العامل الخامس: الشّورى الشورى والإستشارة واجبة على أولى الأمر قال ابن خويز منداد: واجب على الولاّة مشاورة العلماء وأهل الذكر في ما لا يعلمون، وما أشكل عليهم من أمور الدّين، ووجوه النّاس في ما يتعلّق بالمصالح، ووجود الكتاب والوزراء والعمال وذوي المهارات (التقنية وغيرها، في ما يتعلّق بمصالح البلاد وعمارتها، قال ابن عطيّة «والشّورى من قواعد الشريعة، وعزائم الأحكام ومن لا يستشير أهل العلم والدّين والمهارة فعزله واجب وهنا ممّا لا اختلاف فيه (تفسير القرطبي: أحكام القرآن للجصّاص). ولا يصحّ اعتبار الأمر بالشّورى لمجرّد تطبيب نفوس الصّحابة، ولرفع أقدارهم، لأنّه لو كان معلوما عندهم أن مشورتهم غير مقبولة، وغير معمول عليها مع استفراغهم للجهد في استنباط ماشوروا فيه، لم يكن في ذلك تطييب لنفوسهم ولا رفع لأقدارهم بل فيه إيحاشهم، وإعلام بعدم قبول مشورتهم (أحكام القرآن للجصّاص). ٭ حكم «الشورى في حقّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم» ذكر الفقهاء في سياق عدّهم لخصائص نبينا الأعظم صلّى الله عليه وسلّم، أن من الخصائص الواجبة في حقّه المشاورة في الأمر مع أهله وأصحابه، ووجّه اختصاصه بوجوب المشاورة مع كونها واجبة على غيره من أولي الأمر، أنّه وجب عليه ذلك مع كمال علمه ومعرفته. والحكمة في مشورته، صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه أن يستنّ بها الحكام بعده، لا ليستفيد منهم علما أوحكما!أليس هو قدوة الامّة والإنسانيّة جمعاء؟!! فقد كان النبيّ غنيا عن مشورتهم بالوحي، كما أنّ في استشارتهم تطييبا لقلوبهم، ورفعا لأقدارهم، وتألّفا على دينهم واتّفق الفقهاء على أن محلّ مشاورته لا تكون في ما ورد فيه نصّ، إذ التّشاور نوع من الإجتهاد ولا اجتهاد في مورد النّص أمّا عدا ذلك فإنّ محلّ مشاورته، إنّما هو في أخذ الرّأي في الحروب وغيرها من المهمّات ممّا ليس فيه حكم بين النّاس، وأمّا ما فيه حكم بين النّاس، فلا يشاور فيه، لأنّه إنّما يلتمس العلم منه، ولا ينبغي لأحد أن يكون أعلم منه بما ينزل عليه لأنّ الله سبحانه وتعالى يقول {وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزّل إليهم} (الآية 44 من سورة النحل) أمّا في غير الأحكام فربما بلغهم من العلم ما شاهدوه أو سمعوه ما لم يبلغ النبيّ، صلّى الله عليه وسلم وقد صحّ في حوادث كثيرة أنّ النبيّ استشار أصحابه في مهمّات الأمور في ما ليس فيه حكم، وان الرّسول الأعظم شاور أصحابه في عديد الأمور التي لم ينزل فيها حكم؛ والتي نسميها الآن بلغة عصرنا: مستجدّات الأمور! فقد استشار في أسارى بدر، فاشار أبو بكر بالفداء! وأشار عمر بالقتل! فعمل النبي برأي أبي بكر رضي الله عنه !! وكان ذلك قبل نزول آية الأنفال: {ماكان لنبي ان يكون له أسرى حتّى يثخن في الأرض} (الآية 67 سورة الأنفال). ولما نزل النبي منزله ببدر قال له الحباب بن منذر « يا رسول الله أرأيت هنا المنزل؟ أمنزل أنزلكه الله ليس لنا أن نتقدّمه ولا تتأخّر عنه؟ أم هو الرّأي والحرب والمكيدة؟ فقال: بل هو الرأي والحرب والمكيدة. قال: إن هذا ليس لنا بمنزل، فانهض بالنّاس، حتّى نأتي أدنى منزل من القوم فنزله ثمّ نغوّر ما وراءه من القلب ونبني لك حوضا فنملأه ماء، ثمّ نقاتل النّاس، فنشرب ولا يشربون (إنّها الحرب !!)، فقال صلّى الله عليه وسلّم: لقد أشرت بالرّأي (أورده بن هشام في السّيرة نقلا عن ابن إسحاق بإسناد فيه انقطاع)؛ كما شاور النّبي (صلعم) عليّا وأسامة رضي الله عنهما في قصّة الإفك؛ وجاء في الحديث: أن النبيّ قال: وهو على المنبر «ما تشيرون عليّ في قوم يسبّون أهلي؟ ما علمت عليهم إلاّ خيرا» (أخرجه البخاري). وكان هذا قبل نزول براءة عائشة رضي الله عنها – في سورة النّور ٭ الشّورى وجاهة في الدّنيا والآخرة: لما تسلّم عمر بن الخطّاب منصبه، وجد لديه مذهبا إسلاميّا للحكم يهدف إلى جعل المسلم «وجيها في الدنيا والآخرة ومن المقرّبين» (آل عمران) فالحاكم هو قيّم على تطبيق شريعة ارتضاها جميع أفراد الأمّة فلا ينبغي له أن يجعل فهمه لمقاصدها هو الرّأي المتّبع بل ينبغي له أن يستشير في شأنها أهل الذّكر، وينبغي لكل واحد من هؤلاء أن يدرك أنّه مسؤول على المحافظة على ذلك الدّين. فحجّة السّلطة في الإسلام هي من اختصاص الله ورسوله فقط. ولم يشذّ عمر بن الخطّاب عن هذه القاعدة ، فمثلا عندما بلغه مقتل أبي عبيدة الثّقفي في حرب الفرس أراد مقابلة العدوّ بنفسه، فاستشار أصحابه فقال له عليّ: «سِر بنفسك فإنّه أهيب للعدوّ وأرهب له، إلّا أنّ العبّاس وعثمان وعبد الله بن عوف وجل شيوخ قريش نصحوه بأن يبقى ويبعث غيره خوفا من أن تتسبّب هزيمة عمر في كفر العرب و رجوعهم عن الإسلام، خاصّة أنّ آثار حروب الرّدة لم تمح بعد من النّفوس. وعمل عمر بالشّورى حتّى في مسائل ذات أهميّة ثانويّة ، وذلك عندما رجع عن رأيه في ما يعرف في كتب الفرائض بالمسألة الحماريّة. التي حرم فيها في الأوّل الأشقّاء من الميراث، لأنّهم وارثون بالتّعصيب، ولم يبق لهم شيء ثمّ لمّا راجعه الأشقّاء بقولهم: «هب أنّ أبانا حمارا أو حجرا ملقى في اليمّ. أليست الأمّ تجمعنا» إذ رجع عمر عن حكمه الأوّل و قضى باشتراك جميع الإخوة في الإرث سواء كانوا أشقّاء أم لأمّ ! فالشّورى وحدها هي التي تسمح للحاكم بأن يحترم قواعد العدل التّي أقام الله عليها شريعته التي أحسن التّعبير عنها ربعي بن عامر قبل معركة القادسيّة عندما قال: «الله ابتعثنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده ومن ضيق الدّنيا إلى سعة الدّنيا والآخرة ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام» فأدرك قائد الفرس من أن الحاكم المسلم لا تغريه الرّشاوى الكبيرة وإنّما تستهويه عزّة الإنسان وكرامة الإنسان، وشعور حادّ بالمسؤوليّة. قال عمر: «لو عثرت بغلة في أرض العراق لسألني الله عنها» بقوله : «لِم لم تصلح لها الطّريق يا عمر؟» ومادام الحاكم على هذا المقدار من المسؤوليّة فمن الواجب عليه استشارة الأمّة في كل ما يتّصل بنشاط حياتهم ويوضّح لهم قواعد سلوكهم، كما أنّه من الواجب على هؤلاء الأفراد إطلاعه على مشاكلهم ومناصحته بكلّ صدق وإخلاص. فلا نجاح للشّورى إلّا إذا كانت متبادلة بين الحاكم والمحكوم ، ومراعية لأحكام الشّريعة ونواميس الكون وسنن الرّسول الكريم صلّى الله عليه وسلّم. وليس من الميسور تحقيق هذا الأمر، لأن النّاس يختلفون باختلاف مداركهم العقليّة، وباختلاف ظروفهم الماديّة وأوضاعهم الاجتماعية، وباختلاف مواقفهم من المشاكل التي تعترضهم في حالتي الحرب والسِّلم، وفوق هذا كلّه يختلفون بمدى تأثّرهم بمصلحتهم الخاصّة . فإذا ما وقعت مشورتهم في أمرٍ ما جاء أمرهم مرآة تنعكس عليها كل هذه المؤثّرات، وإذا ما اتّخذ الحاكم قرارا يتنافى مع مطامحهم أبدوا موقفهم لا بالحجّة والدّليل فقط ولكن بالقوّة والعنف أيضا ولو كان الحاكم هو الخليفة نفسه. فقد كان الاغتيال مصير عمر بن الخطّاب، ونهاية حياة عثمان وسبب وفاة عليّ. كانت نهاية هؤلاء الخلفاء مأساويّة لأنّ رأي البعض لم يأخذ بعين الاعتبار. فالشّورى لا تقتصر على إعطاء الإنسان الحق في إعطاء الرّأي وإنّما تطمعه أيضا في المشاركة في حقّ اتّخاذ القرارات وفي تنفيذها. وليس من المعقول أن يسمح لجميع النّاس بالتّسليم بأن الرّأي الذي طبّق هو الذيّ قالت به الأكثريّة، والّذي كان أكثر وجاهة من غيره. ومن هنا تنشأ وتتبلور المذاهب، وتندلع الثّورات التّي تعرّض نظام الدّولة إلى غضب فئة من الأمّة لم يكن على كرم وجهه على التّحكيم. ولكنّه قبِله نزولا عند رأي الأكثريّة من جيشه فثار عليه الخوارج لأنّه قبل التّحكيم ولم يتقيّد بالنّتيجة التّي آل إليها التّحكيم، فاتهموا عليّا بالمروق عن الدّين، وبدعوا صنيعه، وكانت هذه الحادثة بداية لأزمة الشّورى في العالم الإسلامي. ٭ حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على البدعة بقوله: «أمّا بعد فإنّ خير الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي (محمّد صلّى الله عليه وسلّم) وشرّ الأمور محدثاتها وكلّ محدثة بِدعة وكلّ بِدعة ضلالة وكلّ ضلالة في النّار» (صحيح مسلم).