وقد ترجمه إلى العربيّة الدكتور سمير بشّة وأشرف على مراجعته الأستاذ الدكتور الحبيب بيده من اصدارات السيد كارم الشريف أحد متحمّسيّ ومشجعيّ البحوث والدراسات العلميّة والمبادرات التي تخدم الفكر والمعرفة في تونس، وقد كان ذلك بحضور مدير المعهد العالي للموسيقى الدكتور محمّد سيف الله بن عبد الرزّاق والسيّد مراد الصّقلي ضيف شرف ومنسّق الجلسة العلميّة وهو أستاذ محاضر بجامعة تونس، موسيقيّ وباحث مختصّ في الموسيقولوجيا، مع حضور ثلّة من أساتذة المعهد وباحثين ممثّلين عن الجمعيّة التونسية للبحث في الموسيقى والموسيقولوجيا ومجموعة من طلبة الماجستير والصحفيّين المهتمّين بالشّأن الثقافيّ والنشر العلميّ. وبعد الترحاب بكل الحضور مرّر الأستاذ مراد الصقليّ الكلمة إلى الدكتور سمير بشة لتقديم كتابه وقد جاء على لسانه ما يلي: لما كانت الترجمة في اختصاص الموسيقولوجيا تسترعي اهتمام الكثير من الدول الغربيّة، فإنّ السّعي في نقل هذا المجال المعرفيّ إلى اللغة العربيّة، بات إلى حدّ يومنا هذا غير وارد في استراتيجيّة الكثير من الباحثين، ما جعل من مكتباتنا تشكو لِأشدّ ما تكون افتقار العديد من التراجم في اختصاص الموسيقولوجيا المعاصرة. وقد استعرض الدكتور سمير بشّة في بادئ الأمر الأسباب التي جعلته يترجم هذا الكتاب وقد قدّمها في شكل تساؤلات تحمل في مضمونها أجوبة تكاد تكون صريحة عددها فيما يلي: لماذا آلينا على أنفسنا ترجمة مقال كهذا ؟ ما الذي استرعى اهتمامنا فيه ؟ هل هي مُبتكرات وطلائعيّة المقاربات والنظريّات الموسيقولوجيّة المتواجدة ضمنه، أم هي ندرة وحداثة المفردات والألفاظ الواردة في النصّ الأصليّ وغياب مرادفاتها في الكتابات الموسيقولوجيّة العربيّة المعاصرة؟ على إثر ذلك، وفي نفس الإطار بادر بتقديم الصعوبات التي اعترضته في ترجمة هذا الكتاب والتي اجتمعت في مشاكل تعريب أو نقل التصريحات المكبوحة (Litote) والجناس (Anaphore) والتشخيص (Personnification) والاستعارة (Métaphore) وعلامات الحذف المقصود (Ellipse) والربط حسب الصياغة (Syllepse). لقد حافظ الدكتور سمير بشة على تلك الأساليب والتراكيب اللغويّة باستعمال ما يقابلها من صيغ أسلوبيّة تناسبها في اللغة العربيّة حتى تُفهم في السّياق المراد به في النصّ الأصليّ فليس بالضرورة على سبيل المثال أن تكون مفردة «Pensée « تعني «فكر» أو كلمة «Raison» تعني «عقل»، أو كلمة «Intuition» تعني «حدس» أو كلمة»Conscience « تعني «وعي»، فأحيانا يلتزم بترجمة اللفظ باللفظ وأحيانا أخرى ترجمة المعنى بالمعنى وفي أماكن عدّة يجمع بينهما بالاعتماد على المنهج التأليفيّ الذي يُطلق عليه بالحرّ، وقد أقرّ في هذا الشأن على أن الترجمة هي علم من علوم الحِيل أكثر ممّا هي فعل خِيانة، وبالرغم من انصباب جهده على جعل «جون جاك ناتي» يتكلّم العربيّة من خلال ترجمته هذه فإنّ الأمر وكما بدا له، بات مستحيلا. وعلى إثر ذلك، عبّر الدكتور سمير بشة عن جزيل شكره ل«جون جاك ناتي» الذي شرّفه بتقديم الكتاب ومنحه أوّل ترجمة لكتاباته إلى العربيّة، وقد أشار أنّ مؤلفات «ناتي» قد ترجمت إلى لغات عدّة كالأنكليزيّة والإيطاليّة والألمانيّة والإسبانيّة والبرتغاليّة واليابانيّة والرومانيّة والفنلنديّة والكرواتيّة ولغات أخرى تعدّ نادرة. موضوع ومحتوى الكتاب إنّ السّؤال المطروح والذي يمثّل الغرض من هذا الكتاب متأتٍّ من تجربة بيداغوجيّة طويلة ومتكرِّرة في «مُونْرِيَالْ» حيث كان «ناتي» يُدرِّس ما يُسمّى بحلقة «بحث»، ما يُماثله ويُطلق عليه «بْرُوزَمِنَارْ» (Proseminar) في البلدان الناطقة بالألمانيّة والانقليزيّة، والتي من خلالها كان يدعو طلبة وطالبات الأقسام النهائيّة والدكتوراه في الموسيقولوجيا إلى قراءة كلّ أو بعض الكتب التي رَسمت تطُّور اختصاصنا في جميع مجالاته الكبرى كتاريخ الموسيقى والتحليل الموسيقيّ والإثنوموسيقولوجيا، ودراسة موسيقى «البُوبْ» وعلم الاجتماع وعلم النّفس المعرفيّ وإستطيقا الموسيقى. هذا، وقد لاحظ على مرِّ السِّنين حيرة الطلبة أمام تنوّع هذه الاختصاصات، وهو أمر طبيعيٌّ، إذ أن جميعهم يرغب في هذه المرحلة التخُّصّص في أحد هذه المجالات المحدَّدة، هذا إضافة إلى ما يشهده تعدّد النماذج المنهجيّة التي تخترق كل من هذه التفرّعات. إلاّ أنه، وفي الكثير من الأحيان، لا يمتلك طلبة اليوم الأسس الفلسفيّة والإيبستيمولوجيّة لفهم العديد من المقاربات الموجودة في اختصاص الموسيقولوجيا. لذلك وجّه «ناتي» أفكاره في السنوات الأخيرة نحو الأسباب التي أدَّت إلى هذا التشتّت من جهة والسبيل إلى معالجتها من جهة ثانية، وهذا ليس فقط بالنسبة لتوجُّهات البحث في الموسيقولوجيا، بل أيضا بالنسبة للمشاكل البيداغوجيّة في تعليم هذا الاختصاص، وهو المجال الذي أراد «ناتي» أن يضعه في اعتباره. لقد تعرض «ناتي» في مبحثه هذا إلى ثلاثة اختصاصات وهي الموسيقولوجيا التاريخيّة والاثنوموسيقولوجيا والتحليل باحثا من خلالها عن تأسيس مشروع يجمع بينها لصالح ما أَطلق عليه ب»الموسيقولوجيا الشّاملة». إذ تعرّض إلى تاريخ تلك الاختصاصات واستراتيجياتها ومناهجها وتناقضاتها وتقاطعاتها ومنعطفاتها الفلسفيّة ومرجعيّاتها الإيديولوجيّة كما تعرّض إلى أصحاب تلك النظريّات وكتاباتهم وتصوّراتهم النظريّة والثقافيّة وقراءتهم لمجمل الاختصاصات ذات العلاقة بمجال العلوم الإنسانيّة كعلم الاجتماع والتاريخ وعلم النّفس والفلسفة والانتروبولوجيا والاستطيقا والبيداغوجيا والوجوديّة واللسانيّات والعلوم الثقافيّة والنقد الموسيقيّ من جهة والعلوم المسماة بالصّحيحة كعلم الصّوت والموسيقى الالكترونيّة والموسيقى الطيفيّة ومرتكزاتها العلميّة القائمة على الحتميّة من خلال الفيزياء والرياضيّات، كلّ هذه الاختصاصات تجمّعت للبحث في «ما هو موسيقيّ» من جهة وما هو « فعل موسيقيّ» من جهة ثانية « ...إن تعامل «ناتي» مع مجمل هذه الاختصاصات «المساندة» جعل «ناتي» يتساءل هل من إمكانيّة أو من آفاق لبعث مشروع كبير يؤسّس لنظريّة تقوم على شموليّة البحث في اختصاص الموسيقولوجيا؟ ولرسم الخطوط العريضة لذلك، اقترح «ناتي» بعض ثنايا من الأفكار حول نقاط خمس، إذ حاول في البداية أن يبيّن الأقسام المشتركة بين الموسيقولوجيا والإثنوموسيقولوجيا مع تحديد الجوانب المكمّلة لبعضها البعض وقام على إثرها بإدراج التحليل الموسيقيّ ضمن موسيقولوجيا الموسيقات الغربيّة والإثنوموسيقولوجيا على حدّ السّواء وذكّر بالخطوط العريضة لنموذج من شأنه أن يجمع دراسة الأشكال والسياقات والإستراتيجيّات ودافع في الأخير لصالح وجود عناصر كليّة للموسيقى من خلال الدِّراسة التي قد تخدم من أجل بناء موسيقولوجيا شاملة. على إثر ذلك، أسديت الكلمة إلى السيد كارم الشريف الذي أبدى كل تعاونه واستعداده لنشر البعض من مؤلّفات أساتذة البحث في هذا الاختصاص خدمة للفكر والمعرفة موجّها الدعوى للجميع إلى البذل والاجتهاد. هذا وقد أكّد الدكتور الحبيب بيده في تدخّله على أهمّية ترجمة البحوث العلميّة خاصّة وأن اختصاص الفنّ التشكيليّ يعاني هو الآخر من نفس الصعوبات ما يحيل في الكثير من الأحيان إلى تقديم الدروس بطريقة الجمع بين اللغتين الفرنسيّة والعربيّة وهو إشكال علميّ وبيداغوجيّ يجب تجاوزه، وقد أثار السيّد محمد سيف الله بن عبد الرزاق في تدخّله وفي نفس السياق الإشكال الذي يتعرّض إليه يوميّا في تدريسه للمواد الإعلاميّة والتقنيّة مثل علم الصّوت وعلم الآلات في جزئه المتعلّق بالآلات الإلكتروفونيّة على سبيل المثال. النقاش تركّز الحوار حول أسباب اعتماد مفردة «موسيقولوجيا» عوضا عن «العلوم الموسيقيّة» الأكثر شيوعا في تونس وبعض المفردات الأخرى التي وردت في معرض النصّ المنقول إلى العربيّة وقد جاءت هذه التساؤلات في معظمها على لسان الأستاذ مراد الصّقلي. فكانت حجّة الدكتور سمير بشّة مستندة في جانب منها على مقاربتين الأولى تاريخيّة والثانية علميّة إذ أكّد أنّ كلّ التّرجمات الإغريقيّة إلى العربيّة التزمت في صياغتها بالجمع بين «السين» و«القاف» وقد جاء عن هذه الترجمات الكثير من التعريبات ذَكر منها على سبيل المثال «موسيقى» و«استطيقا» و«ديمقراطس» و«سقراط» و«سفوقلس» و«قدموس»... مؤكّدا في نفس الإطار على ضرورة تجنّب في الكثير من الحالات التراجم الاصطناعيّة مع ضرورة الالتزام بالمفردات كما جاءت على لسان مبتكريها ومنظّريها، فهل يحقّ لنا ترجمة على سبيل المثال «Pop Art» ب«الفنّ الشّعبي» أو «Idéologie» ب«الفكرانيّة» أو «Ready made» ب«المصنوع الجاهز»؟ في الختام ثمّن الجميع المجهود الذي قدّمه كلّ من الدكتور سمير بشة والأستاذ الحبيب بيده والناشر كارم الشريف وأكّدوا على مشروعيّته ولزوميّته في الوقت الرّاهن.