(أستاذ تونس) غصن الزيتون رمز الحياة والنماء. غصن الزيتون رمز الحضارات القديمة. غصن الزيتون يتجنّى على الدهر، أبلى التاريخ منذ أعصر أمما وأقواما، أبلى الهلاك منذ غابر الأزمان الإغريق والرومان.. أقوام وأقوام دكّها الموت والفناء، وظلّ الغصن شامخا، يتطاول من خلف أثافي وأطلال الحضارات البائدة في تحدّ وإباء. غصن الزيتون تطربه تغاريد البلابل وشدو العصافير.. غصن الزيتون يتمايل فرحا لدغدغة نسائم الصباح الندية.. غصن الزيتون يعانق في كبرياء جموع النسور الحائمة في الفضاء الرحب.. ألم يكن النسر منذ الأزل رمز القوة والجبروت وطول العمر؟ ألم يأت الفناء على أنسر لقمان السبعة؟ ألم يخن الموت على لبد؟ فهل يقوى الغصن أمام عواطف الخطوب؟ هل يصمد الغصن أمام الفواجع والكروب؟ ... ترقص أوراق الغصن لخفقان أجنحة الحمائم.. ذلك الحمام الزاجل، رمز الطهر والصفاء.. رمز الحرية والسلام والهناء..ألا يا غصن الزيتون، يا سليل المجد والبركة.. ألا يا غصن الزيتون يا توأم التين.. ألا يا غصن الزيتون يا مصدر النور والشفاء.. ألا يا غصن الزيتون يا من لا يبالي بغضب الأنواء.. ألا يا غصن الزيتون يا جريح الأعداء.. أقم شامخا صامدا في عنان السماء.. ودع عروقك تلامس نهايات الثرى.. أقم في تعال في أرض مقدسية.. أقم في تسام في أرض عربية.. ألا يا غصن الزيتون يا رمز الحياة، علّم أعداء الحياة حب الحياة، علّمهم التسامي والشموخ قبل الفوات. ما أجمل أن تداعب الأناسم غصن الزيتون فيتمايل في كبرياء محملا بحبات الزيتون السوداء والخضراء المبللة بالطلل، ويشمخ مزهوا بأصوله الضاربة في القدم.. أصول لا شرقية ولا غربية.. ما أجمل أن يتسلل من الغصن بريق أخاذ، يطبق لمعانه الآفاق ويملأ الرحاب كلما صافحت أشعة الشمس حبات الزيتون! ما أجمل أن تمتدّ يد الفلاح الى غصن الزيتون.. يتأمله بحنوّ وأمل.. يرى فيه ثمرة جهده وغنيمة عرقه وجزاء تعبه وشقائه.. يرى فيه قوته وقوت عياله، لقمة عيشه التي لا بدّ منها! ما أجمل أن تداعب نسائم الأصيل أوراق الغصن وتلاعبها فتحدث حفيفا عذبا آت من أعماق عذرية أناشيد الطبيعة الخلابة الجميلة! ما أجمل أن تلهو الرياح بحبات الزيتون العالقة بالغصن فتحدث نقرا واقعا تستسيغه الاذن وتستعذبه النفس! ما أجمل أن يتمايل الغصن في بهاء ودلال.. يهتز في خيلاء.. ينحني للعواصف والرياح العاتية ككل أغصان المغروسات من حوله! ما أجمل اليخضور يسري بلا ضجيج.. فيهبّ اكسير الحياة لجذوع وأغصان وأوراق وأثمار! ما أجمل أن تسرّ عين الرائي بوقع الفراشات على الأغصان ورقصات النحل حول الأزهار ودوران الأطيار حول الأشجار! ما أجمل معزوفة الحياة.. ما أبهى شدو الحياة تنسجه أوراق الشجر، يردد صداه طنين النحل ويضبط إيقاعه قطر المطر! ما أجمل أن تمتدّ يد الفلاح إلى الغصن اليانع يوم الحصاد.. ترقص أصابعه فرحا وهو يجني ثماره ويستعذب ينعه وطعمه وقطفه. غصن الزيتون (2) غصن الزيتون رمز الحضارات القديمة.. غصن الزيتون يفاخر التاريخ.. ينازعه الوجود.. غصن الزيتون يباهي التاريخ.. ينازعه القدم.. غصن الزيتون يختزن ذاكرة الشعوب.. غصن الزيتون حافظ للذاكرة الجمعية.. غصن الزيتون جزء من حياة الشعوب وتاريخها وحضاراتها.. قال الغصن همسا : اسألوا.. اسألوا القدامى.. اسألوا أول من فلح الأرض.. اسألوا آدم.. اسألوا ذرية آدم من بعده.. اسألوا الإغريق.. اسألوا الفنيق.. اسألوا أور.. اسألوا سبأ.. اسألوا صور.. اسألوا أثينا القديمة.. غصن الزيتون رمز الحضارات البائدة.. غصن الزيتون إكليل بهيّ يوشّي جبين الفائز في منافسات الألعاب الأولمبية.. إكليل يفخر به كل من اعتلى منصة التتويج في غابر الأزمان والأيام السالفة.. ما أجمل أن ترى غصن الزيتون تاجا فوق الرؤوس، يعتلي الجباه..! ما أجمل أن ترى غصن الزيتون تداعبه أنامل صبايا فاتنات.. أنامل حفيدات الإغريق الجميلات..! ما أجمل إطلالة غصن الزيتون في حفل مهيب..! ما أجمل غصن الزيتون في الغرس ينعم بالحياة..! غصن الزيتون (3) ذات يوم، اقتلع غصن الزيتون من منبته واقتيد قهرا الى بناية الأممالمتحدة. ذات يوم حضر غصن الزيتون الجريح مداولات الأممالمتحدة وحواراتها الساخنة. ذات يوم حلّ غصن الزيتون الأسير ضيفا على أروقة الأمم التي قيل أنها متحدة. ذات يوم اعتلى غصن الزيتون الموجوع أكبر منابر هذه الأممالمتحدة. ذات يوم تكلّم غصن الزيتون مخاطبا الحشد الصّامت من أعالي منصّة المحافل الدولية. ذات يوم تاريخي مشهود أصغى العالم بأسره لأحدهم يتكلم نيابة عن غصن الزيتون. ذات يوم تكلّم الرجل ملوّحا بغصن الزيتون في الفضاء، قال: جئتكم أحمل البندقية في يدي، وغصن الزيتون الأخضر في يدي فلا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي لا تسقطوا الغصن الأخضر من يدي يومها صفق الحضور ومن يتابع المشهد بحرارة، ووقفوا اجلال وإكراما لغصن الزيتون. يومها اهتزّت الكرة الأرضية لاهتزاز غصن الزيتون في يد الخطيب. نادى الخطيب بحق الحياة.. توسّل الخطيب بغصن الزيتون.. استعطف الخطيب الأحرار ومحبي الحياة لنصرة غصن الزيتون. تنادى الجمع : ليحيا غصن الزيتون صاح الحشد : ليعش غصن الزيتون، لتعش حمائم السلام.. الموت لأعداء غصن الزيتون.. الموت لأعداء الحياة.. الموت لغربان الظلام. يومها تمّ ذكر غصن الزيتون وتدوينه في سجلات الأممالمتحدة.. يومها تمّ تحبيره وتوثيقه في أرشيفها التالف غير الصالح لمكان أو زمان. ما أجمل غصن الزيتون في شموخه! ما أبهى غصن الزيتون في عليانه! يومها أحبّ الناس شيبا وشبابا غصن الزيتون. يومها عرف الأطفال غصن الزيتون رمزا للحياة.. والحمائم رمزا للصفاء والطهر والحرية والسلام. يومها توّج غصن الزيتون نفسه ملكا على المعمورة. يومها اعتقد غصن الزيتون يقينا أنه تمكّن من قلوب سكّان الأرض جميعا. يومها أدرك غصن الزيتون أنه برعم الخصب في الأرض العقيمة، أنه بذرة الخير في زمن الجدب، أنه سنبلة أمل تصارع رياح القحط، تحارب ا لقلوب المتكلسّة والعقول المتصحّرة والأحقاد الدفينة.. غصن الزيتون (4) كانت حقول الزياتين تمتدّ عبر السهول، تتلوّى مع المنحدرات والوهاد.. كانت البساتين الحالمة، المحمّلة حياة ونماء تتسلّق الجبال تغطّي الهضاب والتلال، كانت الزياتين تطلّ بأعناقها على دور القرى المتناثرة بين ذاك الاخضرار وتلك المدائن المجاورة.. فتحاكي المآذن في عليائها وشموخها. كانت البساتين العامرة تحاصر الجدب وتقاوم القحط وتدفع عن زارعيها آفة الخصاصة ومحنة الفقر وشبح الجوع وعناء التشرّد والضياع.. ... كانت بساتين وبساتين.. كانت الحقول تجاور الحقول، في رفح، في غزة، في يافا، في عكة، في أريحا، في رام اللّه، في نابلس، وفي جنين، في أكناف بيت المقدس، في بئر السبع، في بيت لحم، وفي بيت لاهية، في بيت حانون، في كفر قاسم وفي كفر شوبة، في الخليل.. وفي كل شبر من أرض فلسطين المغتصب .. كانت الحقول الخضراء اليانعة تمتدّ الى البحر.. تفاخر زرقة اليمّ بهاءها واخضرارها.. كانت مصدر رزق المزارعين وفيها قوت العمال والكادحين والمعدمين، ومنها يعتاش فقراء البدو والقرويون.. لا حياة لهم إلا بحياتها.. انها رزقهم ومصدر عيشهم. زرعها أسلافهم في الأيام الخالية، فتوارثوها وسقوها من عرقهم عبر الأجيال المتلاحقة. ذات يوم لم يأت الغارسون لتفقد أغصان الزيتون المثقلة بالثمار والبركة. ذات يوم أجفلت الطير، وهجرت أوكارها في آكم الأشجار وأعالي الأغصان وأقفر المكان.. حينها تساءل الغصن فقال : ما الذي نفر الطير وقد أنست بها ؟ أنا من يحرس أوكارها ويظلّل صغارها أنا من وفر لها المأوى والمأكل، فما دهاها؟ ذات يوم استوحش الغصن وجوده وحيدا ففقد اطمئنانه المعهود. ذات يوم حان موعد القطاف، ففرح الغصن وتهيأ للحدث.. لكن لا أحد أتى في موسم الحصاد هذا، رغم الجوع، رغم الوهن، رغم الحاجة، رغم المحن.. ذات يوم فزعت فيه الطير، لم يأت الجناة لجني ثمار نضجت واسودّت وحان قطافها وبدأت تتساقط على الأرض.. وجاء جناة آخرون ذات يوم اشتدّ فيه الخطب على غصن الزيتون وفقد الاحساس بالأمان فألمّ به حزن عميق. ذات يوم صحو مشرق، سكن الهواء وأطبق على المكان صمت رهيب.. صمت يشبه صمت القبور فارتجف الغصن خوفا.. ارتجف الغصن وارتعب وخالطه إحساس الفناء ولا يدري سبب خوفه.. ارتجف وكأنه أحسن بدنوّ أجله.. أحسّ بزوال عرشه.. ذات يوم مشؤوم غربت فيه الشمس في كبد السماء عند منتصف النهار، وفاحت رائحة الموت في كل مكان وتهاوت الطيور صرعى بين الأشجار.. أصاخ غصن الزيتون السّمع، يتقصّى ما الذي يحدث.. يتبيّن ما الذي يدور.. أطبق على المكان ظلام وغبار متطاير ودخان خانق، زمجرت السماء بل رعد ولا سحاب، لفّ حقول الزياتين دويّ هائل وهدير آليات غاضبة لم يألفها غصن الزيتون.. اقترب الهدير واشتدّت وطأته من حول الحقول والبساتين اليانعة المحمّلة خيرا وحياة وبركة، تباكت الأغصان وتعانقت الأشجار تودع بعضها البعض، تودع التربة التي وهبتها الخصب والحياة والنماء. تساقطت القذائف والحمم على الأشجار وتطايرت الشظايا في كل مكان فاجتثت الأغصان وقطّعت الأوراق وتناثرت حبات الزيتون في كل مكان واختلطت بالتراب ترويه ماء وزيتا وعرقا، وشبّ حريق هائل في المزارع.. امتدّت ألسنة اللّهب المدمّر إلى الأخضر واليابس احترقت العيدان وانكسرت الأغصان.. عندها صاح غصن الزيتون مفجوعا وهو يهوي على الأرض، تعانقه ألسنة اللّهب وتتلقّفه نيران الموت وحنق الغضب فقال : أين أولئك الذين دانوا لي بالحياة؟ أين أولئك الذين أمضوا بطاقة ميلادي؟ أين أولئك الذين صفقوا لعزّي ومجدي؟ فناداه غصن آخر وقد التهمت النيران جزءا منه، ناداه وهو يحتضر فقال : لا تبتئس، كلّنا إلى رماد نسير بالأمس استهدفوا البشر واليوم لم يسلم من شرّهم الحجر ولا الشجر كنت واهما مثلي تظنّ أنك في منأى عن الخطر ما كنت تدري أنّ عجرفة الحقد غدر ما كنت تفقه مثلي ظلم وبطش ذلك العربيد الأشر اشتدّ الطلق وأتى الحريق على المزروعات فنفقت الجرذان وانصهرت الديدان وتفحّم الحلزون في المخابئ، تحت جذوع الزياتين، تحت التراب.. زحفت الجرافات تقتلع الجذوع من منابتها، فاشتدّ عويل الغصن وهو يئنّ تحت وطأة عجلات الدنس والقهر والجبروت.. تحت غبار الحقد وويلات التنكيل وهمجية الطاغوت.. تشرّبت الأرض نسغ الغصن وهي تحضنه مودّعة.. اشتدّ الوجع على غصن الزيتون.. كبرت مأساته، ظلّت الجرافات تقتلع زياتين البساتين، تغتصب منها إرادة الحياة تحت أشعة الشمس.. وفي جنح الظلام انخرطت الأغصان في نوبة بكاء مرير.. تاهت في شعاب الدمار فعزفت جميعا لحن الموت والاندثار.. لم تجد الأغصان طريقا سالكة فتهرب من وقع الجحيم وحرارة لهيب الحمم.. لم تجد الأغصان خريطة تهتدي بها في هذا التيه وهذا الظلام الحالك وهذا الصمت الرهيب إلا من طلقات المدافع وأزيز الطائرات وهدير الجرافات وانفجار الصواريخ تنشر الدمار والخراب.. سقطت الأقنعة تباعا.. ألجمت الألسن وانتحرت الكلمات على شفاه الخطباء المفوّهين. سقط غصن الزيتون الأخضر سقط الغصن الأخضر من فوق الرؤوس والجباه سقط الغصن الأخضر من كل الأيادي التي لوّحت به في سماء الحرية وإرادة الحياة سقط الغصن الأخضر من كل الأحضان سقط الغصن الأخضر رمز الخصب والنماء، سقط الغصن الأخضر رمز الحياة والعطاء تيبس الغصن وهو يناشد العالم الحياة، داسته أقدام التتار الهمجية فأيقن أنه كمن يصرخ في واد سحيق.. فلا من مجيب.. ولا من رقيب.. ولا من حسيب.. أيقن غصن الزيتون المتيبس أن لا أمل له في الحياة مع هؤلاء الرّعاع اللقطاء.. أيقن أنه لم تكن هناك غير خريطة طريق واحدة، لا غيرها. خريطة الدمار، خريطة الجدار. خريطة القهر والأسر، خريطة الترويع، خريطة التجويع، خريطة التسويف، خريقة التجريف، خريطة التركيع. خريطة قطع الطريق أمام كل كائن مسالم يلتمس بحبّ الحياة.. يسلك في طمأنينة وفي دعة طريق الحياة.. أيقن الغصن المتيبّس جازما أنّ خريطة الطريق اهتدت الى طريق الشجر فقطعت أوصاله واجتثته من العروق، وإلى طريق الحجر فهدّت أركانه وقلّبت الأسس بما فيها وعلى من فيها.. نسفت بعنجهية المباني والبشر.. تعمّقت جراح غصن الزيتون المتيبّس فبكى.. وبكته أغصان الزيزفون.. بكته الحشائش الطرية.. بكته الأشواك.. بكاه التراب بكته الصخور، بكاه راقدو القبور، حين صرخ فيه أحياء أو من شبّه لهم أنهم أحياء أن يخنع ويسكت، بكته الأشجار والأطيار بكاه نخيل بابل في أقاصي العراق، بكته واحات نينوى وأحجار مدينة أور بكاه حصيد الفرات وهشيم شط العرب المحترق. تعرّق نبات ضفاف دجلة من حرارة قنابل القهر وصواريخ الحقد والصلف فبكى غصن الزيتون الأخضر انّ نخيل البصرة من وطأة قذف الحمم وانكسر نزف الجرح نزف الغصن تناثر الحجر تهالك البشر غصن الزيتون الأخضر بكى.. ومازال يبكي..