هل أنّ تونس «مهدّدة» فعلا بعودة الحزب الواحد؟ سؤال يُطرح بشدّة على الساحة السياسية لعدّة اعتبارات منها ما أظهره حزب حركة النهضة من قدرة على التنظّم والهيكلة وما تعيشه غالبية الأحزاب الأخرى من مشاكل تهدّد بتصدّعها. التجربة السياسية التي تعيشها تونس اليوم يعتبرها البعض فريدة خاصة أنّ الأحزاب التي تشكّل الائتلاف الحاكم لا تجمعها مرجعية سياسية وفكرية واحدة بل هو ائتلاف بين إسلاميين وعلمانيين، هدفه إنجاح هذه المرحلة التأسيسية وعنوانه التوافق.
تصوّرات وتوازنات
وسبق للناطق الرسمي لرئاسة الجمهورية عدنان منصر أن صرّح في حديث سابق ل «الشروق» بأنّ «من يحكم البلاد اليوم هي ترويكا من ثلاثة أحزاب وهذه الترويكا تمثّل الإسلاميين المعتدلين والعلمانيين المعتدلين، بل إنّها دليل على أنّ هاتين المدرستين قابلتان للتعايش في إطار تيار وطني جامع وأنّ إسلاما متنوّرا ومنفتحا بإمكانه أن يستوعب الممارسة الديمقراطية كما أنّ علمانية متنورة ومنصهرة في هويتها بإمكانها أيضا أن تنجح في ما فشلت فيه العلمانية المتوتّرة».
ويضيف منصر «نحن نؤمن أنّ هذا الائتلاف الثلاثي هو فرصة حقيقية لمستقبل الديمقراطية في بلادنا بل هو نموذج لما يمكن أن تكون عليه الأوضاع في بلدان أخرى، إذ لا مستقبل للديمقراطية دون تعايش ولا مستقبل للتعايش دون تيار وطني جامع والائتلاف الحاكم اليوم في تونس بمختلف مكوّناته هو المعبّر عن هذه المبادرة في تشكيل هذا التيار الوطني الجامع باعتباره الممثل أيضا لروح الثورة، تلك الثورة الّتي لم ترفع لا شعار الشريعة ولا شعار العلمانية وإنّما شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعيّة.»
وما قاله المتحدّث باسم رئاسة الجمهورية يتطابق مع الواقع في جانب كبير منه، ولكنه لا يخفي حقيقة أنّ تركيبة الائتلاف الحاكم غير متوازنة إلى حدّ ما وأنّه من الواضح أنّ حركة «النهضة» تستأثر بالنصيب الأوفر من مقومات إدارة الشأن العام بدءا من المسك بالحقائب الوزارية المهمّة وتوزيع المناصب الكبرى للدولة، فضلا عن أنّ الحركة لم تعرف حتى الساعة ما يمكن أن يمسّ من تماسكها خلافا لما يجري في حزب المؤتمر من أجل الجمهورية، شريكها في الترويكا ولم تعرف التوتر الذي عرفه حزب التكتل، شريكها الثاني في الائتلاف الحاكم.
ويكاد المتابعون للشأن السياسي في تونس يجمعون اليوم على أنّ حركة «النهضة» باتت القوة السياسية الأولى في البلاد لما أظهرته من قدرة على تعبئة الشارع ولما تحظى به من دعم شعبي رغم أنّ بعض التحاليل تذهب إلى أنّ تولي الحركة قيادة الحكومة الجديدة في هذه الفترة أضعفها وأفقدها الكثير من الشعبية والمصداقية. ويقول نواب في حركة «النهضة» التقتهم «الشروق» إنهم على ثقة بأنه إذا جرت انتخابات اليوم سيكون للحركة النصيب الأوفر من الأصوات فيها. شواهد ومخاوف
وبالإضافة إلى ما سبق ذكره يُعدّد متابعون للشأن السياسي في تونس بعض الشواهد والمخاوف من عودة الحزب الواحد، التي يمكن تلخيصها في النقاط التالية: 1- التهديد بإقصاء الدساترة والتجمعيين والنظر إلى تحركاتهم بعين الريبة والشك، وقد عبّر عن ذلك رئيس حركة النهضة الشيخ راشد الغنوشي ورئيس الحكومة حمادي الجبالي حين أكّدا أنه لا مجال لعودة التجمعيين «من الشباك بعد أن غادروا من الباب»، ويرى المراقبون أنّ هذه الرؤية مردّها الحرص على ضمان غياب منافس جدي على الساحة السياسية في المرحلة المقبلة، خاصة أنّ الجميع يدرك ما للدساترة والتجمعيين من قدرة وخبرة في إدارة الشأن العام بما انهم كانوا المسيطرين على المشهد لوحدهم لمدة أكثر من نصف قرن ، إضافة إلى امتلاكهم ل«ماكينة انتخابيّة» يذهب عديدون إلى أنّها كانت تقف خلف بروز تيار العريضة الشعبية في انتخابات 23 أكتوبر الأخيرة. 2 - التعيينات الأخيرة على مستوى الولاة والمسؤولين السامين في الدولة، والتي أثارت جدلا كبيرا وعلّقت عليها المعارضة سيل من الانتقادات والاتهامات ل «النهضة» بالسعي إلى التحكم في دواليب الدولة. 3 - محاولة السيطرة على الإعلام، والتي تجلّت في خطاب الحركة وعلاقة بعض قياداتها بوسائل الإعلام وعجز الحكومة حتى الآن عن إيجاد صيغة مناسبة لإصلاح هذا القطاع دون المسّ باستقلاليته ودون جرّه إلى الحسابات السياسية وإقحامه في التجاذبات القائمة على الساحة. 4 – محاولة تسييس المساجد، وهذه «تهمة» وجّهها خصوم «النهضة» إلى هذه الحركة منذ مرحلة ما قبل الانتخابات ولا تزال هذه التهمة تلاحق الحركة التي تسعى إلى التمايز عن التيار السلفي المسيطر على بعض المساجد سواء بحضوره القوي ونشاطه أو بخطابه الذي يروجه في المساجد. 5- التمسّك بنظام برلماني، الأمر الذي يمكّن الحزب الفائز بأغلبية الأصوات في الانتخابات القادمة من تشكيل الحكومة القادمة التي ستتولى تعيين رئيس للجمهورية، ووفق قراءة السياسيين فإنّ «النهضة» بتمسّكها بهذا الشكل من الأنظمة تسعى إلى البقاء في صدارة الفاعلين السياسيين خلال السنوات القادمة وبالاستناد خاصة إلى الحضور القوي للحركة في الشارع وقدرتها على التعبئة، وإلى الاستئثار بأبرز الصلاحيات في تسيير الشأن العام... وستكون هذه النقطة (شكل النظام السياسي) من أبرز النقاط الخلافية التي ستشهد نقاشا واسعا في المجلس التأسيسي عند صياغة الدستور بما أنّ شريكي «النهضة» في الائتلاف الحاكم يخالفانها الرأي في اعتماد نظام برلماني. 6 - التململ والضيق من تحركات بعض رموز المعارضة وخصوصا إزاء مبادرة الوزير الأول السابق الباجي قائد السبسي. 7 - غياب توحّد المعارضة وأساسا الكتلة الدستورية، الأمر الذي يعمّق الفارق بين «حزب حاكم» تزداد قوته وتجربته على الساحة السياسية ومعارضة مشتّتة لا تكاد تلتقي على برنامج موحّد ولا يكاد أداؤها يتجاوز مجرّد انتقاد كل ما تأتيه الحكومة دون تقديم بدائل جديّة، وهو ما قد يتسبّب في تراجع شعبية هذه المعارضة وتعرّضها ل«عقاب الناخبين» في الاستحقاق الانتخابي القادم.
فقر إيديولوجي
ويقدّم محللون سببا إضافيا يجعل من المرجّح المضي نحو سيطرة حزب واحد على الحياة السياسية في تونس اليوم وهو الفقر الإيديولوجي أو ربما نهاية الإيديولوجيا، بمعنى أنّ الأطروحات اليسارية المتطرفة لم تعد تجد اليوم أتباعا لها وبدا أنّ الساحة تتّجه إلى الوسطية، فضلا عن أنّ إثارة مسائل الهوية قد عزّز لدى التونسيين ثقتهم بالانتماء إلى الهوية الإسلامية وأظهر حجم الصحوة الدينية في البلاد، وهذه كلها نقاط استفادت منها حركة النهضة في الحصول على أكبر عدد من الأصوات خلال الانتخابات التأسيسية وقد تزيد اليوم من درجة شعبيتها إذا ما مضت أحزاب المعارضة في معركتها بنفس الأسلوب ونفس القواعد والأسس.
ويعتبر متابعون للشأن السياسي في تونس أنّ كلّ هذه المؤشرات تجعل حركة «النهضة» مرشحة لأن تكون الحزب المسيطر على الساحة السياسية في تونس خلال السنوات القادمة، خاصة أنّ صعود الحركات الإسلامية إلى الحكم ليس «بدعة» تونسية وإنما هو أمر مُعمّم على عدد كبير من الدول العربية والإسلامية... لكن سيطرة «النهضة» لا تُفهم هنا بمعنى خلق نظام سلطوي استبدادي أو على وجه إعادة إنتاج تجربة التجمع المنحلّ في الحكم لأنّ مثل هذه الأحكام تبقى سابقة لأوانها ولن يكون من الموضوعي إطلاقها اليوم.