عمره 66 عاما... شارك في أولمبياد 1968 وغادر تونس نحو أوروبا سنة 1970 ودخل عالم الاحتراف بعد أن جنى بطولة تونس عديد المرات وبطولة المغرب العربي كذلك مع بطولة إفريقيا (هواة) ثم بطولة إفريقيا (احتراف) وبعدها جاءت بطولة فرنسا ثلاث مرات متتالية. إنه الملاكم السابق المنجي الهذيلي الذي خاض كل هذه البطولات معتمدا على قوة ربانية وهبها له القوي الجبار استغلها ليشق طريقه في عالم القفاز في خمسة أوزان مختلفة هي «الديك الريشة الخفيف والولتار وفوق الولتار» أبدع فيها جميعا وحقق شهرة على مشارف العالمية... داخل منزلي استقبلته وحصل لي شرف في ذلك لما بلغني عن هذا الملاكم السابق من كلام كثير يؤدي كله إلى البطولة والرجولة وزاد اقتناعي بذلك وأنا أتحدث إليه وأبسط عليه كومة من الأسئلة لم يتحرج منها ولم يتهرب بل واجهها بنفس الحماسة التي كان يواجه بها منافسيه. «الهربة نحو الغربة» في بداية حديثه أعلمنا «عم المنجي» أنه شارك في أولمبياد 1968 ولم يجن منها سوى المنافسة ومركزا رابعا لم يدر عليه أي ميدالية بعد قال «قررت الرحيل نحو المجهول لكنهم منعوني من تجاوز الحدود فعمدت إلى الاختفاء داخل سيارة أحد الأصدقاء مع الأدباش وعبرت ديوانة حلق الوادي بسلام نحو بلجيكا... ومنها إلى فرنسا حيث وجدت أصدقائي التونسيين وعلى رأسهم زميلي حمادي الماجري الذي كان الوحيد الذي انتصر على الحبيب قلحية ومنها تحولت مباشرة إلى قاعة التمارين حيث وجدت المدرب الكبير «روجي أوكينيرر» الذي ظل يتابع خطواتي منذ مدة طويلة وبعدها بشهرين سلمني إلى المدرب «تاش» الذي رماني مباشرة في صلب الموضوع بالمشاركة في الدورة الدولية بباريس التي فزت بها وتغلبت على أبطال أوروبيين منهم بطل فرنسا الذي أسقطته بالقاضية (آلان دافيد) إضافة إلى البطل المعروف انذاك «جاك مامان» الذي جاء خصيصا ليسقط هذا «العربي القذر» (Sale Arabe) لكني طرحته المربع في مناسبتين ليأتي الدور بعدها على الأسطورة «جاك لافارج» الذي أسقطته أيضا وفزت بالدورة ومنذ ذلك اليوم عرفني الجميع وصرت اكل وأشرب بوبلاش داخل المقاهي والمطاعم». عودة ولكن... «بعد فترة من المجد اتصل بي بعض المسؤولين التونسيين وطلبوا مني العودة إلى بلادي وخوض بعض المباريات أمام الجمهور التونسي فعدت وكأن شيئا لم يكن». هكذا واصل المنجي الهذيلي وسرد الذكريات وأعلمنا أنه خاض مباراة مع بطل إيطالي داخل قصر المعرض (يا حسرة) وفاز عليه بالنقاط بعد عشر جولات كاملة.. كما تلقى دعوة للمشاركة في نفس السهرة التي شارك فيها البطل التونسي الطاهر بلحسن ومباراته التاريخية مع «دافيد بوازون» والتي خسرها بالضربة القاضية منذ الجولة الأولى والتي قال عنها المنجي الهذيلي «تلقيت دعوة للمشاركة في تلك السهرة لكني رفضتها لأني لست جاهزا وكنت في خدمة الطاهر بلحسن طوال التحضيرات وكنت على يقين أنه هو الآخر لم يكن جاهزا لخوض تلك المباراة الخطيرة لكنه شارك وخسر أمام جمهوره في قصر الرياضية بالمنزه». بورقيبة والخمسة دنانير يتذكر المنجي الهذيلي بعض الأحداث ويطلق زفرة مضمخة بكثير من الأسى والأسف عن الماضي وعن الحاضر ويؤكد أن الوضع لم يختلف كثيرا في عالم القفاز فالألم هو.. هو ومواطن الخلل هي.. هي وحتى الوجوه تكاد تكون هي.. هي رغم مسافة الزمن.. ويبتسم وهو يتذكر كيف جمعهم المسؤولون بعد الألعاب العربية بتونس (1967) ليستقبلهم الرئيس بورقيبة انذاك (حتى لا يسقط من الذاكرة) وكانت المفاجأة عظيمة لدى المكرمين عندما تحصل كل ملاكم منهم على ظرف مغلق تبين فيما بعد أنه يحمل ورقة نقدية بخمسة دنانير في حين تحصل بعدها في عالم الاحتراف على منحة مالية بألف دينار... والمقارنة لا تجوز أصلا... وبالتالي يعترف المنجي الهذيلي بأنه لم ولن يندم على الهروب ولو كسلعة داخل إحدى السيارات لكنه في المقابل يتأسف عن عدم تغيّر الأحوال كثيرا داخل عالم الملاكمة التونسية لأنه يخشى هروب المزيد من أبنائنا نحو عوالم صارت صعبة بكل المقاييس. «الله يرحم البشير المنوبي» بكثير من التقدير يتذكر المنجي الهذيلي المرحوم زميله في دنيا الملاكمة والمصور الصحفي القدير البشير المنوبي ويؤكد أنه كان رجوليا إلى أبعد الحدود وأنه لا يوجد أي رياضي لم يساعده المرحوم بأي طريقة ولعل أبرز حادثة يتذكرها المنجي الهذيلي عن المرحوم المنوبي أنه اختار له زوجته (التي مازالت تعيش معه) والتي ذهب إلى منزلها صحبة والده وخطبها رسميا دون أن يراها محدثنا ولو بالصورة.. ويواصل الهذيلي حديثه ويقول: «كانت الوالدة في كل مرة تشتاق إلي تذهب وتجلس إلى المرحوم البشير المنوبي وتشبع من أنفاسه وتؤكد لي أنها كأنها رأتني و«طيّرت وحشتها» مني». هذا مثلي الأعلى عن مثله الأعلى في عالم القفاز يؤكد المنجي الهذيلي أنه بلا منازع «محمد علي كلاي» وأيضا «ليونارد» (مسكين من لم يشاهد هذا الملاكم) ويقول الهذيلي عن نفسه «كنت «فنانا» ولم أكن «ضرابا» وقد لعبت بين 38 و40 مقابلة احتراف خسرت منها ثلاثا ولم أسقط طوال حياتي بالضربة القاضية». سألنا الهذيلي عن الملاكمين التونسيين الذين أشرف عليهم عندما انتمى إلى الإطار الفني للمنتخب والذين تكهن لهم بمستقبل كبير فأكد أنهم ثلاثة نوفل بالرابح (ضيفنا القادم) ومحمد علي بالناصر وسعد تايق وعن الذين زاغوا عن الطريق وتاهوا قبل بلوغ أهدافهم قال بسرعة «برشة». أسئلة برقية ماهي العوامل التي تقضي على أي ملاكم بسرعة؟ «الخُلطة» والعقلية التعيسة بم تنصح جيل اليوم؟ باحترام الغير حادثة لن تنساها؟ حصولي على مبلغ 40 ألف دينار كمنحة عن بطولة دورة باريس.. لو يعود الزمان.. هل «تحرق» مجددا؟ أهرب ثم أهرب ثم أهرب ماذا كانت أهدافك عندما هربت؟ تمنيت أن أرسل الوالدة إلى بيت الله المعمور وأن أملك منزلا فقط ليس إلا.. والحمد لله نجحت في ذلك. شكر خاص لمن توجهه؟ للوالدة ثم لزوجتي. أنت ملاكم... هل أنت صعب المزاج داخل المنزل؟ صارم بعض الشيء لكني ليّن وحنون.. وأنا أحترم المرأة كثيرا... هل تخاف على تونس بعد الثورة؟ عند الثورة انتشينا فرحا.. لكن تأكدنا بعد ذلك أن فرحتنا لن تدوم في ظل ما جرى وما يجري الثورة شيء جميل لو يحافظوا على جمالها. ماذا تقول عن حزب النهضة هل هو حل أم مشكلة؟ شخصيا جلست مع الشيخ راشد الغنوشي صحبة بعض الملاكمين القدامى وقال لنا بالحرف الواحد عند العشاء: «رانا جايين باش نخدمو تونس» وأضاف يشرفني نقعد مع أبطال كيفكم» وأكد يومها أن الانتخابات ستكون حرة وأن علينا ألا نتأثر بهذه الجلسة وأن ننتخب من نريد وختم حديثه معنا قائلا «لن أكون رئيسا لتونس» يعني أنك مرتاح للنهضة؟ أنا مرتاح... أما بناتي الأربع فقد «داروا عليّ» خوفا من حكاية «الزوجات الأربع»... ممّ تخاف على تونس؟ من أبنائها. كلمة حرة عديد التوانسة يطالبونني بفتح ملف إنقاذ الملاكمة التونسية ويطلبون مني تبليغ أصواتهم لأنهم يريدون خدمة هذا البلد والعودة إليه من الباب الكبير لإيقاف نزيف هروب الملاكمين الشبان لكن لا أحد سمعهم أو سمعني. ماذا أعطتك الملاكمة؟ «أنا ولد الملاسين... الملاكمة ركحتني... وردتني راجل».