انبثقت هذه الحكومة الائتلافية بعد مخاض طويل نسبيا دام شهرين بسبب المشاورات المستفيضة ومحاولة ايجاد توليفة مُحاصصية شبيهة بما يحدث في لبنان والعراق وإن كانت المحاصصة في البلدين المذكورين نتيجة الطائفية المذهبية والعرقية فقد كانت في تونس نتيجة الطائفية السياسية الانتخابية العابرة ولم تكن وليدة الحراك السياسي طويل الأمد لهذا تكهّن المتكهنون بأن التشكيلة الوزارية الحاكمة ستتعرض إلى عدّة هزّات وأزمات في صلبها . وقد أقدمت حكومة حمادي الجبالي في 24 جويلية 2012 على تسليم الوزير الأول السابق في عهد القذافي (البغدادي المحمودي) للسلطات الليبية وهوالذي التجأ للجنوب التونسي منذ 21 سبتمبر 2012 ثم تم القبض عليه وايداعه بسجن المرناقية .
كانت عملية تسليم البغدادي المحمودي عبارة عن الزناد القادح لأزمة الحاكمية التونسية المؤقتة وخاصة بين رئيس الجمهورية المنصف المرزوقي وبين رئيس الحكومة حمادي الجبالي.
فقد شهد الأسبوع الأخير من شهر جوان 2012 ما يعرف بحرب البيانات والتصريحات بين قرطاج (الرئاسة) والقصبة (الحكومة) خصوصا إن الرئيس التونسي المؤقت اعتبر عملية التسليم نيلا من صلاحياته وكانت له عليها اعتراضات مبدئية وشكلية ( عدم إعلامه بالأمر) وكانت من الاستتباعات الأخرى لتسليم البغدادي المحمودي مطالبة الرئيس المرزوقي بل وإعلانه عن نيته في إنهاء مهام محافظ البنك المركزي وانتهى الوفاق على مضض (وبعد تدخّل راشد الغنوشي وعودته من سفرة مصر) بترضية الرئيس المرزوقي وإنهاء مهام مصطفى كمال النابلي محافظ البنك المركزي دون كبير اقناع في عملية لي ذراع بعيدة عن كل تدبير ورصانة فلاح مبدأ الاقالة كما القرار ارتجاليا ومنقوصا في الشكل والمضمون ووجدت « الترويكا» أوما تبقّى منها صعوبة كبرى في تمريره سياسيا وانتخابيا داخل المجلس التأسيسي والعناء نفسه وجدته في تعيين الشاذلي العياري على رأس البنك المركزي فقد أدّى هذا التعيين إلى جلسة عاصفة في المجلس التأسيسي كادت أن تنهزم فيها «الترويكا» في عملية التصويت لأول مرة منذ تأسيس «المجلس» وانتصر فيها البعض بالغياب إذ لا يعقل أن يقع الاستنجاد بكفاءات «العهد السابق» لمعاضدة الحكومة والمطالبة بإقصائهم من الحياة السياسية والانتخابية لاحقا .
في خضمّ أزمة «تسليم المحمودي» بادر محمد عبّو (الشخصية الثانية في حزب المؤتمر من أجل الجمهورية بعد المرزوقي) بتنفيذ عزمه على الاستقالة من منصب وزارة الاصلاح الاداري وهي رغبة قديمة عنده تبلورت في خضمّ الأزمة وكانت عبارة عن إشارة قوية من حزب المؤتمر إلى حركة النهضة حول إمكانية المواجهة والمعارضة في كل وقت , كان تبرير الاستقالة هوعدم القدرة على الشروع في الاصلاح بسبب فقدان الصلاحيات التي يحتكرها الوزير الأول حمادي الجبالي وهوأمر معلوم وواضح نبّه إليه المحللون منذ صياغة الدستور الصغير المنظم للسلطات العمومية غير إن أزمة تسليم البغدادي المحمودي ساهمت في كشفه لدى أبسط البسطاء بمعرفة الشأن السياسي.
في سياق أزمة تسليم «المحمودي» أيضا ألمح وزير المالية حسين الديماسي إلى وجود صفقة مالية غنمتها الحكومة جرّاء تسليم البغدادي المحمودي لليبيا عشية الانتخابات. وهذه الصراحة والنزاهة للوزير المستقل والأكاديمي وصاحب الماض النقابي أحرجت الحكومة المؤقتة وراج في كواليس مؤتمر حركة النهضة نيّة التغيير الوزاري المنتظر ونية إبعاد الديماسي الذي لم ينتظر قرار الإقالة وبادر طوعا إلى إعلان الاستقالة يوم 27 جويلية 2012 وتبريرها بوجود «انزلاق خطير» يتمثل في نزيف المصاريف التي لا قدرة للميزانية على تحملها وخاصة محاولة توجيه موارد الخزانة للتعويضات لمساجين النهضة وصرف الاهتمام عن الملفات التنموية العاجلة لفائدة الفئات الاجتماعية الضعيفة والجهات الداخلية.
كما يبرر حسين الديماسي استقالته بعدم موافقته على اعتباطية إقالة محافظ البنك المركزي مصطفى كمال النابلي وعدم استشارته في الأمر وهكذا فإن الأزمة الوزارية (استقالتين وإقالة) اندلعت شرارتها مع تسليم البغدادي المحمودي فأصبحت شبيهة «ببيزل» الألعاب الصينية أوالدمى الروسية المركبة بل إنها أغضبت مجموعات فكرية كانت متقاربة مع حركة النهضة في تمجيد اليوسفية والمطالبة بمحاكمة الباجي قائد السبسي على خلفية تعذيب اليوسفيين سنة 1963 وهم يقصدون بذلك جماعة العملية الأمنية...
هل إن عملية تسليم المحمودي هي «لعنة» مشؤومة أصابت الحكومة, طبعا هذا حكم غير عقلاني وهوفقط سبب مباشر وحاسم في تأجيج خلافات خامدة ارتبطت بخطأ «المحاصصة والولاءات» التي تكونت على أساسها الحكومة المؤقتة . لابد من التذكير إنه سنة 1856 وفي عهد حكم مُحمد باي التجأ الى تراب نفزاوة والمرازيق بالجنوب التونسي الثائر الليبي ضد الحكم التركي-العثماني في طرابلس وفارس المحاميد الشيخ «غومة المحمودي « وتسبّب تحصنّه بالجنوب التونسي في شبه حرب أهلية بين قبائل وقرى الجنوب التونسي من بني زيد حتى دوز وقد جهّز له الباي محلة عسكرية تولّى قيادتها محمد خزنه دار عامل الساحل وقامت هذه المحلة بتخريب القرى والمداشر في منطقة نفزاوة والمرازيق ونهب المحاصيل وحرق واحات النخيل وسجن الرجال وأسر النساء والأطفال.... من المؤكّد إن «التاريخ لا يعيد نفسه» إلا في حالتين معروفتين.
د. عبد الواحد المكني (أستاذ التاريخ المعاصر والأنتروبولوجيا التاريخية بالجامعة التونسية)