برز مفهوم المواطنة في المجتمع الغربي عام (1783) في أوج نضج فلسفة الأنوار، وعاشه الناس في عالم الفعل أيام الثورة الفرنسية، وقد ألغت ألقاب عصر الإقطاع، وقلصت من سيطرة الكهنوت الكنسي، وأصبح الناس يخاطبون بمواطن، أومواطنة، ثم تطور المفهوم عبر ثورات متعددة في خضم صراع سياسي واجتماعي عاشه القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، وأسهمت في ذلك تيارات سياسية اجتماعية، وفكرية متعددة، وخاصة التيار الليبرالي، والتيار الماركسي. ولا يمكن فهم هذا التطور إلا من خلال ربطه بالدعائم الصلبة التي قامت عليها حداثة عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، ويمكن تلخيص قيمها في مقولات أربع : المقولة الأولى : لا سلطان على العقل إلا العقل نفسه. المقولة الثانية : تدمج العقل في ثالوث يقوم على العقلانية، والحرية والعدل السياسي والاجتماعي. المقولة الثالثة : تحرير التاريخ والإنسان من أسطورة الحتمية. المقولة الرابعة : تتعلق بشرعية السلطة، فلم تنشأ حركة الأنوار لكونها تيارا فلسفيا أوفكريا مجردا , بل ولدت، وشقت طريقها في ظروف صراعية مع الواقع المعقد، وهوواقع سيطرت عليه قوتان رجعيتان : قوة الكنهوت الكنسي، وقوة النظم السياسية الاستبدادية، فليس من الصدفة إذا أن يكون أخطر سؤال طرحه فلاسفة عصر الأنوار، وأبلغه في الأحداث التاريخية التي عرفها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر هو: من أين تستمد السلطة السياسية شرعيتها للتحكم في رقاب الناس ومصالح المجتمع ؟ جاء الجواب فيما طرحه روسومن نظريات في العقد الاجتماعي، فليس من الصدفة أن يوليه أحد رواد النهضة العربية الحديثة : رفاعة الطهطاوي (1801-1873) عناية خاصة، فمن المعروف أن إيمانويل كنت (1724-1804) لم يقر أي تناقض بين الإيمان والعقل في فلسفته، وفي حياته، لكنه يقول عن مؤسسات الكنهوت الديني، وعن السلطة الاستبدادية إنها مؤسسات «تدوس بأرجلها حقوق البشر المقدسة». وأعود لأأكّد أن هذه الأسس الفكرية قد انعكست بدرجات متفاوتة في كتابات المفكرين العرب ابتداء من الطهطاوي، وفرح أنطون (1877-1922)، وأديب اسحق (1856-1885)، وسلامة موسى (1887-1958)، وأحمد لطفي السيد (1871-1963)، وطه حسين (1889-1973)، فالحداثة التي تأثر بها التنويريون العرب هي حداثة عصر الأنوار التي دشنت عصر الإنسان، وحررت إرادته ليعي أنه صانع تاريخه، فهوإذن مسؤول عن اختياره، وهي التي أزالت طابع القداسة عن الحكم بعد أن افترى زبانيته على الشعوب قرونا طويلة، فالسلطة شان إنساني دنيوي، والإنسان وحده، وعبر نضاله الطويل، له الحق في اختيار أفضل أنماط الحكم لتسيير شؤونه، وله الحق في تغييرها إذا لم تستجب لمصالحه، والحداثة المطلة من عباءة فلسفة الأنوار تعني العلاقة الوثيقة التي لا انفصال لها بين مفهومين: العقلانية والتحرر، فالعقلانية لا معنى لها من دون أن تكون في خدمة التحرر، وما يقترن به من حريات، وديمقراطية ومواطنة والتحرر يصبح من دون عقلانية أمرا مستحيلا. وهكذا، أصبحت ممارسات الفكر العقلاني هي المحك، وحجر الزاوية، وبرزت وظيفته النبيلة في قيادة التقدم والتحرر، فلا حداثة من دون تحرير الإنسان من كل المسلمات والبديهيات، والميتافيزيقيات، والأساطير، وتحرير التاريخ من مقولة الحتمية. ولعل من المفيد في هذا الصدد الإشارة إلى أن رواد الحركات الإصلاحية في القرن التاسع عشر قد ميزوا تمييزا واضحا بين وجهي الغرب : الغرب الاستعماري الذي قاوموه داخل أوطانهم، وغرب التقدم الذي حاولوا الاقتباس منه، فتحدثوا عن الحريات العامة في أوروبا، وعن الدساتير، وعن حقوق المواطنة، وعن دولة المؤسسات، وتبين أن حديثهم في رحلاتهم إلى أوروبا عن هذه القضايا لم يأت صدفة، بل كان هادفا إلى إطلاع الرأي العام العربي الإسلامي يومئذ على مظاهر التقدم التي يتمتع لها الغرب، وهي مظاهر أفرزها عصر الحداثة.