أيّ هواجس دفعت بالهيئة العليا المستقلّة للانتخابات لإجراء عملية انتخابية بيضاء سابقة لأوانها؟ هل هو مجرّد اختبار لقدرة موظفيها على إدارة الانتخابات دون أخطاء أم هي خطوة أخرى في برنامجها الدعائي لمزيد تحفيز التونسيين على الحضور بكثافة؟ الظاهر للعيان أن الهدف من وراء العملية الانتخابية البيضاء التي نظمتها الهيئة الفرعية المستقلة للانتخابات بدائرة تونس 1 مؤخرا بمدرسة نهج الهندبالعاصمة هو التدريب على الاقتراع والفرز في محاولة لمحاكاة يوم 23 أكتوبر لانتخابات المجلس الوطني التأسيسي من حيث توفير جميع الوسائل والظروف الممكنة لإنجاح العملية الانتخابية التاريخية. لكن يبدو أنّ دوافع أخرى توارت خلف هذه العملية البيضاء، فالمعلّقات والملصقات الحائطية والحملات الإشهارية الإذاعية والتلفزية المكثفة التي أنفقت عليها الهيئة أموالا ضخمة لدعوة المواطنين لعدم التخلّف عن الموعد التاريخي، كشفت عن خوف مبرر ومشروع يداخل جماعة الهيئة من الغياب المحتمل لأعداد كبيرة من المواطنين عن التصويت. عملية بيضاء للمحاكاة محاكاة اليوم الانتخابي بدأت منذ صباح الأحد بتجسيم وضعيات وإشكالات قد تثار يوم الاقتراع وكيفية التعامل معها كالأخطاء التي قد تطرأ في عملية التسجيل أو في حال ضياع بطاقة التعريف الوطنية أو عدم ورود اسم الناخب في سجل الناخبين، كما عرضت سيناريوهات حول إمكانية حصول بعض التجاوزات وكيفية التصرف حيالها كالاستنجاد بأعوان الأمن إن اقتضى الأمر ذلك. كما عاين الملاحظون والإعلاميون المدعوون لمواكبة العملية البيضاء الظروف التي يمارس فيها الأشخاص المعوقون واجبهم الانتخابي، حيث سمح لهؤلاء باصطحاب مرافق شريطة الإدلاء بهويته ولا يجوز له اصطحاب أكثر من شخصين تنفيذا لقرار الهيئة العليا المستقلة للانتخابات الصادر مؤخرا والذي ينصّ في فصله الأول على مبدإ أن يمارس الناخب المعوق حقه في الاقتراع وفق التدابير المتخذة من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات مع مراعاة مبدأي شخصية وسرية الاقتراع وفي حدود ما تقتضيه الإعاقة مع تمتع الناخب المعوق بالأولوية في الدخول إلى مكتب الاقتراع. وعلى اثر الانتهاء من عملية التصويت المفترضة وغلق باب الاقتراع المفترض أن يكون في حدود السابعة مساء وتحرير محضر انتهاء الاقتراع في ثلاثة نظائر، تحوّل مكتب الاقتراع، الذي منع التصوير داخله إلا بإذن من رئيس المكتب ، إلى مكتب فرز والتثبت من الأوراق غير المستعملة والتالفة ووضعها في ظرف خاص ثم فتح صندوق الاقتراع بحضور الملاحظين وممثلي القائمات ووسائل الإعلام المعتمدين وأعضاء المكتب والهيئة داخل مكتب الاقتراع الافتراضي يوجد صندوق اقتراع أبيض شفاف بغطاء أحمر وثلاث خلوات للتصويت ومكتب للتثبت من وجود اسم الناخب المفترض ضمن سجل الناخبين وآخر وضعت فوقه أوراق التصويت المفترضة. داخل مكتب الاقتراع الافتراضي جرى الحديث عن التوقيت الفاصل بين ناخب وآخر وكان التشديد على أن لا تتجاوز المدة الزمنية الفاصلة بين عملية تصويت وأخرى بضع ثوان على ألاّ تزيد عن نصف دقيقة وطرح في الأثناء احتمال أن تجاوز عدد أوراق التصويت في الصندوق عدد الناخبين المقترعين وكيفية التعامل معها خاصة في ظل الفراغ القانوني الذي سيعوّضه اجتهاد رؤساء مكاتب الاقتراع. إشكال فوارق بوبكر بالثابت كاتب عام الهيئة العليا المستقلة للانتخابات كان حاضرا وقدّم إجابات عن هذا الإشكال فقال إنّ هذا الأمر وارد وان المشرع أحال للهيئة الفرعية مهمة البتّ فيه. وفي حال تسجيل مثل هذه الفرضية، التي قال إنها لا تنمّ عن إمكانية حصول تدليس أو تزوير، فإنّ الحلّ يكمن في إعادة عملية العدّ والتثبت من الأمر وإذا تبين وجود فارق هام فعلى رئيس المكتب التثبّت من أسبابه وتدوينه ضمن تقرير يرفعه إلى الهيئة التي تتخذ القرار المناسب إذا ثبت أنّ الفارق طفيف وناتج عن سهو. أمّا إذا كان الفارق بين المقترعين وأوراق التصويت في الصندوق كبيرا وثبت بعد الاستماع للملاحظين وأعضاء المكتب والناخبين أن الأمر لا علاقة له بالظروف التي دارت فيها عملية الاقتراع، فإنّه يجوز للهيئة عدم احتساب نتائج الصندوق وإبلاغ النيابة العمومية للبت في الموضوع. من سأنتخب؟ قد تكون الهيئة العليا المستقلة أرادت بهذه العملية البيضاء اختبار قدرة أعضائها على سرعة التفطن للإشكالات والتجاوزات لكنها جعلت منها كذلك خطوة دعائية إشهارية للمواطنين الذين أنهكتهم أزمات الاختفاء غير المفهوم وغير المسبوق للحليب والمياه المعدنية المعلّبة والسكر وأثخنتهم حيل أصحاب الحوانيت والمطاعم المتلاعبين بالدعم وأتعبهم الجري وراء أسعار ملتهبة للحوم والأسماك التي عزّ تصيّدها وزادهم خوفا ورعبا اندلاع صراع وفتنة من نوع آخر على إثر الاحتجاج الشعبي على الفيلم الكرتوني الذي بثته قناة نسمة تي في. هؤلاء المواطنون، الذين خاطبت فيهم الهيئة المستقلة للانتخابات روح المواطنة وحذّرتهم من عودة أيّام الاستبداد القاتمة بومضات إشهارية تحت شعار «تونس تنتخب»، أعيتهم الحيلة في فهم طلاسم الشبكة الحزبية العنكبوتية وقائماتها الطويلة ولا شيء على ألسنتهم غير جواب لهيئة الانتخابات «من سأنتخب؟» وهو سؤال لا نعتقد أن الهيئة تملك له إجابة.