أشكال جديدة وابتكارات في التعبير عن الاحتجاج، عنف وحرق وفوضى، اعتصامات وإضرابات، جميعها تكاثفت في الأيام الأخيرة، اجتماعية بالأساس، مطلبية، ولكنها تتحول الى احتقان، وقد شملت عديد الجهات والقطاعات، فهل تهدد الفوضى البلاد حقيقة؟ ولماذا يتواصل الاحتقان الاجتماعي؟ شهدت نهاية الأسبوع مواجهات عنيفة في أم لعرايس من ولاية قفصة بين أبناء المعتمدية ورجال الأمن، كما شهدت الضواحي الجنوبية وتحديدا الملاحة من معتمدية رادس أحداث شغب ومداهمات على خلفية اعتصام لشباب المنطقة العاطلين عن العمل.
لا يكاد يمر يوم تقريبا، إلا وتنهال الأخبار من مختلف الجهات عن تحركات احتجاجية، عن اعتصامات واضرابات، مطلبية اجتماعية تنخرط فيها فئات مختلفة، ولكنها تعبر عن تواصل معاناة جزء واسع من التونسيين.
هي وقائع يومية، لا ينكرها أحد، موثقة وحقائق ملموسة، تكاد تصبح اعتيادية، بل أصبحت الخبز اليومي للمواطنين، والمسؤولين على حد سواء، ولكنها تتكاثف أحيانا، وهذا ما حصل في المدة الأخيرة.
ويكفي مثلا أن نعدد ما حصل منذ بداية هذا الأسبوع، ونأتي بأمثلة عن الاحتجاجات، حتى تكتشف من حيث الكم أن الاحتقان الاجتماعي «يغزو» تونس. فقد شهدت عدة معتمديات من ولاية قفصة اضرابا عاما ومطالبة بالتشغيل في شركة الفسفاط ، كما شهدت القصرين احتجاجات للمطالبة بالتنمية والتشغيل وحق الجرحى، وشهدت الجهة مسيرة شارك فيها الالاف من أبناء الجهة، و شهدت مدينة سيدي بوزيد مواجهات بين الأهالي وقوات الأمن، وشن أبناء معتمدية مكثر من ولاية سليانة اضرابا وموجة من الحركات المطلبية، احتجاجا على واقع الجهة. ولا تكاد تقف تحركات المعطلين عن العمل كل يوم وفي مختلف جهات البلاد، بل انها شملت عديد المناطق دون استثناء (سوسة، قابس).
ابتكار
هذه التحركات، وهذا الاحتقان لم يقتصر على الأشكال التي أصبحت عادية واعتيادية كالاعتصامات والاضرابات والوقفات الاحتجاجية، بل هناك من يرى أن هذه الأساليب لم تعد لها ما يكفي من النجاعة، فقد عمت مختلف أنحاء الجمهورية.
وتطورت المسألة الى حد احتجاز معدات عامة، كما الذي حدث في على مستوى الطريق الفاصلة بين قفصة وأم العرايس في الأسبوع المنقضي عندما احتجز شبان حافلة نقل عمومي لسويعات وأجبروا ركابها على النزول والمشي على الأقدام.
كما عمد أحد جرحى الثورة الى خياطة فمه، تعبيرا عن الاحتجاج على تواصل تهميش مطالب عائلات شهداء وجرحى الثورة وهو شكل احتجاجي لم يكن معمما، بل يذكر الجميع أن محمد عبو الوزير الحالي للاصلاح الاداري خاض هذا النوع من الاحتجاج أيام الحكم عليه بالسجن في عهد المخلوع على خلفية نشره مقالا.
غريبة
ويتذكر جميع التونسيين ما أشتهر بتسميته «غزوة الساعة»، عندما عمد عدد من الشباب السلفي الى الصعود فوق ساعة ساحة الثورة بشارع الحبيب بورقيبة حاملين في أياديهم أعلامهم السوداء محتجين ومطالبين بادراج الشريعة كمصدر تشريع في الدستور.
ولا ننسى أيضا لجوء عدد من الشباب العاطل عن العمل من سيدي بوزيد الى السير نحو العاصمة على الأقدام، والزحف من أجل حقهم في التشغيل في بداية الشهر، ليصلوا يوم 9 أفريل الذي شهد أحداث عنف استهدفت المتظاهرين في شارع الحبيب بورقيبة مازالت السلطات تحقق فيها.
كما لم يكتف المحتجون بالمطالبة بالشغل أو تحسين الوضعيات، بل شملت المطلبية الاعتصام من أجل «مخفض سرعة» وهو ما حصل في الأسبوع المنقضي في منطقة سيدي جمال الدين، حيث طالب الأهالي هناك بتركيز مخفض للسرعة في الطريق الرئيسي بالمنطقة، ووصل بهم الأمر الى الاعتصام في الشارع.
تقليد
ويذهب محمود الذوادي المختص في السوسيولوجيا الى أن هذه التحركات لم تشمل فقط المناطق التي اندلعت فيها الثورة والتي شهدت تحركات واحتجاجات واحتقانا متواصلا بل شملت أيضا عددا من المناطق الفقيرة الأخرى التي تريد أيضا حقها في التنمية و يخشى متساكنوها أن لا تشملهم المشاريع التنموية المنتظر تركيزها، وقد شملت التحركات جندوبة وعدة مناطق بسليانة.
ويوضح المختص في علم الاجتماع أن عددا من الشباب وخاصة العاطل عن العمل يرى في تحركات غيره وأقرانه في مناطق أخرى أسلوبا ناجعا لايصال صوته لذلك فهم يتعمدون التحرك من أجل أن يحظوا بنصيبهم هم أيضا في التشغيل و يقلدون الشباب الاخر من أجل لفت انتباه المسؤولين.
وقد شملت هذه التحركات الاحتجاجية، من وقفات واعتصامات واضرابات عدة قطاعات ومجالات خاصة الحيوية منها وكانت مطالبها بالأساس تحسين الأوضاع، حيث أن عددا من القطاعات مثل النقل، والاتصالات شنت تحركات بشكل تواتري ومتتالي وتواصل بعض القطاعات الأخرى شن مثل تلك التحركات بغاية تحسين الوضعيات.
غياب تقاليد
غياب التقاليد الديمقراطية والاحتجاجية المنظمة، ساهم أيضا في تكاثف هذه التحركات وفي تواصل الاحتقان الاجتماعي كما يذهب الى ذلك بلعيد ولاد عبد الله المختص في علم الاجتماع، ويوضح ولاد عبد الله ذلك مؤكدا أن فئات عديدة من الشعب غير متعودة وغيرمتدربة على الحرية وعلى وضع الانتقال الديمقراطي الصعب.
ورغم أن عددا من هذه التحركات لها أسبابها الموضوعية،خاصة مع تواصل الصعوبات الاجتماعية، فان هناك نوعا من الانتهازية التي تظهر في عديد التحركات كما يفسر ذلك ولاد عبد الله، مضيفا أن الفكر الفردي والفردانية سادت لعقود لذلك تغلب المصالح الذاتية في التحركات المطلبية دون مراعاة للمصالح الجماعية.
حملة انتخابية
من جانب اخر يفسر بلعيد ولاد عبد الله تكاثف مثل تلك التحركات بمحاولات توظيفها السياسي من قبل الخصوم السياسيين، حيث يتعمد مختلف هؤلاء الى اللعب على نقاط ضعف الخصم، وتستغل جميع الأحداث من احتقان اجتماعي وتحركات مطلبية وغيرها في المعارك السياسية.
ويضيف ولاد عبد الله في نفس الاطار، أن الأحزاب السياسية تقوم بحملات انتخابية سابقة للأوان، مستغلة جميع الأحداث، ودون طرح برامج اجتماعية واقتصادية وسياسية وانما عن طريق تأجيج التحركات الاجتماعية وحتى العفوية منها.
كما يفسر المختص في علم الاجتماع تواصل الاحتقان الاجتماعي وتكاثفه، بالسلوك الفوضوي غير المنظم وبغياب الحوار بين مختلف الفاعلين ومكونات المشهد السياسي والاجتماعي، وبضعف الدولة وصعوبة تعاملها مع الملفات الكثيرة المطروحة على طاولة المسؤولين.