يكن يقلل من خطورة مثل هذا التنافس النظري خاصة وأنه لم يمض له على خروجه من أزمة صراعه مع صالح بن يوسف وبعض أنصاره من المؤسسة الدينية سوى وقت قليل. لقد كان بالامكان يومها اضافة العنوان المتعلق بالهوية الديمقراطية للدولة ...وهذا ما يمكن أن يتم تداركه اليوم.
٭ ما المقصود ببناء الوفاقات و كيف يتم ذلك؟
نحن مدعوون الى بناء وفاقات حقيقية وتاريخية جريئة . لا يتعلق الأمر بالسلطة وإنما بقيمة حضارية. لماذا يصر البعض على تصور أن كل يساري ملحد؟ وأن كل اسلامي هو مناوئ لحقوق المرأة وأن كل تجمعي أو دستوري هو خائن وأن كل رجل أمن أو حرس هو قناص و أن كل ثوري هو ديمقراطي بالضرورة. ان التعميمات والأحكام المسبقة هي سمة انعدام الحرية. يمكن أن تكون هناك ثقافة تعاقدية والعقد هو شريعة الأطراف. لقد قلت نحن في حاجة الى قيمة اخلاقية مضافة. لا يمكن لثورة أن تظهر بلا قيمة وبلا أخلاقية تحمل معها عناوينها الجديدة والمبتكرة. إنني أدعو أطفال البلاد ولما لا شبابها الى صياغة اعلان الثورة التونسية ككتلة من الأهداف العليا والنبيلة قد يكون من أهمها المطالبة بثقافة تعاقدية وبمجتمع تعاقدي لا هو بالديني ولا بالعلماني. نريد دولة تدبير كما يقول أجدادنا أي دولة اجرائية للجميع. مرة أخرى: العقد الحر هو شريعة الطرفين. في اسبانيا وصل الانتقال السياسي بعد وفاة الجنرال فرانكو الى طريق مسدود يشبه الوضع القائم اليوم. وكانت مؤشرات الاقتصاد في تراجع مع تزايد معدلات التضخم الذي وصل الى نسبة 47 بالمائة. لم يكن رد النخبة دستوريا فقط وانما سياسيا وأخلاقيا من خلال سن ميثاق للانتقال السياسي. نحن ربما لم نعد بحاجة الى مجلس ثورة بقدر ما نحن في حاجة الى ميثاق عمل لحماية الثورة. صحيح أن الدستور هو الآلة الجرارة الضخمة من حيث كونه قانون القوانين. لكن فوق القانون وفوق الدستور توجد الحقوق. وكما يقول الزعيم المصري سعد زغلول «قانون فوق القوة وحق فوق القانون». ما معنى ذلك. ؟ أي لا بد من وجود عقد أخلاقي للثورة. الثورة الفرنسية صدر عن مجلسها التأسيسي نص دستور كما صدر عنها اعلان حقوق الانسان والمواطن. ونحن في حاجة الى الآلة الجرارة التي تنهي مع النظام السلطاني القديم (الرئاسي المتصلب) والى روح مدنية لتشحيم عجلات القاطرة وضمان مركب الثقة في الحياة العامة. نريد من جيمع الأطراف ان تسجل التزاما تاريخيا مكتوبا باحترام الديمقراطية كمبدإ وكنمط للحكم وللحياة حتى نسقط في الاستعمال الدعائي لذلك. ويعني ذلك أن يتنازل الاسلامي مقدما ضمانات لغيره من خلال التأكيد مثلا على أن القوانين يجب أن تكون موضوع اتفاق مدني وأن تكون الدولة مدنية ...وأن يقدم العلماني ضمانات بعدم الاقصاء وبعدم تجريم الحالة الايمانية في المجتمع أو التدين. ثمة حاجة الى أن يعيش اليسار التونسي حالة برسترويكا ذهنية وأن يتحول الاسلام السياسي الى حالة تعاقدية ومدنية صريحة على طريقة الديمقراطيات المسيحية. لا شيء يبرر الخوف من الحالة الاسلامية.
٭ منذ 14 جانفي دخلت تونس في مرحلة جديدة شعارها الثورة. كيف تفهم كل ما حدث إلى حد الآن؟ ومن هم الفاعلون الحقيقيون في ظل غياب الأحزاب التي كان دورها ثانويا ؟
الأحزاب كانت حاضرة ولكنها اهترأت نتيجة للقمع وفاقد الشيء لا يعطيه. وما ظهر فيما يتعلق بضعف حضور الأحزاب هو نتيجة وليس مقدمة جديدة. نحن هنا لم يبق أمامنا سوى المشهد الخلدوني لكي يعيد نفسه، اي الهامش الذي غالب الدولة وغالب المركز. ان ما حدث يقع خارج سياقات التنمية السياسية بالمعنى التقليدي. لماذا؟ لأن أدوات التحرك كانت اما انتفاضية (تحرك الهامش من خلال تعبئة قوى شعبية) أو ما بعد حداثية (من خلال الدور الذي لعبه الانترنيت ولعبته أيضا الفضائيات). بعد نهاية جانفي دخل المجتمع مرحلة عمل مطلبي أصبحت تتصاعد على وتيرة تردد الأداء الحكومي وغموض بعض الجوانب السياسية والأمنية. ثمة مشهدين محتملين للتغير السياسي اليوم، مشهد استمرارية انتفاضة الهامش على المخزن أو على المركز. وهذا المشهد تكرر باستمرار في تاريخ تونس من خلال العديد من الانتفاضات كما حدث في 1978 ثم من خلال انتفاضة الخبز وانتفاضة الحوض المنجمي. المشهد الثاني يمر من المدينة ومن المركز وليس فقط من الهامش أو المناطق الداخلية المهمشة، وهو مشهد تميزت به تاريخيا الثورات التي حصلت منذ القرن السابع عشر نتيجة تطور مجتمعات المدن وحواملها الطبيعية، أي الاعلام والأحزاب والجمعيات..الخ.
٭ هل كانت التطورات نتيجة حتمية لسوء ادارة الأزمة والاحداث التي اندلعت في سيدي بوزيد أم ثمة سياق اقليمي وربما دولي رشح للتطورات التي وصلت الى حد الثورة؟
بخلاف ما يقال، لم تبدأ معركة الاحتراق الانتحاري بعنوان الكرامة مع استشهاد محمد البوعزيزي وانما منذ عام 1990 عندما قام شاب في احدى ولايات الداخل (سليانة) وأمام مقر الولاية باحراق نفسه احتجاجا على سوء المعاملة. هذا الحدث أدى الى نشوب ثورة محلية لم تشأ لها الأقدار أن تبث في الفضائيات ولا في الشبكات الاجتماعية، بحيث قتل الحدث وهو في المهد ولم تظهر سوى احتجاجات دولية من خارج البلاد وفي غياب شبه كامل للرأي العام المحلي. بعد ذلك تكاثرت الظاهرة بشكل مباشر (من خلال انتحارات ذات دلالة مباشرة كتلك التي كانت تقع في أقصى الجنوب التونسي ببن قردان) وغير مباشر (كتلك التي كانت تحدث في مدينة دوز الصحراوية).
لست ممن يتصور بأن من قام بالثورة هم من الطبقة الوسطى. قبل 14 جانفي كان النظام السياسي يفاخر بأن الطبقة الوسطى تبلغ 80 بالمائة من مجموع الشعب التونسي . بعض دراسات البنك الدولي تتحدث عن 47 و 48 بالمائة باعتبارها نسبة الطبقة الوسطى من مجموع الشعب. وهذا الرقم ليس سلبيا في حد ذاته من حيث أن الطبقة الوسطى أصبحت تمثل نصف المجتمع تقريبا. ويمثل هذا الرقم معطى هاما في تفسير ما حدث عشية 14 جانفي من حيث قدرة المنحدرين من هذه الطبقة، بعد أن أعلن بدايتها من أقصى وأطراف المدن (سيدي بوزيد) على التحكم في النظام عن بعد ومراقبته الكترونيا عبر الفايسبوك، في وقت ركزت فيه السلطة على مراقبة النخب الكترونيا واعلاميا. لقد جاء التغيير هذه المرة ، لا من المدينة ، وانما من أقصى المدينة ليطاول السلطة بالمعنى الخلدوني للكلمة، قبل أن تدخل الطبقة الوسطى على الخط.
لقد احتلت المدينة في تونس قبل ظهور دولة الاستقلال بموقع طفيلي للغاية لا يخولها تشكيل شبكية مدنية أو ثقافية خاصة بها ومستقلة، نظرا للدور المهيمن للريف وللهجرة الداخلية أولا ثم لرغبة «السياسي» في المراحل اللاحقة في الحضور داخل كل المواقع. وقد فسّر هذا الوضع غياب أو ضعف التقاليد المطلبية وإنسداد الأفق التبادلي داخل الفضاء المديني. إلا أنه ومع ذلك فلقد نجحت القيادة السياسية في التحكم وإلى حد ما في الأوضاع الديمغرافية بشكل خاص نتيجة السياسة الحازمة في تنظيم النسل مما جعل المجتمع المديني التونسي يتجنب حالة التهميش الكامل أو تبادل العنف المنظم والذي كان ولا يزال وراء انتصارات النخب العسكرية والقوى السياسية ذات البدائل القصوي في مناطق أخرى وبلدان أخرى.
٭ كيف يمكن أن تحصل مثل هذه النقلة من الاحتجاج الانتفاضي الى الاحتجاج المطلبي ثم الى مرحلة بناء وإعادة تثبيت الشرعية السياسية في سياق أصبح يتسم أحيانا بمواجهات شارعية واعتصامات أمام الوزرات تكاد أن تكون يومية؟
في ظل الاستبداد كان الشارع يفهم كل شيء الا أنه لا يقول شيئا اما اليوم فهو لا يفهم كثير شيء الا أنه يقول كل شيء. نحن أمام حالي تخمة أو شطط في السلوك الاعتراضي، وهو أمر طبيعي للغاية. لكن علينا أن نقول بأنه اذا طال أمد شد الحبال والاعتصامات من دون أن تعطى الحكومة المؤقتة اشارات واضحة في اتجاه تأكيد الشرعية الدستورية بصيغة جديدة وأكثر حسما (بقطع النظر عن مسلك التأسيسي أو المؤتمر الوطني) ستتكرر ربما أحداث الاسبوع الماضي لا قدر الله. الالتزام باجراء انتخابات من هنا الى شهر جويلية كما أكد بيان مجلس الوزراء هام ولكن غير كاف في نظري . صحيح هناك المخاطر المتعلقة بوضع الاقتصاد الوطني من خلال مصير قطاع السياحة الذي يشغل لوحده ما يقارب 700 ألف مواطن (بين عمل مباشر غير مباشر)، وصحيح أيضا بأنه ثمة خسائر تقدر بثماني مليارات دولارات، ولهذه الأسباب لا بد من التحرك العاجل واعطاء اشارات قوية الى الشارع. هناك من يندس ضمن أوساط المعتصمين والمغامرة غير محمودة العواقب.
٭ مر الآن مرعلى تاريخ 14 جانفي ما يقارب الشهر والنصف وجاز النظر الى الأحداث من خلال مسافة زمنية .ماعلاقة الثورات في المنطقة العربية بسلسلة الانتحار أو الاستشهاد بالاحتراق والتي انتشرت في أكثر من موقع في البلاد العربية بعد الثورة هل لها دلالاتها النفسية والسوسيولوجية أم ثمة مسار اقليمي يمكن أن يطرح حوله بعض نقاط الاستفهام؟
لقد توحدنا كعرب في مآسينا فلماذا نستغرب اذا تشابهنا في الحرية؟ ان الحل دائما هو من جنس المشكل. تونس كانت بداية لكرة اللهب .يقول المثل السائر في الجنوب التونسي «النار ولا العار» . وبخلاف ما يعتقد فان النار تلعب في المخيال الجماعي الزمني والذهنيات دور المطهر. هناك أسطورة يوردها المؤرخ اليوناني هيرودوت تتجلى فيها علاقة النار بالتجدد من خلال قصة الفينكس L'oiseau de Phénix أو العنقاء والتي حين أرادت أن تولد ثانية، تركت موطنها واتجهت إلى فينيقيا واختارت نخلة شاهقة العلو لها قمة تصل إلى السماء، وبنت لها عشاً. بعد ذلك تموت في النار، ومن رمادها يخرج مخلوق جديد.. دودة لها لون كاللبن تتحول إلى شرنقة، وتخرج من هذه الشرنقة عنقاء جديدة تطير عائدة إلى موطنها الأصلي، وتحمل كل بقايا جسدها القديم إلى مذبح الشمس في هليوبوليس بمصر، ويحيي شعب مصر هذا الطائر العجيب، قبل أن يعود لبلده في الشرق. ومرة أخرى تظهر رمزية النار عندما جاء بْرُومِثْيوس لكي يسرقها ويمنحها إلى مخلوقات الأرض مما أدى إلى غضب زْيوس عليه... أما في الأديان التوحيدية وفي المخيال الاسلامي، فلقد اقترنت النار بالتراث الصوفي والتي تعني الاحتراق في المطلق وفي المعبود . ثمة علامات فارقة في رمزية النار والاحتراق تذكر بفعل الاحتراق بمياه البحر (الحرقة من خلال الهجرة السرية) أو من خلال غسل عار (النار ولا العار) أو من خلال تدمير الذات للولادة. ولنقارن هنا بين تزايد الاحتراق – الانتحاري وبين تزايد الاحتراق – الغرقي في البحر في أوساط الشباب.
لكن المسألة تتجاوز بالتأكيد الفعل الفردي المنعزل . انه ليس مجرد فعل تراجيدي أو حتى ملحمي بقدر ما هو نتيجة لتراكمات ولدوافع اجتماعية وسياسية.
لنعد الى ما قبل الفعل التراجيدي أو الملحمي الذي تحدثت عنه . كان سقوط الدولة المتواصل ضمن نطاق اقتصاد «البازار» ان لم أقل اقتصاد العصابات، بمثابة المؤشر على تفكك ما تبقى من التماسك الاجتماعي في مناطق الداخل. وفيما يتعلق بالجنوب الغربي تحديدا، فلقد كانت التغييرات التي طرأت على شركة فسفاط قفصة بمثابة المحك الذي من خلاله انكشفت محدودية الدور التنموي للدولة. لقدكانت تضم الشركة ما يقارب 17 ألف عامل متفرغ خلال الأعوام القليلة الماضية ليتحول عدد العمال فيها الى 5 آلاف مع نسبة للبطالة في الجهة تقارب 38بالمائة. في نفس الوقت سجلت أسعار الفسفاط العالمية ارتفاعا ملحوظا كما تزايدت أرباح الشركة مع تزايد اجراءات التسريح. وقد أدت انتفاضة الرديف الى انكشاف المدى المحدود الذي يعمل من خلاله الاعتراض المطلبي وكذلك هامش المفاوضات مع الدولة. وبالمناسبة يجب أن نشير الى أن الدولة بعثت مفاوضين محسوبين على اليسار أو هم من زعامات اليسار الطلابية القديمة ووظفتهم للضحك على ذقون الناس. وهؤلاء يتحدثون اليوم باسم الثورة ومنهم من شكل اليوم أحزابا.
قلت أكدت أحداث الحوض المنجمي وبما لا يدع مجالا للشك هيمنة الطابع الجهوي على الخطاب والفعل السياسيين، مع ظهور ملمح قبلي أو أسري واسع حدد للعديد من المعطيات. إنها الصيغة القديمة لعلاقة المخزن (الدولة المركزية ) مع الهامش. ومن خلال هذا الهامش ظهرت سلبيات الحكم المركزي من خلال ترابطات الحكم المحلي مع المصلحيات المباشرة : النقابة المركزية من ناحية والتي لم تنجح في إدارتها للمفاوضات باسم الأهالي، والسلط الجهوية ثانيا، ثم أداء الحكومة الأمني من ناحية أخرى . كما أكدت معطيات الأزمة آن ذاك، إلى أي حد استشرى الفساد الإداري والمالي وكيف تراجعت الحكومة في كل الاتفاقيات المبرمة، وحتى عن المشاريع التي وعدت بها، واكتفت بشركات المناولة التي جعل منها القائمون عليها مصدرا للثراء والنهب والسرقة والتلاعب بالمال العام، وحتى المسرّحون لم تسع السلطة إلى إدماجهم مما زاد في أجواء الاحتقان والتوتّر. وبشكل لم يسبق له مثيل في تاريخ تونس المعاصر، تداخل المحلي بالمركزي والاقتصاد العام مع اقتصاد «العصابة» (أو ما عرف في الشارع باقتصاد المافيا) مثلما تداخل الخاص مع العام والديني مع السياسي والسياسي مع الثقافي وحتى وجوه الأنشطة الرياضية.
٭ كيف نفسر غياب الاحزاب عن المشهد و ضعف شعبيتها ؟ هل من الممكن اليوم الدخول في انتخابات بهذا الوضع؟
فاقد الشيء لا يعطيه. ثمة القمع الذي واجهته تلك الاحزاب، التي اختارت نهج المنافسة السياسية ندا لند. ونعلم جميعا ما حدث لها. ثمة في الطرف الآخر ظاهرة الأحزاب «الكمبارس» التي كانت كالأشباح في المشهد. لقد حول الجنرال بن علي المجتمع السياسي إلى مجال يشبه الاقطاعات ،وهو ما كان يؤكد صعوبة ظهور الحزب كمقاول سياسي مستقل. فمن الناحية العملية، وفي رأي الجمهور والرأي العام، انتفعت الأحزاب بإعانات مالية لمواجهة نفقاتها، كما تمتعت بمنح لإصدار صحف الرأي (ثمانين ألف دولار سنويا) وبموظفين (اثنان أو ثلاثة) موضوعين لخدمتها. لقد كان الهدف من وراء تكوين الأحزاب «الكمبارس»هو ومن دون شك، إسباغ الشرعية على حالة الحزب المهيمن وإعطائها دورا ثانويا وشكليا ضمن ما كان يعرف بعملية «البناء الديمقراطي». وتنطبق هذه الحالة بشكل أكبر على حزب التجديد التونسي وحركة الوحدة الشعبية والإتحاد الديمقراطي الوحدوي، حيث يمكن أن نقول وبكل موضوعية بأن الحزب القانوني الوحيد الذي عمل على الانخراط الفعلي في الثورة هو الحزب التقدمي الاشتراكي. أما فيما يتعلّق بالتيار الديمقراطي الاشتراكي فلقد تقلّص دوره التفويضي وحضوره الإعلامي والمدني وخاصة داخل الرابطة التونسية لحقوق الإنسان وصفوف الأساتذة الجامعيين والذين كانوا يشكلون نواته التأسيسية، مع ظهور دور فاعل متزايد لحزب السيد مصطفى بن جعفر. وفي واقع الأمر، فان استبعاد حركة النهضة، خلال العشريتين الأخيرتين، كان من الممكن أن يكون ثمنه مكلفا، من ناحية تنامي حالات الانفلات الايديولوجي ورجوع الجماعات السلفية الجهادية (المجموعة المسلحة التي ظهرت سنة 2007) أو الجماعات الشيعية (في الجنوب الغربي). في هذا السياق لم يبق سوى الاتحاد العام التونسي للشغل بتناقضاته وهيئة المحامين التي نعتقد بأنها قد لعبت دورا سيشهد لها به التاريخ.
٭ الميثاق واعادة بناء الثقة يحتاج الى آليات عمل. كيف ترونها؟
هناك المشروعية والقانون أولا . يجب الدخول بجرأة في اتجاه توضيح الرؤية. هناك أيضا الطمأنة النفسية وهو ما تقوم به اللجان. ردود الفعل التى قامت حول عملها في ظني مبالغ فيها. لم يكن من الممكن اعطاء التحقيق للقضاء ولا للأمن في الوقت الحالي نظرا للشبهات التى دارت حول استقلالية القضاء (وما بالك بالأمن) خلال الحقبة الماضية. لكن حصل في مستوى اللجان ما حصل للحكومة. النوايا كانت طيبة ورؤساء اللجان حصدوا اجماعا حول نزاهتهم. لكن ما حصل تعلق بآلية عملها واطارها القانوني وصلوحيات القرار واجندة التنفيذ. وهذه مسائل لابد من التنبه لها. في نفس الوقت من الممكن أن تتم الدعوة الى تكوين مجلس ميثاق وطني ولا ننسى بأن تعليق العمل بالميثاق الوطني في التسعينات وتعليق عمل هيئته من طرف الرئيس السابق، كان أكبر مؤشرا للانزلاق مجددا في اتجاه الدكتاتورية. لقد ترجم الميثاق مؤسسيا كتجربة للعقد السياسي عبر لحظتين. الأولى كانت قد تمثلت في بعث المجلس الأعلى للميثاق الوطني، وقد شاركت فيه جميع الأحزاب السياسية والأطراف الاجتماعية. كما أقرّت هذه الأطراف المجتمعة والممضية بكل المبادئ الوفاقية والتي من أهمها في مستوى التعامل السياسي:
اعتماد لغة الحوار
نبذ العنف والاعتراف بالمكاسب التحررية لدولة الاستقلال.
يذكرنا ما حصل بما يحصل اليوم في مستوى مجلس حماية الثورة.لقد ظهرت آن ذاك بعض الأصوات المطالبة بضرورة توضيح مهام «المجلس» وفيما إذا كانت مهمته إستشارية أو تشاورية. كل ذلك كان قد مهّد لتحركات موالية قامت بها لجنة ثلاثية بتكليف من الرئاسة وتحت إشراف السيد صلاح الدين معاوية وبمشاركة السيد حسيب بن عمار (وقد كانا من أشد المتحمّسين للتجربة التعددية منذ السبعينات) حيث قامت اللجنة بتحريك عجلات الحوار مجددا مع المعارضة، وهو ما نتج عنه منذ شهر مارس 1991 الإعلان الرئاسي عن تأسيس «الهيئة العليا للميثاق الوطني» . لكن الخطأ جاء من المعارضة التي انخرطت في السلطة. لنتذكر ما قاله أحد الفاعلين الرئيسيين في تجربة الميثاق الوطني وهو السيد أحمد المستيري عنما صرح مؤخرا كيف..التفت حول نص الميثاق الوطني مجموعة من الناس تمثل الجميع ومنهم الاسلاميون...وفي جلسة الامضاء أبدى المستيري الرأي فيما يخص الميثاق الوطني وقال لبن علي أن الغرض من هذا الميثاق هو أن لا تعود تونس الى 6 نوفمبر 1987 ..ويقول السيد أحمد المستيري بأن الرئيس السابق ظل صامتا ولم يجبني .لقد وقع الاختيار على السيد محمد الشرفي رحمه الله بصفته خبير قانون (ولكن ايضا بصفته وزيرا وناشط حقوق انسان) لرئاسة لجنة اعداد الميثاق ...وأن هذا الأخير كان قد طلب من أعضاء اللجنة حذف عبارة «والعمل على التداول على الحكم أو على منصب الرئيس» لأن بن علي لن يقبل بذلك»حسب قوله. كيف يمكن لمثقف ديمقراطي وتقدمي أن يكون مقص اقتطاع رقابي على مشروع خلاص سياسي وفاقي كان من الممكن أن يفتح أبواب انتقال سياسي حقيقي؟ انها لعبة السياسة. لذا لابد اليوم من التفكير بجدية في امكانية وجود هيئة ميثاقية يمكن أن تكون يوما ما نواة أولى للغرفة الثانية أو غرفة المستشارين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.