هرج ومرج وشجار وصراخ يصم الآذان.. خصومة بين طفلين هنا ومعركة حامية الوطيس بين آخرين هناك.. وألفاظ سوقية يندى لها الجبين صادرة عن أطفال لم تتجاوز أعمارهم الثانية عشرة. ذلك هو الملمح العام والمشهد السائد الذي يطالعنا يوميا في معظم المدارس الابتدائية بتونس العاصمة واقليمتونس الكبرى بصفة عامة. هذه المشاهد أكدت وتؤكد التحول العميق الذي يشهده الفضاء المدرسي بعد أن كان المكان يعبق منه الاحترام بين المعلم والتلميذ ويميزه الانضباط والنظام، أصبح مكانا تعمّه الفوضى والضجيج. هذه الظاهرة تجعلنا نتساءل عن الأسباب التي تقف وراء هذا التحول الخطير باعتبار أن الانعكاسات ستكون سلبية على مختلف الأطراف منها الاطار التربوي والطفل والمجتمع ككل وبالتالي محاولة الاحاطة بالمشكل ومناقشته مع مختلف الأطراف المشار إليها سابقا حتى نتمكّن من محاصرته ومن ثمة ردّ الاعتبار للفضاء المدرسي المقدس الذي أفرز اطارات وشخصيات ذات مكانة مرموقة في المجتمع. «الشروق» طرحت أشكال العلاقة الجديدة بين التلميذ والفضاء المدرسي من خلال التحقيق التالي، والتقت بعدد من المعلمين والأولياء وأهل الاختصاص لتتجاوز معهم وتتعرف على آرائهم في الموضوع. المعلمون يؤكدون الضغط النفسي هو السبب التحول السلبي والمتسم بالتهريج والفوضى الذي تعيشه مدارسنا الابتدائية بالعاصمة واقليمتونس الكبرى وراءه أسباب عديدة ومتنوعة وقد اجمع الاطار المدرسي وخاصة المعلمين على ان السبب الرئيسي الذي يقف وراء اختفاء الانضباط في المدارس يعود بالأساس إلى الضغط النفسي الكبير الذي يواجه الطفل. ويصرّح السيد «الأسعد بوزويتة» معلم باحدى المدارس الأساسية بالعاصمة بأن الضغط النفسي الذي يعاني منه الطفل جراء بقائه لساعات طويلة في مكان مغلق هو الذي يدفع به إلى حالة من الهيجان حالما يجد بعض الوقت لذلك. ويوضح السيد الأسعد أن تنقل التلميذ من المنزل إلى المدرسة ثم إلى المحضنة ليعود بعد ذلك للدراسة وفي المساء يعود إلى المنزل هذه الدائرة المغلقة التي يحيى التلميذ على وتيرتها تؤثر على نفسيته بشكل كبير وتجعله عصبيا ولا يتكلّم بهدوء بل العكس. ويقول السيد الأسعد أن التلميذ أصبح أكثر تشنجا ولا يستطيع القيام بأي شيء دون أن يصرخ أو يحدث ضجيجا كبيرا وهي نتيجة طبيعية لما يتعرض له من قمع سواء من طرف المربي في القسم أو من قبل القائم على المحضنة الذي لا يسمح للتلميذ باحداث أي شغب أو أن يتصرف بتلقائية بالاضافة إلى ذلك فالأولياء من واجبهم تمكين أبنائهم من فرصة للترويح عن النفس والخروج إلى مكان مفتوح لتغيير الأجواء التي يحبس التلميذ في إطارها مدة أسبوع كامل. السيدة آمال عداد معلمة: ترجع حالة الهيجان والتشنج واحداث الشغب والشجار المتواصل بين التلاميذ إلى المحاضن المدرسية التي تكون في مكان مغلق ونقصد بذلك وجودها في عمارة أو مبنى لا يحتوي على مكان مفتوح. يعطي الفرصة للتلاميذ للترويح عن أنفسهم وتغيير الأطر المكانية مما يؤكد لدى التلميذ احساسا بالضيق والقلق والتوتر فيصبح عدوانيا وشديد التوتر. وتروي السيدة آمال حال هؤلاء التلاميذ وترى أن الانحراف في سلوكهم هو نتيجة حتمية للحياة العصرية التي نحياها جميعا والتي تضطر الوالدين للخروج إلى العمل وايداع أبنائهم في المحاضن طيلة يوم كامل مع أطفال من مختلف المستويات والانتماءات وتقارن السيدة آمال الوضع الحالي للتلميذ بوضعه في الماضي حيث كان يسمح له بقضاء زمن معيّن وسط عائلته خلال يومه الدراسي وبالتالي تناول طعام صحي وتغيير الأجواء مما يجعله أكثر استيعابا لما يقدم إليه من دروس وأكثر توازن نفسي. هذا التوازن النفسي والصحي ينعكس بالضرورة على المردود الدراسي للتلميذ. الأولياء: النظام التربوي الجديد يقف وراء الظاهرة من جهة أخرى كان لنا لقاء مع بعض الأولياء في محاولة منّا لتحليل ظاهرة انتشار الشغب داخل المدارس الأساسية وحالة الهرج والفوضى التي أصبحت من مميزات مدرسة اليوم بعد أن كانت مكانا للانضباط والنظام الدقيق. فإذا كان بعض المعلمين حملوا المسؤولية للنظام السائد داخل المحاضن والضغط النفسي الكبير الذي يتعرض له التلميذ فإن عدد من الأولياء يقرّون أن النظام التربوي الجديد الذي ألغى العقاب الجسدي للتلميذ جعله لا يعير المدرسة أيّة أهمية. فالسيد منجي (وليّ) يقول إن الوضع الحالي الذي أصبحت عليه المدارس من عدم انضباط وفوضى وخوف يعود بالأساس إلى الاجراءات التي تضمنها النظام التربوي الجديد فبمقتضاه أصبح المعلّم يخشى التلميذ ويتردد قبل أن يسلط عليه أي عقاب لأن ذلك ليس في صالحه. ويضيف السيد منجي أنه بحكم عمله داخل المدرسة كثيرا ما شاهد تلميذا يهدد معلمه ويتوعده ان هو شدّد عليه الخناق وطالبه بالاستظهار بعمله المنزلي. كما يحصل في بعض الأحيان أن يأتي وليّ إلى المدرسة ليقوم بتوبيخ المعلّم واشتكائه للمدير وجلب شهادة طبية مزيّفة في الغرض لتهديده والضغط عليه. مثل هذه التصرفات من قبل بعض الأولياء تسيء للتلميذ بصفة كبيرة وتشجعه على الانحلال والهمجية. السيد محمد يرى بدوره أن غياب الأسلوب التأديبي أساء لتكوين التلميذ وسلوكه. فقد اختفت علاقة الاحترام بين التلميذ والمعلّم وحلّت محلّها علاقة جدل ونقاش غاب فيها الاحترام والتقدير. من جهة أخرى يستغرب الدرجة التي وصل إليها التلميذ اليوم من سوء الأخلاق فهو لا يدع مناسبة إلا ويسخر من المعلمين ويكيد لهم بعض المكائد. إلى جانب الشجار والكلام البذيء الذي انتشر بصفة مفزعة بين صفوف التلاميذ هذه الظاهرة أصبحت مزعجة وخطيرة وللتجاوز يشير السيد محمد إلى ضرورة اعادة النظر في النظام التربوي الجديد وتكاتف كل الأطراف لتطويق ظاهرة الشغب المدرسي الحالية. الطب النفسي يحلّل الظاهرة نختم تحقيقنا حول انتشار أعمال الشغب والهيجان الملفت للانتباه الذي سجل تحولا في الفضاء المدرسي من مكان الانضباط والعلم إلى مكان للتنفيس عن المكبوت واستعراضا للعضلات من قبل التلميذ. برأي الطب النفسي في هذه الظاهرة. وقد استعنا بالسيد منذر جعفر معالج نفساني وسلوكي ليمدنا بالتحليل التالي: «أصبحت علاقة التلميذ بالفضاء المدرسي متردية جدا وتحول المكان من فضاء للدرس والتعلم إلى فضاء ترفيهي واحداث الشغب وذلك لعدة أسباب تربوية أثرت سلبا على سلوك التلميذ منها ارتفاع ساعات التدريس فهناك بعض الأقسام الأساسية تدرس 4 ساعات متتالية لينقل بعدها إلى قضاء ساعة أو ساعتين في المحاضن ويكون مكلفا بالقيام بواجباته المدرسية هذا الضغط الدراسي يؤثر سلبا على جهازه النفسي والعصبي. هذا السبب يلتقي مع عامل الاطار المكاني الذي يتسم بالانغلاق. فالقسم فضاء مغلق والمحضنة عادة ما تكون فضاء مغلقا لذلك لا يجد التلميذ الفرصة للتنفيس عن كوامن ذاته واخراج المكبوت إلا في ساحة المدرسة باعتباره المكان الوحيد الذي لا يجده فيه من يسكنه ويطلب منه الالتزام بالصمت. عندها يطلق الطفل العناء لنفسه ليصيح بأعلى صوته ويتشاجر مع أصدقائه وتحاول أن يقوم بكل الأعمال التي منع من القيام بها سواء في القسم أو المحضنة أو حتى في البيت لأن الولي يساهم بشكل كبير في قمع ابنه ومنعه من التعبير عن ذاته. فيمكن أن نستخلص أن المكان المغلق الذي يعيش فيه التلميذ القاطن بالعاصمة ومدن اقليمتونس يجعله أكثر تشنجا وعصيبة عكس ما نلاحظ عليه التلاميذ في المناطق الداخلية فهم يتسمون بالهدوء والاتزان والتوازن النفسي بطريقة أحسن من نظرائهم بالعاصمة. لذلك ننصح الأولياء إلى ضرورة الانتباه إلى نقطة هامة تتمثل في منح فرصة لأبنائهم لتغيير المكان والخروج بهم في عطلة نهاية الأسبوع إلى فضاء مفتوح يمكن أن يساعدهم على التخلّص من الضغط النفسي الذي يعيشه التلميذ طيلة أسبوع كامل وبالتالي يمكن أن نتجاوز هذا الانحراف السلوكي والهيجان المبالغ فيه الذي نشاهده في مدارسنا». ناجية المالكي