«سي سليم، بعد ما انكمّل الحوار مع سامي عمامو نروّح من الغادي إل غادي؟» «Ok... محمد». هذه الكلمات... كانت آخر كلمات زميلي الصغير الأستاذ محمد الهمامي صبيحة يوم الاثنين وبعدها لم يأتني صوته لأنه سكت في غفلة منّا إلى الأبد... كنت أعرف «غادي» الأولى ولم أكن أدري أن «غادي» الثانية هي المكان الأخير وإلا ما تركت ولدي الغالي يذهب دون أن يستعد للرحيل... لن أحدثكم عن محمد الهمامي لأن حروف الأبجدية لن تطال هامته لكني سأقول إنه كان «ابن الموت»... ولم تكن تربطه أي صلة بالحياة وإلا لكان «عمل منها رأس مال»... فهذا الشاب الذي لم يتجاوز عمره السادسة والعشرين جاءني منذ أكثر من سنتين طالبا وأبدع أثناء تربصه في القسم الذي أشرف عليه فاقتربت منه أكثر وقلت له حرفيا «حاسبني بالشهادة نحاسبك بالخدمة معانا» وكان أمر الله مقضيا عندما تحصل على الأستاذية في الصحافة و علوم الإخبار فانتمى إلى قسم الرياضة منذ أكثر من عام سطع فيها نجمه كأروع ما يكون وكنت أقول له دوما «سترى يا محمد في ظرف عامين أو ثلاثة ستصبح الأفضل على الساحة الإعلامية» لكن الأيام لم تمهله ليرى نجمه في سماء الإعلام... بل انطفأت شمعته في عز الأحلام... محمد الهمامي لم يكن من صلبي.. لكنه كان ولدي.. والدليل القاطع أن رحيله مزّق كبدي... محمد لم يكن مشاكسا مثل أنداده بل كان هادئا، رصينا حييئا، خجولا تستحي منه جدران المكتب... هذا المكتب الذي كان يصله رغم بُعد مسكنه الأول كل صباح تليه منى البوعزيزي فسامي حماني وكثيرا ما أكون أنا الأخير.. ليتني كنت الأول يا ولدي... وليتك كنت الأخير... لا أدري ولدي الغالي ما أقول لك وقد رحلت.. ولا أدري لماذا أكتب لك أصلا... بل لا أدري إن كنت فعلا ذهبت ولم تودّع أحدا منّا.. أم أنك كعادتك خجلت من مراسم الوداع فآثرت الرحيل في صمت مهيب لترسم أكثر من دمعة حزن داخل قلب أكثر من حبيب... هل تذكر «محمد» كلما خاطبتك هاتفيا لأقول لك «بجاه ربي بوس لي الوالدة من جبينها» (ليقيني أنها أفضل قبلة للأم بعد قبلة القدم) وكنت تقول لي دوما «راهي ديما تدعيلك» هل تصدّق «محمد» أنني جئت إلى داركم.. وهل تصدّق يا ولدي الرائع أني أخذت والدتك بين ذراعي وبكينا سويا عليك.. لأنك كنت طوال ست وعشرين سنة ولدها وأصبحت منذ أكثر من عام ولدي... عندما التقينا في بيت كان من المفروض أن تكون أنت فيه خجلت من نفسي ولم أعلم كيف أناديها.. ولا كيف أسميها... وقد كنت صدقا أستحق العزاء قبل أن أعزيها.. ولدي الرائع محمد الهمامي.. مقعدك داخل المكتب يسأل عنك... ومنى البوعزيزي التي لم يندمل جرحها بعد ولم تجف مآقيها بعد وداع شقيقها منذ أيام (وهو في نفس عمرك.. يا لغرابة الدنيا) لم تصدّق ما حدث... وسامي حماني «عشيرك» منذ كنتما طالبين يبكيك بحرقة.. ومعز بوطار عزّاني فيك حوالي منتصف الليل وكان في قمة التأثر.. ومحمد ميلاد بكى على ذبذبات هاتفي كما تبكي الثكالى... و.. وكلنا كنا نحبك لأنك كنت جميلا... ولأنك كنت أصيلا... ولأنك كنت سيدنا حتى وإن لم يكن عمرك طويلا... هل أنت تبصرني.. هل مازلت تبصرني وصورتك في قلبي تشتعل.. فلا هو انطفأ ولا انطفأ الحريق... أما زلت تردني عندما يغلبني صهيل أحزاني وأسربل لوعتي في ضحكة صفراء... أما زلتَ قادرا عليّ عندما أحدثك عن موت الأحلام في بكارتها وهي عذراء...؟ أما زلت لا تصدق وأنت تحت اللحد أن هذه الدنيا لا أمان فيها ولا لها.. وأنه لا يأتمنها إلا البلهاء...؟ حبيبي الغالي وزميلي الرائع وولدي الطاهر، نم قرير العين في مثواك الأخير ورزق الله أهلك وذويك جميل الصبر والسلوان... فقد أحرجني قلمي معك وعجز أن يرسم لك آخر بسمة وأنت تنام وحدك... ولم يبق لي إلا أن أدعو لك ربّا رؤوفا إذا دعوته يستجيب لك.. مع كلمات للشاعر العراقي الكبير حسين القاصد و كأنها مكتوبة منذ البدء لك... «هنا كنتَ تملي علينا أنينك وتزرع فينا يقينا ظنونك أتذكر؟ كنت تخيط الغيوم لتمطر شعرا يباكي شجونك هنا كنتَ، كان الجميع إليك يشير ويطمح في أن يكونك وها قد رحلت وظل السؤال الوحيد لديهم لماذا ترمّلُ هذي الدموع أوقت البكاء سرقت عيونك تعالى لتكمل ما قلت لي أعد من جديد فهم يجهلونك وهم يكرهونك وهم يعشقونك وهم يفرحون إذا يشبهونك لماذا انتشرت كعطر لذيذ سريعا ورحتَ، فهل يذكرونك لأنّك متَّ فقد خُنتني... لذا سوف أبقى هنا كي أخونك.. حبيبي هو الموت لا يستحي لذلك طالت يداه شؤونك لماذا استحييت وطاوعته وأسدلتَ وقت اللقاء جفونك؟» آخر الكلام نسيت أن أقول لك ولدي الحبيب إن الأخ فتحي الهيشري اتصل بي صباح أمس وأكد أن لك موعدا معه لمساعدتك على استخراج جواز السفر.. ولم يكن يعلم أنك سافرت إلى مكان لا يُطلب فيه جواز السفر.. فيه قانون أرقى وأسمى من قانون البشر... وداعا حبيبي... ذلك هو القضاء.. ذلك هو القدر أبوك وأخوك وزميلك