يقول الفقيه القانوني الفرنسي «بيناتل» ان المؤسسات العقابية الحديثة تحوّلت الى مؤسسات تربوية وروافد اقتصادية يستفيد منها المجتمع بعد ان كانت تمثل عبءا ثقيلا عليه، وهو الرأي الذي ينتصر اليه المحامي التونسي يوسف المحمدي في كتابه «فلسفة العقوبة والردع الخاص» الصادر مؤخرا بتونس، وهو كتاب من الحجم المتوسط اثراه كاتبه بعدد هام من الآراء والمراجع والمصادر. «فلسفة العقوبة والردع الخاص» احتوى اربعة فصول، اضافة الى فصل تمهيدي، وهي اغراض العقوبة والذي تضمّن مبحث الردع العام والردع الخاص، ثم الفصل الثاني وتعلق بالردع الخاص والخطورة الاجرامية ثم الفصل الثالث وهو فصل يتناول الردع الخاص والتدابير الاحترازية وتضمن نشأة وتطوّر مفهوم التدابير الاحترازية وعلاقتها بالردع الخاص في التشريعات الجنائية. اما الفصل الرابع فلقد تناول علاقة الردع الخاص بالمعاملة العقابية وتضمن مباحث حول عوامل الجريمة وانواع المؤسسات العقابية ودور الردع الخاص في المعاملة العقابية. انطلق الاستاذ يوسف المحمدي في كتابه الجديد «فلسفة العقوبة والردع الخاص» من تاريخية ظاهرة الجريمة باعتبارها ظاهرة اجتماعية «لم يخل منها اي مجتمع انساني مهما بلغت درجة تقدّمه ورقيه.. وتقف الجريمة عائقا امام خطط التنمية الاقتصادية والعلمية والاجتماعية». لذلك لابدّ من ايقافها، لمنع الاعتداء او ردّه فكان مع الجريمة العقاب. ويتناول الكاتب تطوّر العقوبة من قاعدة الانتقام الى مبدإ الاصلاح وارتباطه بالنظام القانوني الحديث مثريا القضايا المطروحة برؤيته التاريخية التي لم تخل من دعوات سواء مبطنة او معلنة للنقاش والتعمق اكثر، هذا فضلا عن الثراء الفكري في الكم الهائل من المعطيات والمعلومات وآراء الفقهاء التي تجبرك على قراءة الكتاب باهتمام بالغ مهما كان رأيك مما يطرحه. ولم يكتف الكاتب بعرض تلك الآراء بل يتعامل معها باسلوب حفري ليعود الى اسسها ولحظات تجسدها تاريخيا فتجده يفكك المفهوم تفكيكا ثم يعيد تركيبه لموضعه انعكاسا للواقع المتحرّك في راهنه، فينتهي في ختام بحثه الى ان الاسباب التي تقف وراء تطوّر العقوبة «منها ما يتعلق بالتقدّم الكبير الذي احرزته العلوم الانسانية كعلم الاجتماع وعلم النفس والانثروبولوجيا وعلم التشريح... وتطوّرت العقوبة على مستوى الفكرة والمضمون» فانتقلت بذلك من مرحلة الانتقام الى مرحلة الاصلاح او ما اراد تسميته الكاتب من مرحلة الوحشية والقسوة الى مرحلة اكثر انسانية وانتقد الاستاذ يوسف المحمدي في خاتمة بحثه القوانين في الدول العربية واعتبر انها مازالت ترجّح كفة العقوبة بدل الاصلاح خلافا لمنظومة القوانين الاوروبية وينتهي البحث الى 18 هدفا رآها الكاتب ضرورية في المنظومة العقابية اهمها ضرورة ربط المحكوم عليه بالعالم الخارجي لتسهيل تكيفه مع الوسط الاجتماعي ومساعدته على حل مشاكله اي الاصلاح ثم المتابعة والتأهيل واعتبر ان السياسة الجنائية لا تستلزم الوقوف عند اصلاح السجون بل تتطلب احيانا ما نسميه في تونس بالعقوبة البديلة التي لا تسلب فيه حرية المحكوم عليه وانما تكون البداية والنهاية خارج اسوار السجن. انه كتاب يجبرك على قراءته.