الأزمة تشتد بين المحامين والداخلية .. إيقاف المحامي المهدي زقروبة    دعا رئيس الجمهورية الى التدخّل العاجل ...عميد المحامين : لسنا ضد المحاسبة... لكن    ماذا في لقاء وزير السياحة بوفد من المستثمرين من الكويت؟    القيروان: حجز حوالي 08 طن من السميد المدعم    الوكالة الدولية لمكافحة المنشطات ترفع عقوباتها عن تونس    حالة الطقس ليوم الأربعاء 15 ماي 2024    6 علامات تشير إلى الشخص الغبي    يوميات المقاومة .. قتلت 7 جنود للاحتلال بعملية نوعية في جباليا .. المقاومة تكبّد الاحتلال خسائر جديدة    هام/ مجلس وزاري مضيّق حول مشروع قانون يتعلق بعطل الأمومة والأبوة    البرمجة الفنية للدورة 58 من مهرجان قرطاج الدولي محور جلسة عمل    ذبح المواشي خارج المسالخ البلدية ممنوع منعًا باتًا بهذه الولاية    بن غفير يطالب باعادة الاستيطان في غزّة وطرد الفلسطينيين    اختفى منذ 1996: العثور على كهل داخل حفرة في منزل جاره!!    شوقي الطبيب يُعلّق اعتصامه بدار المحامي    وزير الفلاحة يفتتح واجهة ترويجية لزيت الزيتون    للسنة الثانية على التوالي..إدراج جامعة قابس ضمن تصنيف "تايمز" للجامعات الشابة في العالم    عاجل : مطار القاهرة يمنع هذه الفنانة من السفر الى دبي    دراسة : المبالغة بتناول الملح يزيد خطر الإصابة بسرطان المعدة    هل الوزن الزائد لدى الأطفال مرتبط بالهاتف و التلفزيون ؟    عاجل/ إصابة تلميذتين في حادث دهس بقفصة    عاجل/ فرنسا: قتلى وجرحى في كمين مسلّح لتحرير سجين    سليانة: القبض على عنصر تكفيري    تونس تصنع أكثر من 3 آلاف دواء جنيس و46 دواء من البدائل الحيوية    قابس : اختتام الدورة الثانية لمهرجان ريم الحمروني    بن عروس: جلسة عمل بالولاية لمعالجة التداعيات الناتجة عن توقف أشغال إحداث المركب الثقافي برادس    العجز التجاري يتقلص بنسبة 23,5 بالمائة    تعرّف على أكبر حاجّة تونسية لهذا الموسم    نبيل عمار يشارك في الاجتماع التحضيري للقمة العربية بالبحرين    عاجل/ السيطرة على حريق بمصنع طماطم في هذه الجهة    الإعداد لتركيز نقاط بيع نموذجية للمواد الاستهلاكية المدعمة بكافة معتمديات ولاية تونس    تأجيل النظر في قضية ''انستالينغو''    منطقة سدّ نبهانة تلقت 17 ملميترا من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    سوسة: تفكيك شبكة مختصّة في ترويج المخدّرات والاحتفاظ ب 03 أشخاص    كل التفاصيل عن تذاكر الترجي و الاهلي المصري في مباراة السبت القادم    بعد تغيير موعد دربي العاصمة.. الكشف عن التعيينات الكاملة للجولة الثالثة إياب من مرحلة التتويج    الرابطة الأولى: الكشف عن الموعد الجديد لدربي العاصمة    منحة استثنائية ب ''ثلاثة ملاين'' للنواب مجلس الشعب ...ما القصة ؟    كأس تونس: تحديد عدد تذاكر مواجهة نادي محيط قرقنة ومستقبل المرسى    فتح تحقيق ضد خلية تنشط في تهريب المخدرات على الحدود الغربية مالقصة ؟    أول امرأة تقاضي ''أسترازينيكا''...لقاحها جعلني معاقة    باجة: خلال مشادة كلامية يطعنه بسكين ويرديه قتيلا    في إطار تظاهرة ثقافية كبيرة ..«عاد الفينيقيون» فعادت الحياة للموقع الأثري بأوتيك    تونس: 570 مليون دينار قيمة الطعام الذي يتم اهداره سنويّا    مدنين: انقطاع في توزيع الماء الصالح للشرب بهذه المناطق    بادرة فريدة من نوعها في الإعدادية النموذجية علي طراد ... 15 تلميذا يكتبون رواية جماعية تصدرها دار خريّف    برشلونة يهزم ريال سوسيداد ويصعد للمركز الثاني في البطولة الإسبانية    أخبار المال والأعمال    مع الشروق ..صفعة جديدة لنتنياهو    مبابي يحرز جائزة أفضل لاعب في البطولة الفرنسية    الاحتفاظ بنفرين من أجل مساعدة في «الحرقة»    عشرات القتلى والجرحى جراء سقوط لوحة إعلانية ضخمة    نابل..تردي الوضعية البيئية بالبرج الأثري بقليبية ودعوات إلى تدخل السلط لتنظيفه وحمايته من الاعتداءات المتكرّرة    نور شيبة يهاجم برنامج عبد الرزاق الشابي: ''برنامج فاشل لن أحضر كضيف''    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المواطنة والحرية
يقلم الدكتور الحبيب الجنحاني
نشر في المصدر يوم 28 - 11 - 2011

نشر موقع الأوان (http://www.alawan.org/) هذه المقالة المتميزة للأستاذ الدكتور الحبيب الجنحاني التي صدرت في الأصل بمجلة العربي الكويتية في عدد نوفمبر 2011 ولمزيد التعريف بفحواها نعيد نشرها في ركن "المساهمات"
إن قضية المواطنة والحرية مطروحة سياسيا وفكريا في الفضاء العربي الإسلامي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وقد حاول كثير من رواد الحركات الإصلاحية تنبيت المفهومين بمعناهما الحديث في التربة العربية، مفيدين من التجربة الغربية التي عرفوها عن كثب، وأود قبل تناول الموضوع في أدبيات الفكر السياسي العربي الحديث الإشارة إلى أن مفهوم المواطنة قد برز في المجتمع الغربي (عام 1783) في أوج نضج فلسفة الأنوار، وعاشه الناس في عالم الفعل أيام الثورة الفرنسية، وقد ألغت ألقاب عصر الإقطاع، وقلصت من سيطرة الكهنوت الكنيسي، وأصبح الناس يخاطبون بمواطن، أومواطنة، ثم تطور المفهوم عبر ثورات متعددة، وفي خضم صراع سياسي واجتماعي عاشه القرن التاسع عشر، والنصف الأول من القرن العشرين، وأسهمت في ذلك تيارات سياسية واجتماعية، وفكرية متعددة، وبخاصة التيار الليبرالي، والتيار الماركسي.
ولا يمكن فهم هذا التطور إلا بربطه بالدعائم الصلبة التي قامت عليها حداثة عصر الأنوار في القرن الثامن عشر، ويمكن تلخيص قيمها في أربع مقولات:
- مقولة لا سلطان على العقل إلى العقل نفسه.
- المقولة الثانية: تدمج العقل في ثالوث يقوم على العقلانية والحرية، والعدل السياسي الاجتماعي.
- المقولة الثالثة: تحرير التاريخ والإنسان من أسطورة الحتمية.
- المقولة الرابعة: تتعلق بشرعية السلطة، فلم تنشأ حركة الأنوار باعتبارها تيارا فلسفيا أو فكريا مجردا، بل ولدت، وشقت طريقها في خضم صراع مع الواقع المعقد، وهو واقع سيطرت عليه قوتان رجعيتان: قوة الكهنوت الكنيسي وقوة النظم السياسية الاستبدادية، فليس من الصدفة إذن أن يكون أخطر سؤال طرحه فلاسفة عصر الأنوار، وأبلغه أثرا في الأحداث التاريخية التي عرفها القرنان الثامن عشر والتاسع عشر هو: من أين تستمد السلطة السياسية شرعيتها للتحكم في مصير الشعوب؟ وجاء الجواب فيما طرحه روسو من نظريات في "العقد الاجتماعي" فليس من الصدفة أن يوليه أحد رواد النهضة العربية الحديثة رفاعة الطهطاوي (1801-1873) عناية خاصة، فمن المعروف أن ايمانويل كنت (1724-1804) لم يقر أي تناقض بين الإيمان والعقل في فلسفته، وفي حياته، ولكنه يقول عن مؤسسات الكهنوت الديني، وعن السلطة الاستبدادية أنها مؤسسات "تدوس بأرجلها حقوق البشر المقدسة".
ونعود لنؤكد أن هذه المقولات قد انعكست بدرجات متفاوتة في كتابات المفكرين العرب ابتداء من الطهطاوي إلى فرح أنطون (1877-1922)، وأديب اسحق (1856-1885)، وسلامة موسى (1887- 1922)، وأحمد لطفي السيد (1871-1963)، وطه حسين (1889-1973)، فالحداثة التي تأثر بها التنويريون هي حداثة عصر الأنوار التي دشنت عصر الإنسان، وحررت إرادته ليعي أنه صانع تاريخه، وبالتالي فهو مسؤول عن اختياره، وهي التي أزالت طابع القداسة عن الحكم بعد أن افترى زبانيته على الشعوب قرونا طويلة، فالسلطة شأن إنساني دنيوي، فالإنسان وحده، وعبر نضاله الطويل له الحق في اختيار أفضل أنماط الحكم لتسيير شؤونه، وله وحده الحق في تغييرها، إذا لم تستجب لمصالحه، والحداثة المطلة من عباءة فلسفة الأنوار تعني العلاقة الوثيقة التي لا انفصال لها بين مفهومين:
العقلانية والتحرر، فالعقلانية لا معنى لها دون أن تكون في خدمة التحرر، ويضحي التحرر، وما يقارن به من حريات، وحقوق، وديمقراطية ومواطنة بدون عقلانية مستحيلا.
وهكذا أصبحت ممارسة الفكر العقلاني هي المحك، وحجر الزاوية، وبرزت وظيفته النبيلة في قيادة التقدم والتحرر، فلا حداثة دون تحرير الإنسان من كل المسلمات والبديهيات، والميتافيزيقيات، والأساطير، وتحرير التاريخ من مقولة الحتمية.
ولعله من المفيد في هذا الصدد الإشارة إلى أن رواد الحركات الإصلاحية في القرن التاسع عشر قد ميزوا تمييزا واضحا بين وجهي الغرب: الغرب الاستعماري الذي قاوموه داخل أوطانهم، وغرب التقدم الذي حاولوا الاقتباس منه، فتحدثوا عن الحريات العامة في أوروبا، وعن الدساتير، وعن حقوق المواطنة، وعن دولة المؤسسات، وتبين أن حديثهم في رحلاتهم إلى أوروبا عن هذه القضايا لم يأت صدفة، بل كان هادفا إلى إطلاع الرأي العام العربي والإسلامي يومئذ على مظاهر التقدم التي يتمتع بها الغرب، وهي مظاهر أفرزها عصر الحداثة.
وعندما نعود إلى الفضاء العربي نجد أن المفهوم السائد إلى مطلع القرن العشرين هو مفهوم الرعية، ولم يكن الناس رعايا الدولة، بل هم رعايا الخليفة، أو السلطان، أو الإمام، أو الأمير، وبعد ميلاد النظم الجمهورية بقوا رعايا السلطة، ورعايا الحاكم بأمره رغم المظاهر الشكلية من دساتير، ومجالس نيابية، وانتخابات.
برز مفهوم الوطن والمواطن بالمعنى الحديث في أدبيات الفكر الإصلاحي العربي ابتداء من نهاية القرن التاسع عشر، فلم يتحدث رواد الإصلاح عن المواطنة، ولكنهم استعملوا مفهوم حب الوطن وربطوه بالحرية، وبالحكم المطلق الاستبدادي الذي زهد في الوطن بالأمس، ويزهّد في المواطنة اليوم. كتب أحمد بن أبي الضياف (1802-1874) في كتابه "إتحاف أهل الزمان ..." منددا بالحكم المطلق، ومعللا ضعف الممالك الإسلامية قال: "ومن المعلوم أن شدة الملك القهري تفضي إلى نقص في بعض الكمالات الإنسانية من الشجاعة، وإباءة الضيم، والمدافعة عن المروءة، وحب الوطن والغيرة عليه حتى صار بعض الجهات من المسلمين عبيد جباية ليس لهم من مسقط رؤوسهم وبلادهم، ومنبت آبائهم وأجدادهم إلا إعطاء الدرهم والدينار على مذلة وصغار، والربط على الخسف ربط الحمار حتى زهدوا في حب الوطن والدار، وانسلخوا من أخلاق الأحرار، وهذا أعظم الأسباب في ضعف الممالك الإسلامية وخرابها". وما أشبه الليلة بالبارحة!
إن المواطنة مرتبطة بحب الوطن والذود عنه، ولا يتم ذلك إلى إذا شعر المواطن أنه يتمتع بحقوقه، والتي هي متلازمة مع الواجبات.
إن لمفهوم المواطنة علاقة متينة بمفاهيم ثلاثة: التمدن، والحقوق السياسية والمدنية، ومرتبطة بالخصوص بالحرية فلا مواطنة بدون حرية كما سنرى لا حقا.
وأود الإشارة في هذا الصدد إلى أن المواطنة مرتبطة بالقدوة والنموذج كذلك، فلا يمكن أن تطالب السلطة المواطن باحترام قيم المواطنة، والدفاع عن المصلحة العامة وهي غارقة إلى الأذقان في الفساد والسمسرة، وقاطعة أرزاق الناس ورقابهم، إذ أن المقولة القديمة "الناس على دين ملوكهم" ما تزال مؤثرة في المجتمعات العربية.
ومن المعروف أن ضعف الشعور بالانتساب إلى الوطن، أو إلى الأمة يفرز الالتجاء إلى الجماعة، وإلى العشيرة، وإلى الطائفة.
من المنطقي والمؤمل أن يتجذر الشعور بالمواطنة، وتتوارى عندئذ النعرات العشائرية والأثنية، والطائفية بعد مرور قرن ونصف على نص ابن أبي الضياف، ثم بروز حركات تحرر وطنية عارمة في الوطن العربي طيلة النصف الأول من القرن العشرين مرتكزة أساسا على الشعور بحب الوطن، والاستماتة في الذود عنه، ثم تلت ذلك موجة السياسات التربوية، وتنشئة أجيال جديدة من المتعلمين، وما ارتبط بذلك من التدرج في السلم الاجتماعي، كل هذه العوامل كان من المؤمل أن تفضي إلى تعمق الشعور بالمواطنة، ولكن هذه النتيجة المنطقية لم تتحقق في جل الحالات، كما يشهد على ذلك الواقع العربي اليوم، وهنا يطرح نفسه السؤال التالي: ماهي الأسباب؟
لا شك أنها متعددة ومتنوعة، ولكنني أميل إلى الاعتقاد بأن السبب الحاسم هو تحول الدولة الوطنية البنت الشرعية لحركات التحرر الوطني إلى دولة قامعة همشت المواطن العربي، وتفاقم الأمر لما سيطرت المؤسسة العسكرية، ونظام الحزب الواحد على السلطة فأممت الدولة والمجتمع.
إن وقوع الأقطار العربية في كثير الحالات تحت نير المحنتين معا: العسكر، ونظام الحزب الواحد لم يلحق الضرر بالمواطنة في مستوى الوطن الصغير فحسب، بل تجاوز ذلك إلى الوطن الكبير، فقد حلم عدد كبير في صفوف النخبة المثقفة العربية أن يتحول الشعور بالمواطنة في المستوى القطري بعد المد العارم الذي عرفه التيار القومي في الخمسينات إلى ترسخ ظاهرة المواطنة العربية، خصوصا وأن أسسها السياسية والحضارية عريقة في التربة العربية، ولكن انعدام المواطنة السياسية للأسباب التي ألمعت إليها عصف بالأسس، وأدى إلى ضعف الشعور بالهوية القومية، بل أفسح المجال لبروز هويات ضيقة متناقضة مع الهوية الوطنية والقومية معا، وأعني الهويات القبلية، والإثنية، والطائفية.
لا أريد أن أنهي هذا النص دون الإشارة إلى القضايا التالية:
أ- المواطنة وثيقة الصلة بالتضامن، فلا مواطنة حقيقية بدون وجود روح تضامن قوية تذود عن الوطن عندما يهدده خطر خارجي، وتذود في الداخل عن المصلحة العامة التي تجمع بين سكان الوطن الواحد، وهنا يبرز حاليا في الوطن العربي أخطر عائق أمام نشر روح المواطنة، فمن المعروف أن الطبقة الوسطى مثلت الدعامة الصلبة لحركات التحرر العربية، ثم كان لها أثر بعيد المدى في بناء الدولة الوطنية غداة الاستقلال، هذه الطبقة تدحرجت نحو الأسفل منذ مطلع الثمانينات بصفة خاصة، وبرزت فئة اجتماعية من كبار الأثرياء أصبح لها دور خطير في صنع القرار السياسي، وارتبطت برأس المال العالمي حماية لمصالحها في الداخل، ودعما لنفوذها، بل أصبحت في بعض الحالات متحالفة مع قوى أجنبية ضد المصلحة الوطنية.
إنه من الطبيعي أن يحتد في هذا الوضع الجديد الصراع الاجتماعي ليصبح معوقا خطير الشأن لفكرة المواطنة، فمن الصعب في هذه الحالة أن يركب نفس السفينة سكان أحياء الصفيح وسكان أرخبيل الأثرياء في المدن العربية، وهذا الصنف هو أقرب إلى سكان أحياء الأثرياء في العواصم الغربية منه إلى سكان أحياء الفقراء المتاخمة لهم.
ويحق للمرء أن يتساءل عن مستقبل أية مواطنة قطرية كانت، أم عربية بعد أن هبت عواصف انتفاضات الجوع؟
ب- تتصل القضية الثانية بالمواطنة والكونية، فمن الجوانب الإيجابية للعولمة سقوط الحدود والمسافات، وتحول العالم إلى قرية كونية بفضل الثورة الاتصالية، فليس من المبالغة القول: إن صنفا جديدا من صنوف المواطنة قد ولد، وأعني المواطنة الكونية والسمة الأساسية لمحتوى المواطنة الكونية هي حقوق الإنسان بشتى أصنافها، إذ أن الإنسان في هذه الحالة يتجاوز الحدود الجغرافية الضيقة إلى فضاء أرحب نتيجة التمسك بهذه المواطنة، ويصبح حينئذ المس بهذه الحقوق في أي منطقة من مناطق العالم مهما كانت نائية وقصية يجد رد الفعل في مستوى العالم. إن مفهوم الجماعة الكونية يمثل الملامح الجنينية لمفهوم المواطنة العالمية المطروحة اليوم سياسيا وفكريا.
ج- أما القضية الثالثة، وهي بيت القصيد في هذا النص فهي علاقة المواطنة بالحرية، فلا مواطنة بدون حرية، كما أنه لا حداثة حقيقية بدون حرية، وقد تفطن إلى ذلك أحد رواد الحركة الإصلاحية العربية خير الدين التونسي لما تحدث في كتابه "أقوم المسالك" عن العدل السياسي، واعتبر الحرية هي العامل الحاسم فيما عرفته الممالك الأوروبية من تقدم، فقد أدرك صاحب "أقوم المسالك" ومعه زمرة من رجال الإصلاح في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أن الأوضاع لا يمكن أن تتغير، وأن يخطو المجتمع العربي الإسلامي خطوات ثابتة فوق درب الحداثة الحقيقية بدون تغيير الأوضاع السياسية، وبعث مؤسسات دستورية قائمة على العدل السياسي والحرية، فليس من الصدفة أن يقف خير الدين وقفة طويلة عند مفهوم الحرية، ودورها فيما حققه المجتمع الأوروبي من تقدم، ولا غرو في ذلك، وهو الذي لمس عن كثب ويلات الحكم المطلق الاستبدادي وآثاره الوخيمة، "مؤكدا أن الحرية هي منشأ سعة نطاق العرفان والتمدن بالممالك الأورباوية"، فتحدث عن الحرية الشخصية، وعن الحرية السياسية، وعن حرية النشر والتعبير، وعن علاقة الحرية بالاقتصاد، مستنجدا بابن خلدون في المقدمة في إبراز علاقة الحكم الاستبدادي بخراب العمران في فصله بعنوان "الظلم مؤذن بخراب العمران".
وبلغ الأمر بصديقه الشيخ الزيتوني المعمم أحمد بن أبي الضياف أن يعتبر أن الوطن الحقيقي ليس الوطن الجغرافي، بل الوطن الذي يستنشق فيه الإنسان نسائم الحرية، فنقل لنا في رحلته إلى فرنسا ضمن كتابه "إتحاف أهل الزمان ..." هذا الحوار الذي دار بينه وبين أحمد باي، وهما يتجولان عام 1846 في شارع الشانزلزي بباريس:" فقال لي (يعني أحمد باي): ما أشوقني للدخول من باب عليوة (أحد أبواب مدينة تونس) وأشتم رائحة الزيت من حانوت الفطايري داخله، فقلت له مداعبا، وأنا أتنفس في هواء الحرية، وأرد من مائها، وقدماي بأرضها: يحق لك ذلك إن دخلت من هذا الباب تفعل ما تشاء، أما الآن فأنت رجل من الناس، فقال لي: لا سامحك الله، لم لا تحملني على حب الوطن لذاته، وعلى أي حالاته؟ فقلت له: إن هذا البلد ينسي الوطن والأهل كما الشاعر:
"ولا عيب فيهم غير أن نزيلهم يعاب بنسيان الأحبة والأهل".
فقد تجاوز الشعور بالحرية، والأمان من الظلم لدى هذا الشيخ الزيتوني المستنير، وهو يتجول في باريس قبل ما يربو عن قرن ونصف حدود الوطن، وما ارتبط به من هوية منغلقة، متمنيا أن تمتزج الأنا بهوية الآخر ليتنفس هواء الحرية في وطنه.
إن المشكلة الأساسية في الوطن العربي منذ كتابات الطهطاوي، وخير الدين، وفرح انطون، وولي الدين يكن، وسليم سركيس، والكواكبي، وأحمد لطفي السيد، وسلامة موسى، وطه حسين، وغيرهم من التنويريين العرب هي الحرية، والحرية هي الحل.
مجلة العربى الكويتية نوفمبر 2011
من هو الحبيب الجنحاني:
الحبيب الجنحاني: مؤرخ وجامعي تونسي معاصر، أصيل مدينة منزل تميم من ولاية نابل. تلقى تعليمه في جامعة الزيتونة ثم أكمله بألمانيا بالحصول على دكتوراه في الأدب. تخصص في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي. انتدب للتدريس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية التابعة للجامعة التونسية، وقد تولى تدريس تاريخ المغرب الإسلامي، كما كان أستاذا زائرا بعدد من الجامعات العربية والأجنبية [1].
انتمى الحبيب الجنحاني إلى الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم، وهو ما خول له الاتصال بالدوائر العليا للدولة، غير أن مواقفه كانت ليبرالية بحيث أنه دافع على زملائه الذين تعرضوا لمضايقات من قبل السلطات، كما كان من مؤسسي نقابة التعليم العالي والبحث العلمي التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل. وإلى جانب هذا الدور السياسي والنقابي ساهم كذلك في تنشيط الحياة الجمعياتية والثقافية، من خلال مساهمته في تأسيس وعضوية عدة هيئات وجمعيات بتونس والبلاد العربية، ومن تلك الهيئات:
- اتحاد الكتاب التونسيين
- الجمعية التونسية للتاريخ والآثار
- اتحاد المؤرخين العرب
- كما أنه عضو عامل بمنتدى الفكر العربي بعمان وعضو بكل من الشبكة العربية للمنظمات الأهلية والمجلس العربي للطفولة والتنمية بالقاهرة والمجلس القومي للثقافة العربية بباريس.
نشر الحبيب الجنحاني المئات من البحوث والدراسات في الدوريات التونسية والعربية، ومن أهم مؤلفاته:
- في التاريخ:
- القيروان عبر ازدهار الحضارة الإسلامية في المغرب العربي، تونس 1968.
- المغرب الإسلامي: الحياة الاقتصادية والاجتماعية، تونس 1978.
- المجتمع العربي الإسلامي: الأسس الاقتصادية والاجتماعية، الكويت 2005.
- محمد باش حانبه: رائد الحركة الوطنية التونسية، تونس 1989.
- دراسات مغربية، بيروت 1980.
- في الفكر:
- من قضايا الفكر، تونس 1975.
- دراسات في الفكر العربي الحديث، بيروت 1990.
- العولمة والفكر العربي المعاصر، القاهرة 2002.
- المجتمع المدني والتحول الديمقراطي في الوطن العربي، تونس 2005.
- دراسات في الفكر والسياسة، تونس 2006.
- الحداثة والحرية، تونس 2007.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.