البعض منّا يرمي باللوم على الرياضيين بعد أن يتساءل لماذا «يحرقون» ويتركون هذه البلاد بنعمها المزدحمة ويكفرون بالموجود و«يطيرون» الأزرق الكبير والمجهول الأكبر وها هو الملاكم فريد بن جدو يكشف بعض التفاصيل ويردّ على الاتهامات؟ بادئ ذي بدء نشير إلى أن فريد بن جدّو لم يحرق إلى إيطاليا مثل عديد الملاكمين بل وصلها معززا مكرما بل جال العالم بالطول والعرض بفضل «البونية» التي وهبها الله له وجعل منها رزقه... كما نشير إلى أن فريد بن جدّو لم يكن يوما نكرة لأنه بكل بساطة صاحب ثلاث بطولات عالمية يشهد بها التاريخ الذي لا يكذب لكنه إلى حدّ الآن يعيش أرجوحة بين الموجود وما يريد... ماذا يريد؟ فريد بن جدّو ورغم هذا اتألق العالمي لا يطلب أكثر من شهادة منشط رياضي تكفل له «الخبرة» في تونس خاصة أنه بعد اعتزاله مازال يعيش من الملاكمة عبر تحضير بعض الأبطال لمواعيدهم الأروبية والعالمية...وهنا لا نذيع سرّا عندما نذكر بالمثل التونسي الأصيل «الماء اللّي ماشي للسدرة...الزيتونة أولى بيه» لأن استغلال خبرة واشعاع بعض رياضيتنا وخاصة الملاكمين مثل كمال بوعلي وتوفيق البلبولي يكاد يكون أمر حتميا الّا لبعض المرضى الذي يجرّون الرياضة التونسية الى الخلف وهي التي تسير أصلا في نفس الاتجاه. ماذا يتذكر؟ بن جدّو عاد هذه الأيام ليقضي رمضان الكريم بين أحضان العائلة وعندما دغدغنا ذاكرته تفتقت عن ذكريات مؤلمة وفجرت ينبوعا من الدموع لهذا البطل الذي يقول : «أتكذر أول يوم دخلت فيه عالم الملاكمة منذ حوالي أربعين عاما وكنت أزن 36كغ...يومها نظر لي أحد المسؤولين (في الترجي والجامعة) وقال لي «برّه لأمك تلحسك» في اشارة إلى أني لا أصلح للملاكمة وهي كلمات نزلت عليّ حجرا صماء وكادت تقتل موهبتي وها أني والفضل لله أحرز ثلاث بطولات عالمية اضافة إلى كمّ هائل من البطولات المحلية قبل الاحتراف وما يحز في نفسي ليس وقع الكلمات من مسؤولين لا يستحقون المسؤولية ولكن تواصل وجود هذا المسؤول إلى يومنا هذا على الساحة الوطنية للملاكمة واحتفظ باسمه ليس احتراما له بل احتراما لهذه الرياضة ورجالها». ماذا أعطته تونس...وماذا أحذت منه؟ في سرد سريع لحياة هذا الملاكم صاحب ثلاث بطولات عالمية (لعب من أجل البطولة خمس مرات وخسر اثنتين) وهما الخسارتان الوحيدتان في سجله الاحترافي) نشير إلى أنه هاجر في سن العشرين ليدخل غمار المجهول في بلاد المافيا...وهنا يلعب الحظ دوره لأن فريد لم يبت ولو ليلة وحيدة في الشوارع بل وجد في مواطنه عبد الحق الزاير خير صديق وقت الضيق وهو الذي أخذه إلى قاعة التدريبات تحت اشراف مدرب ايطالي لم يكن يأبه بإمكانية «تكسير» أحلام بن جدّو فرماه في أول موعد منذ وصوله أمام ملاكم بصدد التحضير لخوض بطولة أوروبا...والنتيجة أن بات البطل المنتظر لأروبا داخل المستشفى وبات فريد بن جدّو نجم القاعة التي يتدرب فيها حتى أن المدرب لم ينتظر طلوع صباح يوم جديد بل سارع إلى احضار سيارة فاخرة حملت بطلنا إلى وجهة ثانية ليبدأ رسم أحلامه بقبضة ولولت في كامل ارجاء العالم وارتفعت معها الراية التونسية عشرات المرات... فريد بن جدّو رفض التجنيس لأنه يحب تونس رغم ظروفها وكان يؤمن أنه قادر يدير اليه الرقاب وهو ما وقع لكن هل ردت اليه تونس هذا الجميل؟ ورود...ووعود عندما عاد في المرة الأولى بالبطولة العالمية لوزن ما فوق الذباب تحدث عنه الإعلام بإطناب واستقبله المسؤولون ووعده الوزير آنذاك عبد الرحيم الزواري بالدعم وخاصة ب «المنحة الملكية» والمنزل الكريم الذي كان يحتاجه نظرا لظروفه العائلية... لكن لا شيء تحقق فلا الوزير أوفى بوعده ولا هم يحزنون ليعود فريد إلى بلد غاري بالدي مكسور الجناح لكن بإيمان أكبر بأن ما حصل مجرد حادث وأن هؤلاء لا يمثلون تونس لأنهم بارعون في تقديم الورود والوعود فقط ليس الاّ... إلى السجن يتذكر فريد بن جدّو أبرز حادثة في حياته الرياضية عندما عاد للمرة الثانية إلى الديار التونسية حاملا حزام البطولة العالمية(IB.F) ويومها كان يمنّي نفسه باستقبال أكبر يليق بهذا الفتى الطائر على جناح الأمل والأهم لكنه سقط بالضربة القاضية التي لم يقدر عليها جميع منافسيه وهو لا يزال داخل مطار تونسقرطاج...يومها جاءه بعض «الرهوط» وأخذوه مباشرة إلى السجن... والتهمة كانت كالعادة «خوانجي» وعن هذه الحادثة يقول بن جدو « في البداية لم أفهم شيئا رغم أني كنت متأكدا ومقتنعا من براءتي من أي تهمة...والحقيقة أنه جالت بخاطري كل التهم الممكنة وكنت في كل مرة اقتنع أكثر ببراءتي الاّ أنه لم يدر بخلدي أنهم سيتهموني بالانتماء إلى «الإخوانجية» فقضيت يوما داخل السجن وبعدها اطلقوا سراحي وخوفوني من مغبة «الخلطة»... وفي الحقيقة فإن وقائع هذه التهمة تعود إلى الحلبة عندما فزت بالبطولة العالمية طلب مني مذيع الحلبة أن أقول شيئا باللغة العربية خاصة أني عربي فقلت بالحرف الواحد :«الله أكبر..الله أكبر..اشهد ان لا إلاه إلا الله...تحيا تونس» وهو ما جعل بعض المسؤولين التونسيين هناك «يخطفونها سخونة» ويحولونها إلى تهمة بالإنتماء إلى تنظيم كان مغضوبا عليه في العهد السابق...وهنا أقول بعد الثورة المجيدة بأني معتز بتلك التهمة رغم أنها كيدية وأقرّ أني لا أنتمي إلى أي حزب أو تنظيم وأن حزبي الوحيد هو حزب الله..(طبعا لا علاقة له بالشيخ حسن نصر الله). يضيف فريد بن جدّو أن تونس خاصة في العهد السابق «أبدعت» في حرق أوراق ابطالها خاصة في عالم الملاكمة وفي طليعتهم كمال بوعلي الذي يؤكد أنه ملاكم استثنائي لم تستفد تونس من خبرته وميزاته الفنية العالمية بل أن بعضهم ألصف به تهمة الفساد وهنا يقول بن جدّو « هناك تهمتان لا ثالث لهما يلصقهما بعضهم بنا...فإما أن تكون «خوانجي» و «غبّار» ولا أدري ما فائدة هذه التهم في زمن أصبح كل شيء جليا...ولماذا مازال بعض المسؤولين يرفضون الالتفات إلى الملاكمين وخاصة أبطال العالم للاستفادة من تجاربهم... ضحايا يؤكد فريد بن جدو أن إيطاليا وكامل أروبا تزخر بأبطال تونسيين سفراء فوق العادة لوطنهم بفضل ابداعاتهم لكن هناك من دخل عالم المخدرات لأنه لم يجد العناية اللازمة والالتفاتة الضرورية ومنهم من ينتظر هذه اللفتة من وطنه قبل أن تحتضنه مافيا المخدرات ومالف لفها...وهنا يذكر بن جدّو على سبيل المثال لا الحصر كلاّ من حاتم بالحبيب وفيصل العرعوري ومحمد لسود وغيرهم كثير... ويكشف فريد بن جدو لأول مرة من خلال «الشروق» أنه لعب في بدايات باسم ملاكم ايطالي (راوول) وخاض 54 مقابلة انتهت جميعها بالفوز لأن تونس رفضت وقتها مدّه بالوثائق اللازمة لخوض الاحتراف. موقفه من الثورة يؤكد فريد بن جدّو أن الثورات في مختلف أرجاء العالم ضرورة ملحة تاريخيا لأنها تكنس الطغاة وتمثل نقطة نهاية لكل الذين يظنون أنفسهم جبابرة فوق القانون...وعندما سألناه ما الذي تغيّر بعد الثورة خاصة أنه يزور تونس هذه الأيام فأكد بالقول :«لاشيء تغيّر... فالكلام هو...هو والبكاء هو...هو...والفقر هو...هو...والأحزاب تتوالد كالفقاقيع بلا فائدة...كما لاحظت أن الحرية فقدت روحها العظيمة عندما استمع إلى بعضهم يقدحون في المعتقدات يتهكمون على امهات المسلمين بدعوى الرأي الحرّ...فعن أي حرية يتكلمون عندما يتجاوزون الخطوط الحمراء...؟ سألناه في ختام الحديث عمن يرشح لرئاسة الجمهورية فقال :«لا أحد...أنا بطبعي أرفض الاتجاهات والاحزاب واعشق الديمقراطية الحقيقية التي ستكون شعار الشعب يوم الانتخابات... ولو أني أميل روحيا إلى حزب النهضة».