الحمد لله الذي فرض الحج على من استطاع اليه سبيلا وجعله والعمرة من ا لفرص السانحة لتكفير الذنوب والازدياد من الثواب المطلوب، والاكثار من الاجر المرغوب. «وما تُقدموا لانفسكم من خير تجدوه عند الله هو خيرا واعظم اجرا...»(1). واشهدُ ان لا اله إلا الله المتفرد بالجلال والجمال والاكرام والافضال، عليه توكّلت واليه أنيب... وأشهد أن سيدنا محمدا نبيّ الله ورسوله المبعوث قدوة وأسوة لأمته في عامة قوله وفعله اللهم صل وسلّم عليه بكل خطوة خطاها لبيتك الحرام حاجا او معتمرا وبكل تلبية لبّاها في غدوّه ورواحه بين المشاعر... وصلّ وسلم على آله واصحابه الذين لبّوا النداء وحققوا القبول وفازوا بالرضا وعلى من تبعهم باحسان الى يوم اللقاء... فاتقوا الله تعالى حق تقاته واعلموا ان دنياكم هذه خضرة حلوة وأن الله تبارك وتعالى قد استخلفكم فيها فناظر كيف تعملون... فلا تتجاهلوا الفرص تمر بكم مر السحاب دون استغلالها في الاقبال على العبادة ولا المناسبات تطويها يد الزمان دون التزود منها بصالح الاعمال ليوم الميعاد بحجة الاشتغال بأمر من أمور الدنيا من تجارة أو عمارة أو فلاحة وهي لعمري كثيرة لا تنتهي وان طال العمر بصاحبه، او بحجّة أن العمر مازالت فيه بقية تسمح بتدارك ما فات من الطاعات والمبرّات قبل الوفاة، وينسى او يتناسى ان الاجل من الغيب، ولا يعلم الغيب الاعلاّم الغيوب قال تعالى: «وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها الا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة الا يعلمها ولا حبّة في ظلمات الارض ولا رطب ولا يابس الا في كتاب مبين...». (2) أما البقية الباقية من العمر وان طالت فقصيرة وأن الكيس في هذه الحال من رزقه الله الفهم السليم وايقظه من سنة الغفلة ووفّقه في خاتمة امره. كما جاء في الحديث النبوي الشريف قال رسول الله ص: الكيّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنّى على الله تعالى الاماني (يعني المغفرة). * وهذه اشهر الحج قد أذنت ببداية الموسم فالسعيد من انتهز الفرصة وشدّ الرحال لبيت الله الحرام حاجا ومعتمرا رافعا صوته بالتلبية الى الله مرددا قوله: لبّيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، ان الحمد والنعمة لك والملك. لا شريك لك... * وليكن على يقين تام بما للحج والعمرة من فضائل جمّة، تستحق التضحية بالنفيس من الاموال، وبتحمّل ما يترتّب عن السفر والانتقال من مشاق واتعاب. والله عنده حسن الثواب. فعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال» كنّا مع النبي ص بمنى إذ أقبلت طائفة من اليمن فقالوا: فداك الأمّهات والاباء اخبرنا بفضائل الحج، قال: بلى، اي رجل خرج من منزله حاجا او معتمرا فكلّما رفع قدما ووضع قدما تناثرت الذنوب من بدنه كما يتناثر الورق من الشجر. فإذا ورد المدينة وصافحني بالسلام صافحته الملائكة بالسلام. فإذا ورد ذا الحليفة واغتسل طهّره الله من الذنوب، وإذا لبس ثوبين جديدين جدد الله له من الحسنات، وإذا قال: لبيك اللهم لبيك، أجابه الرب عز وجل: لبّيك وسعديك أسمع كلامك وأنظر اليك، فاذا دخل مكّة وطاف وسعى بين الصفا والمروة واصل الله له الخيرات. فاذا وقفوا بعرفات وضجّت الاصوات بالحاجات باهى الله بهم ملائكة سبع سماوات ويقول: ملائكتي وسكّان سماواتي اما ترون الى عبادي اتونى من كل فج عميق شعثا غبرا قد انفقوا الاموال واتعبوا الابدان، فبعزّتي وجلالي وكرمي لاهبهن مُسيئهم بمحسنهم ولاخرجنّهم من الذنوب كيوم ولدتهم أمّهاتهم. فإذا رموا الجمّار وحلقوا الرؤوس وزاروا البيت نادى مناد من بُطنان العرش، ارجعوا مغفورا لكم واستأنفوا العمل... * أيوجد امام هذا القبول والرضا وهذا الكرم الرباني الذي لا تحده حدود الزمان والمكان، بين افراد المجتمع الاسلامي من تحدّثه نفسه الامّارة او تصدّه الدنيا الفانية عن أداء ركن الاسلام الخامس وقد توفّرت له الاستطاعة البدنية والمالية او يترك العمرة قرينة الحج والله تعالى يقول: «وأتموا الحج والعمرة لله»(3) فإن وُجد من يتعلّل بسبب او بآخر فقد فاته خير كثير وفضل عظيم وعُدّ بذلك من المحرومين المفلسين، فيا لخيبة مسعاه! ويا لسوء مصيره! والنبي ص يقول في شأنه وفي شأن امثاله من المتردّدين المتقاعسين: من لم تحبسه حاجة ظاهرة او مرض حابس او سلطان جائر، ولم يحج فليمُت ان شاء يهوديا وان شاء نصرانيا»(4). * وبقراءة خاطفة لاجابة الرسول ص على سؤال الطائفة التي اقبلت عليه من اليمن، ندرك المراد النبويّ من اضافة اعمال الحج الى الضمير المفرد وذلك منذ خروج الحاج من منزله الى مستوى وقوفه بعرفة. فاضافة البقية الباقية من الاعمال الى ضمير الجمع... ففي ذلك التوخي اشارة لطيفة الى ان الحجيج يفدون الى بيت الله الحرام من كل حدب وصوب على اختلاف وسائلهم وامكانياتهم ليكون وصولهم الى مكّة المكرّمة متفاوتا بين سابق ولاحق، ويكون ذلك حالهم مع طواف القدوم والسعي بين الصفا والمروة. * بينما الوقوف بعرفة أهم اركان الحج لقوله ص: الحج عرفة... (5) فأمره يختلف عن غيره من الاركان من حيث محدودية الزمان والمكان، ولذلك يحرص كل الحجيج على التواجد في عرفة في تبتّل وخشوع من زوال اليوم التاسع الى غروب شمسه تحقيقا للغرض من رحلتهم المباركة الى البقاع المقدمة وللمراد من قوله ص: من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته امه...(6) لأجل ذلك جنح الرسول الكريم ص الى اسناد الافعال الى ضمير الجمع تعبيرا عن وصول ضيوف الرحمان في الزمن الواحد الى المكان الواحد حيث يتسلمون جائزة القبول والرضا. * جزى الله عنا نبيّنا محمدا ص بخير ما يُجزى به نبيّا عن أمّته ووفّق حجيجنا الميامين لما ارادوه من حج مبرور وذنب مغفور وسعي مشكور وردّهم الى ديارهم واوطانهم سالمين غانمين... آمين يا رب العالمين. سالم زيتون ملّولش المهدية 1 المزمّل (20) 2 الأنعام (59) 3 البقرة (59) 4 البقرة (185) 5 رواه البيهقي 6 رواه احمد والترمذي