أجبرت ثورة الحرية والكرامة الدكتاتور على الإعلان خلال أيامه الأخيرة عن إحداث ثلاث لجان منها لجنة تقصي الحقائق حول الفساد والرشوة. وبعد انطلاق هذه الأخيرة في نشاطها وصدور المرسوم المنظم لمهامها تحت عدد 7 لسنة 2011 المؤرخ في 18 فيفري 2011، تبين قيامها بتجاوزات هامة إضافة إلى تضمن نص المرسوم لثغرات كما يلي: 1 حول استقلالية اللجنة ورئيسها: 1 1 اللجنة: رغم إحداث اللجنة المذكورة قانونيا عبر المرسوم المشار إليه أعلاه والمنشور بالرائد الرسمي عدد 13 بتاريخ غرة مارس2011، فإن اعتبار هذه اللجنة هيئة مستقلة مثير للجدل بما أن إحداثها تم اتخاذه بقرار سياسي أعلن عنه الرئيس السابق يوم 12 جانفي 2011 وتعهد الوزير الأول حينها بتجسيمه من خلال الكلمة التي ألقاها في ظل ذلك النظام مساء يوم الجمعة 14 جانفي 2011 عند تنصيبه لنفسه رئيسا للجمهورية بالنيابة إثر فرار بن علي. كما أن مباشرة اللجنة مهامها الفعلية قبل صدور مرسوم إحداثها في 18 فيفري 2011 لكي يصبح قابلا للعمل به وقيامها منذ31 جانفي 2011 بتلقي الملفات والاستماع الى بعض المشتكين وتوليها في ما بعد أعمال تفتيش وحجز إلخ... ما كان ليكون ولا موافقة السلطة التنفيذية التي ساعدتها على إنجاز ذلك رغم تحفظ أطراف من المجتمع المدني والسلطة القضائية. وقد تأكد تدخل السلطة التنفيذية بعد 14 جانفي 2011 واتخاذها لمواقف لصالح هذه اللجنة خاصة في معالجة النزاع القائم حاليا بينها وبين السلطة القضائية وغيرها، من ذلك تصريحات وتلميحات الوزير الأول الحالي حول الأحكام الصادرة مؤخرا والطاعنة في مدى قانونية أعمال هذه اللجنة المنعوتة بسلطة قضائية موازية، وهو ما يفسر ويدعم الطعن في مدى استقلالية اللجنة عن السلطة القائمة. 1 2 رئيس اللجنة: لئن تم تعيين رئيس اللجنة الحالي قانونيا بمقتضى الأمر عدد 235 المؤرخ في 19 فيفري 2011 والصادر بالرائد الرسمي عدد 14 بتاريخ 04 مارس 2011، فإن ذلك تم في الواقع الإعلان عنه من قبل الوزير الأول السابق منذ يوم 17 جانفي 2011. والأهم من ذلك هو عدم توفر شرط الاستقلالية الوارد بمرسوم إحداث اللجنة المذكور أعلاه في رئيسها الحالي لعدة أسباب منها تعدد الخدمات التي قدمها هذا الرئيس خلال السنوات الماضية لفائدة نظام بن علي ورموزه خارج البلاد وداخلها. فخارج البلاد تولى رئيس اللجنة الحالي تلميع صورة هذا النظام والتستر على فساده وقمعه للحريات الفردية والعامة من خلال نشاطه بالمنظمات والهيئات الدولية المعنية بحقوق الإنسان التي التحق بها سواء بتزكية من النظام أو من خلال ترشح الدولة التونسية لعضوية إحدى المنظمات الحقوقية الراجعة لمنظمة الأممالمتحدة منها عضوية مجلس حقوق الإنسان في شهر ماي 2006. أما داخل البلاد فقد أسهم رئيس اللجنة في أعمال لجان مراجعة الدستور بما يخدم مصالح ذلك النظام ويطيل عمره ويشدد قبضته على الشعب ويسهل عليه المزيد من نهب ثروات البلاد، علاوة على مساهمته في لجان إسناد جوائز 7 نوفمبر التي كان الحزب الحاكم ينظمها سنويا وعبر تصريحاته المنوهة بصفة مباشرة أو غير مباشرة بالنظام القائم إثر مقابلاته لرئيسه أو قبول التوسيم منه. كما تجدر الإشارة إلى أن اشتراط المرسوم تعيين رئيس اللجنة من بين المشهود لهم بالكفاءة في الميدان السياسي يعتبر إقرارا بأن الرئيس الحالي الذي تم تعيينه شخصية ناشطة ذات شأن في المجال السياسي، غير أننا لم نشهد له خلال الفترة السابقة لتاريخ 14 جانفي2011 أي نشاط سياسي ضمن أحزاب معارضة أو داخل منظمات المجتمع المدني الوطنية والمستقلة فعليا عن النظام القائم حينها. وهكذا يتضح أنه إذا كان له نشاط سياسي فهو يندرج ضمن النظام القائم خلال تلك الفترة، وهو ما ينفي عنه صفة الاستقلالية. 2 إعفاء رئيس اللجنة من أية إلتزامات أو محاسبة خلافا لأعضائها: لقد نصت أحكام المرسوم على الفصل بين رئيس اللجنة وأعضائها في ما يتعلق بتعيينهم ومهامهم. كما تم حصر إلقاء أهم الواجبات على كاهل أعضاء اللجنة دون سحبها على رئيسها و التي وردت أساسا بالفصول من 10 إلى 13. وهكذا تعفى الأحكام الواردة بكافة فصول المرسوم رئيس اللجنة من أي التزامات أو محاسبة حتى وإن كانت في حدود ما فرضته تلك الأحكام على أعضائها. إلى جانب ذلك تجدر الإشارة إلى أن المرسوم نص على اعتماد صيغة التصويت إثر المداولات التي تجرى داخل الهيئة الفنية والتي تهم أعمالها دون تحديد المرسوم لصيغ تسيير مداولات الهيئة العامة واتخاذ قراراتها. 3 عدم احترام شروط تعيين أعضاء اللجنة المنصوص عليها بالمرسوم رغم ضعف وجاهتها: تستدعي عملية تعيين أعضاء الهيئة العامة والهيئة الفنية المشار إليهما ضمن الفصل الرابع من المرسوم ملاحظات عدة لا تخلو من مآخذ من أهمها: اشترط المرسوم تعيين أعضاء الهيئة الفنية من بين الخبراء الوطنيين دون سحب هذا الشرط (صفة الوطنية) على أعضاء الهيئة العامة حتى وإن كان المقصود من ذلك أن يكونوا من حاملي الجنسية التونسية. اشترط المرسوم تعيين أعضاء الهيئة العامة بعد التشاور مع المنظمات المعنية (دون تحديدها) وهذا يعني وجوب انتماء الأعضاء المستوجب تعيينهم إلى إحدى المنظمات وضرورة قيام رئيس اللجنة بالتشاور معها والتوافق على أسماء معينة غير أننا نلاحظ من ناحية، أن بعض الهيئات التي ينتمي إليها بعض الأعضاء المعينين تطعن في قانونية أو شرعية إحداث اللجنة المحدثة ومن ناحية أخرى، عدم انتماء البعض الآخر الى أية هيئة أو منظمة ذات نشاط واسع وهام داخل البلاد. اشترط الفصل الرابع من المرسوم أن لا يقل عدد أعضاء كل هيئة عن العشرة (دون اعتبار رئيس اللجنة)، غير أن رئيس اللجنة أعلن رسميا وعلنيا عن قائمة اسمية بتسعة أعضاء فقط بالنسبة إلى الهيئة العامة ولم يصرح أو ينشر إلى غاية هذا التاريخ القائمة الاسمية لأعضاء الهيئة الفنية. 4 سطو اللجنة على مهام موكولة قانونا إلى مؤسسات مختصة وغموض يكتنف مصير أعمالها: 4 1 جمع اللجنة بين مهام هيا كل الرقابة الإدارية والمالية ومهام أجهزة البحث القضائي: نص الفصل الثاني من المرسوم على أن تتعهد الهيئة العامة بالنظر في التوجهات الأساسية لعمل اللجنة ووضع التطورات المستقبلية للتصدي لمظاهر الرشوة والفساد. وجاء بالفصل الثالث أن الهيئة الفنية تتعهد بالكشف عن الحقائق المتعلقة بحالات الفساد والرشوة التي قام بها أو استفاد منها أي شخص مادي / أو معنوي عمومي أو خاص أو مجموعة أشخاص بفعل موقعه في الدولة أو الإدارة أو بفعل قرابته أو مصاهرته أو أي علاقة أخرى مهما كانت طبيعتها مع مسؤول أو مجموعة مسؤولين في الدولة خاصة خلال الفترة الممتدة من 7 نوفمبر 1987 إلى 14 جانفي 2011. وفي هذا الإطار تتعهد الهيئة الفنية بتجميع المعلومات والوثائق والشهادات التي من شأنها أن تمكن من تقصي الحقائق بخصوص ارتكاب جرائم فساد مالي أو إداري أو جرائم إرشاء وإرتشاء من قبل أي شخص مادي أو معنوي عمومي أو خاص أو أي تنظيم أو جمعية أو هيئة مهما كانت طبيعتها والتثبت في المعلومات والوثائق المجمعة ومدى صحتها قبل إحالتها على السلط القضائية المختصة قصد تتبع مرتكبي هذه الجرائم ولها أن تقوم بأعمال التفتيش وحجز الوثائق والمنقولات بكل المحلات المهنية والخاصة التي ترى ضرورة تفتيشها وذلك دون إجراء آخر. ونلاحظ من خلال ما سبق، أن المرسوم أوكل أعمال التقصي الفعلية إلى الهيئة الفنية وهي تتمثل في الكشف عن الحقائق وفي تجميع المعلومات والوثائق والشهادات وفي التثبت في مدى صحتها وفي تفتيش المحلات وحجز الوثائق والمنقولات، وتم حصر مشمولات الهيئة العامة في النظر في التوجهات الأساسية لعمل اللجنة ووضع التصورات المستقبلية للتصدي لمظاهر الرشوة والفساد. لكن الواقع يخالف ذلك، إذ تكرر ظهور رئيس اللجنة وبعض أعضاء الهيئة العامة عبر الشاشات التلفزية وهم يقومون بأعمال التفتيش والحجز إلى جانب تصريحاتهم لوسائل الإعلام المكتوبة والمسموعة حول قيامهم بأعمال تجميع المعلومات والشهادات لدى بعض المشتبه بهم أو الشهود. وتم عمليا تغييب الظهور الإعلامي لأعضاء الهيئة الفنية وقد يكون ذلك التغييب مقصودا وقد يهدف ذلك الاحتكار للظهور الإعلامي من قبل رئيس اللجنة وبعض أعضاء الهيئة العامة إلى التحكم في مسار التقصي وتوجيه أعماله ونتائجه إعلاميا على الأقل لما تريده السلطة التنفيذية الحالية، علما أن رئيس اللجنة لم يدل إلى غاية هذا التاريخ بأي معلومات عما تكون أنجزته الهيئة العامة في إطار مشمولاتها التي ضبطها مرسوم إحداث اللجنة. 4 2 حول مصير أعمال اللجنة: إن اقتصار الإحالة على السلط القضائية لحالات الجرائم التي تمكنت اللجنة من التثبت من صحتها يطرح سؤالين اثنين: هل أن لجنة التقصي المحدثة بإرادة وبإشراف السلطة التنفيذية مؤهلة دستوريا (من منظور فصل السلطات) والقيام بأعمال التفتيش والحجز دون مراعاة الإجراءات القضائية المعتمدة وتقييم أوراق الملفات موضوع التقصي وخاصة الحكم على أنه توفرت بها أركان الجريمة من عدمها علما أن المرسوم لم يحدد معايير هذا التقييم. أي مصير ينتظر الملفات التي لا يرتقي مضمونها حسب اللجنة إلى مستوى الجريمة علما أن المرسوم لم يحدد هذا المصير، وأن تدارسها مباشرة من قبل السلط القضائية المختصة قد يمكن هذه الأخيرة من حصر أركان جرائم ضمن البعض منها. وخلاصة القول، أن هذه اللجنة المحدثة بمقتضى مرسوم تشكو صياغته من عديد الثغرات تتولى فعليا مهاما موكولة أصلا إلى هياكل الرقابة العامة و دائرة المحاسبات وكذلك إلى السلط القضائية في جزء من مشمولاتها . و الثابت أن النقائص المبينة أعلاه تعتبر غير مبررة حتى و إ ن كانت هذه الهياكل والأجهزة مطعون في شفافية العديد من أعمالها وأحكامها من قبل قسaم كبير من الرأي العام.