الصحة العالمية.. استهلاك الملح بكثرة يقتل 10 آلاف شخص يوميا في أوروبا    عُثِرَ عليه بالصدفة.. تطورات جديدة في قضية الرجل المفقود منذ حوالي 30 سنة بالجزائر    عاجل: لأول مرة: تونس تصل المرتبة الثانية ضمن التصنيف الدولي للبيزبول    السلطات الاسبانية ترفض رسوّ سفينة تحمل أسلحة إلى الكيان الصهيوني    الديبلوماسي عبد الله العبيدي يعلق على تحفظ تونس خلال القمة العربية    يوميات المقاومة .. هجمات مكثفة كبّدت الاحتلال خسائر فادحة ...عمليات بطولية للمقاومة    فتحت ضدّه 3 أبحاث تحقيقية .. إيداع المحامي المهدي زقروبة... السجن    المنستير .. المؤبّد لقاتلة صديقها السابق خنقا    في ملتقى روسي بصالون الفلاحة بصفاقس ...عرض للقدرات الروسية في مجال الصناعات والمعدات الفلاحية    رفض وجود جمعيات مرتهنة لقوى خارجية ...قيس سعيّد : سيادة تونس خط أحمر    دخول مجاني للمتاحف والمواقع الأثرية    ارتفاع عجز الميزان الطاقي    دغفوس: متحوّر "فليرت" لا يمثل خطورة    العدل الدولية تنظر في إجراءات إضافية ضد إسرائيل بطلب من جنوب أفريقيا    تعزيز نسيج الشركات الصغرى والمتوسطة في مجال الطاقات المتجددة يساهم في تسريع تحقيق أهداف الاستراتيجية الوطنية للانتقال الطاقي قبل موفى 2030    كاس تونس - تعيينات حكام مباريات الدور ثمن النهائي    الترفيع في عدد الجماهير المسموح لها بحضور مباراة الترجي والاهلي الى 34 الف مشجعا    جلسة بين وزير الرياضة ورئيس الهيئة التسييرية للنادي الإفريقي    فيفا يدرس السماح بإقامة مباريات البطولات المحلية في الخارج    إمضاء اتّفاقية تعبئة قرض مجمع بالعملة لدى 16 مؤسسة بنكية محلية    وكالة (وات) في عرض "المتوسط" مع الحرس .. الموج هادر .. المهاجرون بالمئات .. و"الوضع تحت السيطرة" (ريبورتاج)    طقس الليلة    سوسة: الحكم بسجن 50 مهاجرا غير نظامي من افريقيا جنوب الصحراء مدة 8 اشهر نافذة    القيروان: إنقاذ طفل إثر سقوطه في بئر عمقها حوالي 18 مترا    تأمين الامتحانات الوطنية محور جلسة عمل بين وزارتي الداخليّة والتربية    كلمة وزير الخارجية التونسي نبيل عمار أمام القمة العربية    باجة: باحثون في التراث يؤكدون ان التشريعات وحدها لا تكفي للمحافظة علي الموروث الاثري للجهة    توزر: تظاهرة احتفالية تستعرض إبداعات أطفال الكتاتيب في مختتم السنة التربوية للكتاتيب بالجهة    وزارة الثقافة تنعى المطربة سلمى سعادة    صفاقس تستعدّ للدورة 44 لمهرجانها الصيفي    صفاقس: هدوء يسود معتمدية العامرة البارحة بعد إشتباكات بين مهاجرين غير نظاميين من دول جنوب الصحراء    وزارة الفلاحة توجه نداء هام الفلاحين..    "فيفا" يقترح فرض عقوبات إلزامية ضد العنصرية تشمل خسارة مباريات    جندوبة: وزير الفلاحة يُدشن مشروع تعلية سد بوهرتمة    عاجل: "قمة البحرين" تُطالب بنشر قوات حفظ السلام في فلسطين..    هل سيقاطعون التونسيون أضحية العيد هذه السنة ؟    106 أيام توريد..مخزون تونس من العملة الصعبة    اليوم : انطلاق الاختبارات التطبيقية للدورة الرئيسية لتلاميذ الباكالوريا    سوسة: الإطاحة بوفاق إجرامي تعمّد التهجّم على مقهى بغاية السلب باستعمال أسلحة بيضاء    ناجي الجويني يكشف عن التركيبة الجديدة للإدارة الوطنية للتحكيم    المعهد الوطني للإحصاء: انخفاض نسبة البطالة إلى حدود 16,2 بالمائة    سيدي بوزيد: انطلاق الدورة 19 من مهرجان السياحة الثقافية والفنون التراثية ببئر الحفي    رئيس الجمهورية يبحث مع رئيس الحكومة سير العمل الحكومي    قيس سعيد يُؤكّد القبض على محام بتهمة المشاركة في وفاق إرهابي وتبييض أموال    عاجل: متحوّر كورونا جديد يهدّد العالم وهؤلاء المستهدفون    ظهورالمتحور الجديد لكورونا ''فيلرت '' ما القصة ؟    الأيام الرومانية بالجم . .ورشات وفنون تشكيلة وندوات فكرية    محمد بوحوش يكتب...أدب الاعتراف؟    الخُطوط التُونسية في ليبيا تتكبد خسائر وتوقف رحلاتها.    بطولة اسبانيا : أتليتيكو يهزم خيتافي ويحسم التأهل لرابطة الأبطال الاوروبية    إصدارات.. الإلحاد في الفكر العربي الإسلامي: نبش في تاريخية التكفير    زلزال بقوة 5.2 درجات يضرب هذه المنطقة..    استشهاد 3 فلسطينيين بنيران جيش الاحتلال في الضفة الغربية    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الديمقراطية والثورة الثقافية : بقلم : مجدي الشنوفي (باحث في علم الاجتماع السياسي)
نشر في الشروق يوم 16 - 07 - 2012

لا يمكن تحقيق الديمقراطية بأبعادها الشاملة العميقة وتجذيرها كسلوك اجتماعي سياسي ونمط ثقافي وأسلوب تعايش سلمي قائم على الحوار وحرية الاختيار بدون ثورة ثقافية وقطيعة جذرية مع الممارسات الثقافية الاستبدادية الملغية للآخر والخانقة لحريته والمانعة لحقوقه والرافضة للتنوع والتعدد والمشاركة الشعبية الفعلية سياسيا واجتماعيا دون استثناء او اقصاء.

انها علاقة جدلية تفاعلية ذلك ان من ركائز الديمقراطية ومقوماتها الأساسية هي احترام الحقوق والحريات واعتبارها من المكونات الأساسية للحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والثورة الثقافية تسعى أول ما تسعى الى توضيح وضبط وتحقيق المفاهيم والمبادئ الديمقراطية وترسيخها كسلوك منظم يستند الى معايير وقواعد متفق عليها بين الجميع. بل تصبح منظومة كاملة ومرجعية لا يختلف عليها اثنان. فإذا كانت الديمقراطية في أصلها اليوناني هي سلطة الشعب وسيادته، فإنها اتخذت مع تطور التاريخ وتقدم الشعوب والمجتمعات مضامين عديدة ومفاهيم أخرى أكثر شمولية لتضع المعنى الاصلي لها وهي حكم الشعب ضمن جهاز مفاهيمي يهيكل الابعاد العميقة للديمقراطية بكل دلالاتها ومعانيها ومقتضياتها.

في اطار مؤسسات وقوانين محينة تتسم بالديمومة والانتظام والاستقرار. وليس المزاجية والارتجال والتردد والارتداد او التراجع والانعكاس الى الوراء او الردة والعودة الى الاستبداد بأشكال أخرى خفية ومتلونة.

وفي هذه هذه القيم الثقافية الديمقراطية نجد على سبيل الذكر لا الحصر قيم الحقوق والحريات كحق المواطنة وحق المشاركة السياسية والاجتماعية، وحق الاختلاف والتنوع وحرية الاختيار والانتماء والتعبير والتفكير والتدين وحرية النشر والمعتقد، وحق العمل بشروط عادلة ومرضية محققة للكرامة والعيش المرفه السعيد. ومبدأ المساواة وسيادة الشعب وتفريق السلط الذي أشار اليه صاحب روح القوانين العلامة الشهير الممهد لتأسيس علم الاجتماع الفرنسي مونتسيكو الذي اعتبر ان كل سلطة تسعى الى الهيمنة والافراط في ممارسة سلطتها اذ تتجاوز حدودها وضوابطها ما لم تراقبها سلطة أخرى على نفس القدر من القوة والمكانة لتمنعها من الاستبداد والافراط في استعمال هذه السلطة. لذلك دعا الى الاستقلالية والفصل بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية، الامر الذي يحقق الرقابة والتوازن فيما بينها. والقاسم المشترك بينها والعاصم من الاستبداد هو الالتزام بقواعد ومعايير وقوانين ومبادئ دستورية سابقة الوضع ومتفق عليها بين الجميع تضبط السلوك وتحدد الصلاحيات وترسم معالم وأهداف الفعل السياسي.

ثم جاء المفكر الفرنسي الشهير رائد الفلسفة السياسية جان جاك روسو بنظرية العقد الاجتماعي (1712 1778) ليضع السلطة بيد الشعب ويضبط العلاقة بين الحاكم والمحكوم على أساس ان الشعب صاحب السيادة(1) والسلطة وهو الذي يختار هيئة السلطة التنفيذية لتكرّس هذا المبدأ انطلاقا من قاعدة مبنية على تعاقد اجتماعي ومبادئ دستورية تحمي وتضمن الحقوق والحريات وتقيد السلطات بقوانين سابقة الوضع يلتزم بها الجميع تطبيقا لمبدإ السيادة للشعب. لذلك وكما لاحظنا فإن الديمقراطية على علاقة وارتباط وثيق بالثورة الثقافية التي تقطع أولا مع كل الممارسات الاستبدادية والسلوك الجائر والحكم الفردي المطلق المبني على ثقافة الاستبداد والعنف ورفض الآخر واتباع الهوى والأنا النرجسية المتضخمة التي أعماها الجهل والصلف البغيض، وتجاهل او اقصاء المخالف وعدم احترام الحوار البنّاء والتقدير المتبادل بين جميع الأطراف وكل مكونات المجتمع السياسي والمدني بل اكثر من ذلك فإن ثقافة الاستبداد والاقصاء والتهميش غير المعلنة تعتمد أسلوب المغالطة وتزييف الحقائق والوقائع وتتعلل دائما بالمصاعب الوهمية، وتعد بالوعود الزائفة وتعطل الحقوق وتمني بالتسويف رافضة بذلك كل الاجراءات العملية الايجابية والافعال الاستراتيجية الناجعة والمفيدة للجميع، دائمة الخوف من المنافسة الشريفة فترى أعمالها قليلة بسيطة وأفعالها بطيئة وغالبا متأخرة بعد فوات الأوان وذات طبيعة سلبية غير ذات جدوى وكثيرا ما تخفي وتقصي المواضيع الواقعية والقضايا الحقيقية لتنشر الافكار البالية والمواضيع السخيفة لتقرر بذلك سياسة الجهل والتلاعب والتغييب. لذلك فهي ترفض احداث تغييرات جذرية وجوهرية على صعيد البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية والبدء في ذلك بمنهجية متدرجة مبنية على أساس عقلانية وعلمية مراعية في ذلك الأهم قبل المهم، هذا هو الانكى والاخطر لقيم الحرية والعدالة الاجتماعية ولمبادئ حقوق الانسان، رغم تشدقها أحيانا باحترامها قولا لا فعلا عبر أبواق الدعاية ومؤسسات الدولة والمجتمع التي احتكرتها وأغلقت كل الافواه المعارضة والآراء الحرة والمستنيرة وأقصتها. إنها أي ثقافة الاستبداد والجور باختصار شديد ترفض الفكر الديمقراطي الحر وتنبذ وتغيب قيم الحداثة وثقافة المواطنة والتي على رأسها المبادئ الديمقراطية بكل جوانبها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل تحاربها بمكر وعنف وكيد خفي.

ثانيا اذا كانت الثورة الثقافية قطيعة جذرية مع النظام السابق الاستبدادي حسب ما جاء في معجم علم الاجتماع ل«ريمون بودون ومن معه»(2) فإنها تؤدي بالضرورة الى ارساء أسس الحقوق والحريات بكل معانيها العميقة التي تتجاوز النظرية الى الممارسة والتحقق على أرض الواقع سلوكا وعملا وأسلوبا للتعامل وطريقة للفعل والتصرف.
انها تسعى بلا ريب الى بناء قيم المجتمع الديمقراطي القائم على الحرية والعدالة والمساواة والكرامة التي من معانيها معاملة الانسان معاملة حضارية تستند الى جملة القواعد والمعايير والقيم الكونية التي تجلى أبرزها في الاعلان العالمي لحقوق الانسان والتي ناضلت الانسانية طويلا لتحقيقها من اجل سعادتها وتبوئها المكانة المرموقة التي تستحقها.

تمهيد زعماء الاصلاح للثورة الثقافية

لقد ناضل الشعب التونسي ضد الاستبداد والظلم والقهر وقدم التضحيات الجسام في عديد المحطات التاريخية بدأت في الفترة الحديثة مع زعماء الاصلاح كخير الدين ومحمد بيرم الخامس اللذين أكدا على العدل والعلم ودورهما الرائد في بناء المجتمعات والرقي بالشعوب. فانظر الى ما أشار إليه المصلح خير الدين قبل أواسط القرن التاسع عشر في كتابه «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، حول تقدم أوروبا «.... إنما بلغوا تلك الغايات والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي وملاك ذلك كله الأمن والعدل اللذان صارا طبيعة في بلدانهم»(3). وفي نفس السياق أكد محمد بيرم الخامس في كتابه صفوة الاعتبار نفس المعنى حيث قال: «لا خفاء أن امتداد الثروة مبني على كل من العدل والعلم. فعلى قدر ارتقاء ذلك تنمو الثروة...» (4)، وفعلا فإن انعدام العدل يخل بالتوازن الاجتماعي ويدمر كيان الأمة، فتشتعل الانتفاضات والثورات كردود فعل دفاعية ضد الاستغلال والقمع ولنا في ثورة 1964 أكبر دليل على ذلك. فهذه الثورة من أجل الحرية والعدل والحقوق كانت من أبرز أوائل الملاحم النضالية البطولة للشعب التونسي في العصر الحديث ضد الاستغلال والاستبداد.

وقد أشار الى ذلك الدكتور عبد الرحمان عبيد في كتابه تطور التيار التحرّري الشعبي بتونس (1864 1984) حيث قال: «... هذا الموقف رسخه المناضل الكبير علي بن غذاهم وهيأه، لينفجر في ثورة شعبية خالدة هي ثورة 1864 وكان لتنامي الوعي البطيء بوطأة الاستغلال والاضطهاد أكبر الأثر في تطور ذلك التيار وتجذره المطرد على مر أحقاب تاريخ تونس الحديث»(5). ثم جاءت حركة الشباب التونسي بزعامة علي باش حانبة لتساهم في حركة التحرّر والنهوض بالشعب التونسي من خلال خاصة جريدة التونسي (1909)(6). كما لا ننسى دور علماء جامع الزيتونة المعمور في نشر العلم والمعرفة والدفاع عن الحرية ومقاومة الاستبداد ونشير على سبيل الذكر لا الحصر الى الزعيم المناضل عبد العزيز الثعالبي والعلامة الطاهر بن عاشور والخضر حسين مؤسس مجلة «السعادة العظمى» في بداية القرن العشرين والذي أشاد به العلامة محمد الفاضل ابن عاشور في كتابه أعلام الفكر وأركان النهضة بالمغرب العربي، حيث ذكر بعض أعماله «... وجاء دور المحاضرات العلمية على منابر الجمعيات الثقافية مثل الخلدونية وقدماء ا لصادقية فكان من السابقين الأولين من مبرزي ذلك الميدان وقام بالمحاضرات البديعة الرنانة مثل محاضرتيه الذائعتين «الحرية في الاسلام» و«حياة اللغة العربية» وبلغت فكرة احياء الثقافة العربية وتمكنها من وسائل الانتشار والسيادة مبلغها الأعلى واندفع طلبة الزيتونة تهزهم الحماسة في سبيل اصلاح تعليمهم فتأسست تحت اشراف المترجم وباعتنائه وتوجيهه أول منظمة طالبية بتونس باسم «جمعية تلامذة جامع الزيتونة سنة 1907» (7). ثم جاءت الحركة النقابية والوطنية فأعطت ديناميكية جديدة لنجاعة المجتمع المدني التونسي الناشئ التائق الى الانعتاق والحرية والديمقراطية فبرز على سبيل الذكر لا الحصر محمد علي الحامي وفرحات حشاد والطاهر الحداد وعلي البلهوان وغيرهم كثر.

وأخيرا نشأت الحركات الاجتماعية والسياسية في فترة الاستقلال والانتفاضات والاحتجاجات المتعدّدة ضد الظلم وغياب العدالة الاجتماعية والحريات مثل أحداث الحركة النقابية للاتحاد العام التونسي للشغل سنة 1978 وأحداث ما يسمى ب«ثورة الخبز سنة 1984» وأحداث الحوض المنجمي بقفصة سنة 2008 وصولا الى انتفاضة 14 جانفي 2011 والمسار الثوري التحرّري الذي انخرط فيه الشعب التونسي لانجاح ثورة الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية وتحقيق أهدافها.

إنّ شعبنا العظيم لم يستكن للظلم ورموزه وقدم الشهداء الابرار والمناضلين في كل المراحل التاريخية ولايزال يناضل ويسعى لبناء ديمقراطية حقيقية وهي لا تحقق في تقديري المتواضع بدون منظومة ثقافية وتربوية واعلامية ترتقي بالوعي الاجتماعي، وتسعى لاحداث تنشئة سياسية واجتماعية محورها حقوق الانسان وقيم المواطنة التي تؤكد على المساواة في الحقوق والواجبات وعدم التمييز بين الناس على أساس العرق أو الدين أو الانتماء الطبقي والايديولوجي والسياسي. كذلك لا بدّ من تشجيع ونشر القيم الثقافية والسلوكية المبنية على الحوار واحترام الرأي المخالف، لقد أكدت على ذلك في مقالنا بجريدة «الشروق» الثقافي قبل الثورة بتاريخ 19/9/2002 ص11 تحت عنوان «الرأي والرأي الآخر». وهذا أبرز ما جاء فيه «إن سر نجاح الغرب والأمم الأوروبية هو أنها أنشأت أبناءها على هذه القيم العلمية والسلوكية البناءة كالموضوعية والنقد والنسبية والمرونة وهي صفات تميز التوجه العقلاني العلمي المعاصر وتسمو أخلاق وسلوك الانسان الذي يقبل الرأي الآخر والرأي المخالف»(8).

إننا نجد في الاعلان العالمي لحقوق الانسان مرجعية مهمة لترسيخ ونشر هذا الوعي الضامن لاحترام الحريات والحقوق والمعاملة اللائقة بكرامة الانسان التي أكدتها المواثيق الدولية والقيم الانسانية الفاضلة ونضالات الشعوب المضطهدة والمحرومة.

لقد سبق وأن أكد على هذه القيم الدين الاسلامي الحنيف، حين قال اللّه تعالى: «ولقد كرمنا بني آدم في البر والبحر». وقال عز وجلّ «إنّ اللّه يأمر بالعدل والاحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذّكرون». صدق اللّه العظيم. وقد قال الرسول صلى اللّه عليه وسلم «الناس سواسية كأسنان المشط» وقال عمر ابن الخطاب رضي اللّه عنه «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا».

رهانات المجتمع الديمقراطي ومؤسساته

إنّ الثقافة وكما تلاحظون كجملة من الأفكار والقيم والمعارف والعلوم والانجازات المادية والمعنوية والقوانين والعادات والتقاليد والأعراف والآداب والفنون(9) وأنماط العيش والسلوك تعتبر الحجر الأساس لتحقيق الديمقراطية وإنسانية الانسان الفاعل والمتفاعل والمشارك في بناء وطنه ومجتمعه ونحت كيانه وتحقيق ذاته وشخصيته وحريته وهي صمام الامان ضد الاستبداد المخل بانسانية الانسان.

ذلك أن الدولة المستبدة تحمل في جذورها جراء عدوانها على حقوق الانسان وحريته التي هي جوهر حيائه ورمز وجوده، بذور ضعفها وسقوطها أما الدولة الديمقراطية فقوامها العدل والحرية والمساواة وتعمل على حفظ وضمان حقوق الانسان التي هي آلية من آليات الحكم الرشيد لذلك فهي تحمل عوامل ديمومتها وإستقرارها وشروط تثمينها وإستمرارها.

كما لا تترسخ الديمقراطية بدون القيام بمسار تدريجي متواصل لانجاح الثورة الثقافية وجني ثمارها بارساء قيمها المرتكزة على إحترام حقوق الانسان والمواطنة وحرية الآخر والتنوع والاختلاف والمساواة أمام القانون وإتاحة الفرص للجميع بالتساوي في المشاركة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية لأن الديمقراطية لا تنحصر في جانب واحد أو عنصر وبعد واحد دون سواه كالمشاركة في الانتخابات وإنما هي أشمل وأعمق من ذلك بكثير ولا يمكن حصرها على مستوى الديمقراطية السياسية التي تبقى منقوصة إذا لم ترتبط بالديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إنها كل مترابط متكامل تشمل جميع مجالات الحياة والمجتمع.

إن الواجب يحتم علينا اليوم أكثر من أي وقت مضى مراجعة جذرية ووقفة تأمل عميقة بكل موضوعية ومنهجية علمية لمكونات المنظومة الدفاعية ومؤسساتها ووسائل التنشئة الاجتماعية الدفاعية وإعادة بنائها على أسس صحيحة لأن دولة القانون والمؤسسات لا تبنى على الأفكار المرتجلة والخطابات الحماسية والآراء المتسرعة والكلام الذي تأخذه الرياح ولا نجني منه فائدة وإنما يتحقق مشروع المجتمع الديمقراطي العادل على قاعدة صلبة من المؤسسات المستقرة والدائمة ولعل أهم مؤسسة وجب التنبه إليها وهي من الأركان الضرورية والمؤسسات الأساسية للدولة والمجتمع والتي لم تتحقق ببلدنا إلى يومنا هذا هي مؤسسة المجلس الدستوري المنتخب والمحكمة الدستورية التي تتكون من السادة رؤساء المحاكم العليا وهذا ما يجب التنصيص عليه بدقة في الدستور الذي يعكف على إنجازه السادة أعضاء المجلس التأسيسي ذلك أن شعبنا بلغ من الوعي ما يؤهله بالمناداة بمجلس دستوري منتخب وأؤكد على كلمة منتخب يمثل جميع ولايات الجمهورية ليقوم بالرقابة القبلية على دستورية القوانين كما يمثل فيه هيئة مختصة تعين بالمناظرة من داخل المجتمع المختصين في القانون الدستوري وعلم السياسة وعلم الاجتماع السياسي وأهل الخبرة والاختصاص وكذلك محكمة دستورية لتقوم بالرقابة البعدية على دستورية القوانين وفض النزاعات وحل المشكلات التي قد تطرأ بين هيئات ومكونات المجتمع المدني والسياسي ومالم تتحقق هذه المؤسسات فان الدولة غير مستكملة لأهم وأبرز المؤسسات التي تحمي من الاستبداد وتحافظ على الحقوق والحريات وصيانة المبادئ الدستورية وضمان علويتها وكذلك الحفاظ على سلامة التمشي الديمقراطي السليم وصون كرامة وحقوق الانسان ومالم يرقى الوعي إلى المطالبة بذلك فاننا مازلنا بعيدين عن تحقيق الثورة الثقافية والقطيعة الجذرية مع الفساد والاستبداد والنظام والتجاوزات التي لا ينقطع دابرها إلا بالمؤسسات الدستورية وعلى رأسها وأكثرها ضرورة قصوى هو المجلس الدستوري المنتخب والمحكمة الدستورية كما ذكرت سابقا بذلك فقط وبواسطة هذه المؤسسات وليس الكلام والخطب تكون قد وضعنا أرجلنا في الخطوة الأولى لتحقيق المجتمع الديمقراطي العادل القائم على التوازن والتفريق التام بين السلطات الثلاث التنفيذية والقضائية والتشريعية وهذه الأخيرة لا تكتمل إلا باستكمال تأسيس مجلس دستوري منتخب وممثل لجميع هيئات وعناصر المجتمع المدني وولايات للوطن وكذلك محكمة دستورية عليا يقع التنصيص عليها في نصوص الدستور عندها يمكن لمكونات المجتمع السياسي ولامدني الاستغلال والتفاعل في مناخ سليم يكون فيه لوسائل الاعلام دور بارز كسلطة رابعة بحماية وضمانة المجلس الدستوري المنتخب والمحكمة الدستورية كآليات يمكن اللجوء إليها عند الاقتضاء إذ أن دورها وقائي رقابي أولا وإجرائي زجري ثانيا وملزما لكل عناصر المجتمع العام ولها سلطة علوية على الجميع تحمي وتصون حرية الاعلام ومكونات المجتمع المدني وتحرص على سلامة وحسن سير وتصرف مؤسسات الدولة بما يتفق ويتطابق ولا يتخالف ويتعارض مع سيادة المبادئ الدستورية وعلويتها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.