الصحراء حذاؤه الدائم خلف إبل المعنى.. من كثبانها الرملية وأفقها الرحب المترامي الأطراف صاغ قاموسه اللغوي المتفرّد... صوته جهوري شامخ كواحات نخيل الجنوب التونسي كل قصيد له... ضجة.. متعة ابداعية... تماهي مع الحاضر والمستقبل.. هو جمال الصليعي ابن دوزالمدينة الضاربة جذورها في أعماق التاريخ والحضارة الانسانية.. كتب «وادي النمل» الذي أصبح تميمة الشعراء في مواجهة الرداءة... والإسهال اللفظي والجعجعة اللغوية.. والتجريب المقيت.. جمال الصليعي هادئ الطبع... سرعان ما يتحول الى بركان ثائر ينفث صورا شعرية لها سحرها... ولها جاذبيتها ولها رحيقها الوجداني... معه كان هذا الحوار: كيف هي علاقتك بالشعر بعد الثورة؟ أقول إجمالا ان الأدب العربي عموما والشعر خاصة، في تونس او في غيرها من أرض العرب ظل على مدى ستين عاما من القمع (الوطني) بين حالتين إما حالة معالجة القيود ودفع الهوان عن أهله أو حالة الاشتغال على تدجين الناس لصالح الأنظمة فلم يسلك الشاعر غالبا مسلك التأسيس لما يمكن ان يكون حضارة أمة.. اليوم، من الواجب الابداعي ان يكون الشعر في طليعة الإدلاء نحو آفاق النور التي تنشدها الأمة (الجديدة).. أعتقد أنه في علاقتي بالشعر سأقف حيث أرى انه يجب. المعروف عن جمال الصليعي تفرده بقاموس لغوي خاص في شعره وتعاطي خاص مع الصور الشعرية حيث تتداخل هذه الصور بشكل ممتع عند المتلقي الذي يسأل عن السر وراء ذلك هذه البيدُ علّمتك الكثيرا وتقرّيتها سطورا سطورا لعلها الصحراء... والقرآن....والعربية الأخرى... التي أعرفها. عرف جمال الصليعي في ثمانينات القرن الماضي انه شاعر العمودي بدرجة أولى المضمخة بالايحاءات الايديولوجية لكن يبدو انك غيّرت الاتجاه هل في ذلك استجابة لطبيعة المرحلة؟ أعتقد انها فراشة التجربة تأخذ مسارها التلقائي فتنتقل من حقل الى حقل... وها نحن اليوم تهدينا الثورة حقلا أخصب وأرحب... وسنمرّ. تعددت المدارس الشعرية ورغم ذلك حافظ جمال الصليعي على علاقته الحميمية بالأوزان الخليلية فهل يعني ذلك تجاوبا مع الاذن النافرة لقصيدة النثر؟ كان الشعر قبل الخليل وبقي الشعر بعد الخليل ولم يكن الخليل الا راصدا، أنا فيما يكتب العرب من شعر يتوافق مع رصد الخليل. وأكتب النثر أحيانا فأسميه نثرا ولست بحاجة لمجاراة أحد لأنعت بالجديد أحاول أن أنجز جديدي فيما هو لي وليست عندي عقدة القدامة ولا بي وهم الجدّة في ملابس غيري. كيف تنظر الى الرأي الذي يقول ان الاشتغال على التراث في الشعر هو طريقة للتخلص من الرقابة؟ أقول بعض الاشتغال على التراث كذلك ولكن مطلق الاشتغال على التراث من أدوات الشعري ولكن في الحديث عن الاشتغال على التراث سؤال أي تراث؟ أرى معظم مسالك الاشتغال على التراث تعتمد تراث الآخر بدعوى المعرفي والانساني والحداثي وحين نشتغل على تراثنا نتهم بالقدامة حتى وإن كان اشتغالنا على الأقرب زمنا مما يشتغلون. الى أي مدى يمكن القول ان القصيدة صناعة فنية قبل ان تكون موقفا؟ هذان قولان لا ينفي أحدهما الآخر، فالقصيدة صناعة فنية لموقف، أيا كان الموقف فإن تناولته ابداعيا بأي مسلك إبداعي فأنت تصنع لهذا الموقف فنّ (تسويقه) طبعا إذا اعتبرنا غلبة الصناعة في الابداع / والقول بين الصناعة والعفوية في الابداع مما يصطلح عليه بالطبع والصنع ليس هذا مجاله. بعض الملاحظين والنقاد يقولون ان مفردات جمال الصليعي الشعرية موغلة في القدم ما هو تعليقك؟ أرى أن هذا القول ظالم لي.. ونصوصي موجودة، والبيّنة على من ادّعى. من القصائد التي شدّت الانتباه في مدوّنة جمال الصليعي الشعرية قصيد «محاولة في القول» اثر سقوط بغداد فهل في ذلك محاولة للملمة صوتك التائه؟ لم يكن صوتي تائها أبدا. إنما ذلك نص فرضت شكله المرحلة... كانت فكان وذلك من باب تقليب القول والاشتغال على لغة قادرة على العبث. يتميّز جمال الصليعي بحضور ركحي متميّز يشد المتلقي بشكل ملفت للانتباه... اي سرّ وراء ذلك؟ أرى أن جودة تقديم النص مشافهة وركحيا هو إعادة كتابة للنص الذي كتب اصلا بروح محاورة مشافهة وهو ايضا تقدير للجمهور الحاضر. على اعتبار انه ليس من اليسير اليوم ان يكون للشاعر قاعدة جماهيرية عريضة اين يكمن الخلل من منظورك الخاص من الشاعر او المتلقي؟ لا أعتقد ان المتلقي يحرم نفسه من متعة قيّمة ان وجدها انما على المبدع ان يعرف كيف يخاطب الناس ليكون أهلا لحضورهم. كيف يبدو لك واقع النص الشعري اليوم في ظل هذا «الإسهال» الشعري الكبير؟ ما يمكن ان نسميه «اسهالا» لعلّ من الايجابي ان فيه مجالا للفرز ومساحات للتجريب / أما واقع النص، فإني أعتقد أنه سيكون هناك واقع جديد تفرضه مراحل جديدة تدخلها الأمة، والشعراء والمبدعون جميعا طلائعها وعليهم مستحقات النهوض بالفكر عبر مسلك الابداع. هل القارئ اليوم مازال في حاجة ماسة للشعر؟ نحن في حاجة دائمة للشعر ما دامت هناك نسمة تحمل رسائل العشّاق ونحن بحاجة للشعر مع كل زهرة تتفتح ونحن في حاجة للشعر ما بقي على الارض قلب يخفق. الثورة التونسية ماذا أهداها جمال الصليعي الشاعر؟ بل الثورة العربية من تونس هي التي أهدتنا الحياة وأهدتنا أقلاما.. لنكتب بها عن الحب والحق والفضيلة.. والحرية. ثورة النّار مُر النار تكتب تفاصيل أغفلها النائمون وأنت تراقص قدّ اللهيب على حشرجات السّبات وأنجز قليلا من الموت تحتاجه كي تفيق الحياة قليل من الزيت فوق «إذا الشّعب» يكفي لتأتي «إذا الشّعب» رافلة مزدهاة يواعدك الجوع بين الرغيف البعيد وبين مواعيد عرقوبها خُلّبيّ اللغات وليس فقيرا... ولكن نواطير مصرك أعطت عناقيدها للنجاة ونحن الذين اصطخبنا لشاعرنا إذ أراد الحياة وجاء البُغاة فقالوا: «نرى خيركم في المماتْ» لنا الأرض قالوا وخيراتها، من عليها، وشطآنها الساحرات ونمنحكم : قفّة الفقر والجهل والحزب والصحف الكاذبات مر النار تكتب فقد كذبت هذه النّخب المشتراة تريك أناقتها في النهار وفي الليل تأوي الى فُرش الموميات لها عسل الوهم في قطران الطلاة من النار تكتب فإن لنا من رصيد الدماء كفايتنا دائما للنجاة لنا فائض من كرامة شعب أبيّ ولكن طيبتنا مدخل الطغاة وفي آخر الصبر مقبرة للطغاة مر النّار تكتب فأمّك حاضرة للشهادة، كانت أعدّت بنيها لكل الدروب وكل الجهات مر النّار تكتب تفاصيل يجهلها الساسة العابرون وأهل الخراج ووفد الجباة مر النار تكتب : «إذا الشعب يوما أراد الحياة فلا بدّ أن تستجيب الحياة» ولابدّ أن يسقط الظالمون الطغاة