«التلميذ التونسي، في المعاهد خاصة، شعلة من الطاقات.. وحسب تجربتي المتواضعة أستطيع الجزم بأن الأنشطة الثقافية والرياضية، منذ سنوات كانت متنفّسا، فيه يفرغ التلاميذ هذه الشعلة..
فكانت تمتصّ جانب العنف فيهم.. لكن اليوم هذه الأنشطة ليست سوى حبر على ورق»..هكذا تحدّث السيد محمد عيّاد بحرقة عن غياب الأنشطة الثقافية والرياضية في المدارس والمعاهد التونسية. هذه الأنشطة أكد غيابها عن مؤسّساتنا التربوية أساتذة وتلاميذ على حدّ السواء، وهناك شبه إجماع على أهميتها وضرورتها. السيد محمد عياد، هو تقني مخبر بالمدرسة الصادقية باشر مهنته منذ 18 سنة أي منذ سنة 1994، لكنه أكد أن التغييرات كانت واضحة بين الأمس واليوم. وأوضح في سياق حديثه أن وزارة التربية ترسل سنويا مناشير لا تحصى ولا تعدّ حول برمجة وبعث يوم المسرح المدرسي، ويوم الموسيقى المدرسي، وكذلك نوادي الصحة، ونوادي الحوادث المرورية، لكنه شدّد في المقابل على أن المؤسسات التربوية لا تبعث هذه النوادي هذه الأيام لغياب التلاميذ.
الوقت ودروس التدارك
ثم سألنا السيد محمد عياد عن الأسباب الكامنة وراء ذلك، فأجاب دون تردّد «الوقت أهم الأسباب المباشرة، فالتلميذ يدرس ما بين 32 و37 ساعة أسبوعيا، وبقية الوقت لدروس التدارك والمراجعة المنزلية». وأضاف محدثنا أن الأساتذة أنفسهم فقدوا الرغبة في تنشيط النوادي الثقافية والرياضية لأنهم والكلام للسيد محمد عياد لم يجدوا الدعم من وزارة التربية، وتحديدا من مصلحة التنشيط الثقافي، فغابت بالتالي، الأنشطة الثقافية والرياضية على حدّ سواء. كان السيد محمد عياد يحدثني، ويدقق النظر فيّ ليقطع الحوار ويذكّرني بالمعهد الثانوي بالهوارية أيام كان يعمل هناك وكنت بذلك المعهد تلميذا كنا كل مساء يوم جمعة نقسّم المعهد الى ورشات، فنجد الموسيقى، والفلسفة والصحة والرسم والقصة والرياضيات الفردية والجماعية. في تلك اللحظات وأنا أتأمل تلك الذكريات، قال محدثنا «أتذكر تلك العلاقة الجيدة التي كانت تربطكم كتلاميذ بالأساتذة؟!.. أتذكر كيف تتبادلون أطراف الحديث، وتسيّرون الدرس دون شعور بالملل من الحصص؟!.. أتذكر أنه رغم الفذلكة مع الأساتذة كيف كنتم تتهرّبون منهم احتراما خارج المؤسسات التربوية..؟!».
الهوّة
طرح السيد محمد عياد أسئلته، ثم صمت برهة، ليخرج من دواخله البعيدة تنهيدة مشفوعة بما يلي «كان ثمّة وقت للإصغاء، واليوم مكاتب الاصغاء الضرورية بطبعها غير موجودة.. اليوم أصبحت العلاقة بين المعلم أو الأستاذ والتلميذ علاقة متوترة، فمن القسم الى دروس التدارك.. وشخصيا أنا ضدّها..». «إنها الهوّة»، يقول محدثنا بين المربّي الذي أصبح ملقّنا، والتلميذ الذي تحوّلت الشعلة والطاقة المتقدة فيه الى حقد على أستاذه.. اليوم ما يحصل هو أن المربّي يمتصّ دم التلميذ فحوّل علاقته به الى حقد..». «أين هي أيام الرسكلة البيداغوجية.. وأين هي المناظرات، المحفّزة للبحث والتكوين المستمرّ؟! ماذا ننتظر من معلّم أو أستاذ يدرّس منذ 25 سنة ولم يقم بتكوين مستمرّ؟!..».
وضع مؤلم
«الوضع مؤلم جدا، ونأمل أن يتغيّر».. هكذا ختم السيد محمد عيّاد حديثه.. كلام لم يأت من فراغ، لأنه بمجرّد أن أنهى حديثه، حاولنا، أن نجد ما يثلج الصدر، ويفنّد ولو بعض ما قاله الرجل عند مصافحتنا لبعض تلاميذ المعهد الثانوي بشارع مرسيليا، هناك كان أكرم ويوسف ورحمة، تلاميذ بالسنة التاسعة من التعليم الأساسي، يتبادلون أطراف الحديث، سألناهم عمّا إذا كانت هناك أنشطة ثقافية في المعهد، فكانت إجابتهم للوهلة الأولى بغير الكلام، بل هو كلام جيل اليوم حدّ الازدراء.. كلهم ضحكوا بمجرد نهاية السؤال، ليأخذ أكرم مسؤولية الكلام دون أن يكون قد قال كلاما، لأن ما أراد قوله تقاسمه جميع من كان معه، الكلام أو الاجابة عن السؤال المتقطعة من لسان الى آخر كانت كالآتي: «ليس لدينا أنشطة ثقافية، ولا رياضية، وحتى فترة الاستراحة حرمنا خلالها من الأغاني..». وما أن أنهوا حديثهم الجماعي، سألناهم «هل ترغبون في الأنشطة الثقافية بمعهدكم؟!»، أجابت رحمة بسرعة البرق «نعم وخاصة المسرح» ليقاطعها أكرم «للأسف المسرح يدرّس لتلاميذ السابعة أساسي فقط..».
غريب
«وهل كانت هناك أنشطة ثقافية في السنوات السابقة؟» سألت هؤلاء التلاميذ، فأجاب يوسف «نعم في السنة الماضية كانت النصف ساعة ب15 دينارا؟»!إجابة لا تستحق التعليق، ف«مصّان دماء التلاميذ لم يكن في دروس التدارك فحسب كما قال السيد محمد عياد..». أما عن التوقيت الذي كان من المفترض أن يكون للأنشطة الثقافية، فإنه على حدّ تعبير كل التلاميذ الذين سألناهم ممّن ذكرناهم وممّن لم نذكرهم، فإنه «إما في المنزل أو في دروس التدارك».
الأنشطة السياسية
وعلى صعيد متصل، اتصلنا بالممثل والمسرحي شاذلي العرفاوي، الذي يدرّس مادة التربية المسرحية بأحد المعاهد ببلادنا.. يقول مخرج مسرحية «ديزير» «الأنشطة الثقافية غابت تماما عن معاهدنا بعد الثورة، والتلميذ لم يعد يذهب لهذه الأنشطة، وهذا كلّه نتاج عدم الاستقرار السياسي». ويضيف «العرفاوي» «اليوم لم نعد نتحدث عن أنشطة ثقافية داخل المؤسسات، وإنما أصبحنا نتحدث عن أنشطة سياسية، لذلك فدور أساتذة الفنون يجب أن يكون مضاعفا في هذه الفترة العصيبة..». ما جاء على لسان الشاذلي العرفاوي، ليس مبالغا فيه، فقضاء نصف ساعة من الزمن وأنت تنصت الى التلاميذ ومطالبهم يذكّرك بالتحقيقات والريبورتاجات التي تقرأ على صفحات الجرائد وتقدّم في نشرات الأخبار في برامج مختصّة بمشاغل المواطنين، فالتلميذ محمد أمين (7 أساسي) دخل الحوار الذي جمعنا بزملائه لا للحديث عن غياب الأنشطة الثقافية بالمعهد، وإنما ليتحدث عن السرقات (هواتف جوالة، وملابس) وعن بطاقات الدخول ب«الأكتاف والمعارف» على حدّ تعبيره، وطالب بإحداث مكيفات وسخّانات داخل قاعات الدرس لتحسين ظروف الدراسة، وتحدث بإيعاز من زملائه عن القاعة 12 ورائحتها الكريهة! وأنت تستمع الى هؤلاء التلاميذ، يخيّل إليك أن المعهد دولة داخل الدولة، لكن الدولة (المعهد) لا قضاء فيها يردّ حقّ التلميذ المسروق ولا فنون فيها تهذّب الأذواق والأخلاق هي «تعلّمك الهملة».. هكذا علّق محمد أمين.