لا يخفى على أحد ذلك الخطاب المعسول الجميل الانتخابوي لحزب حركة النهضة والمؤتمر من أجل الجمهورية والتكتل من أجل العمل والحريات الذين أعلنوا جميعهم في حملاتهم الانتخابية تبنيهم لاستقلالية المؤسسات والهيئات الدستورية والقضائية والإعلامية عن الدولة وطالبوا بحياد الادارة عن السلطة والأحزاب الحاكمة. ولا زلنا نذكر اشادة ثلاثي الترويكا بالهيئة المستقلة للانتخابات التي ترأسها السيد كمال الجندوبي بالرغم ممّا أبدته حركة النهضة من تحفظ في بداية تأسيسها على أنها ضمت في غالبيتها وجوها ذات ميولات يسارية .
لكن الواقع على الأرض ومنذ تشكيل حكومة السيد حمادي الجبالي أثبت للرأي العام المتابع للشأن السياسي في عديد المرات عكس ما ذهبت اليه اعلاناتهم وتمنياتهم .ولئن برر المحللون والناشطون السياسيون حل الهيئات واللجان الوطنية التي أحدثت مباشرة بعد 14 جانفي 2011 مثل هيئة اصلاح الاعلام والاتصال التي ترأسها السبد كمال العبيدي وهيئة مكافحة الفساد والرشوة والهيئة المستقلة للانتخابات باعتبارها لجانا ظرفية انتقالية رغم ضرورتها وشرعية صلوحيتها في البت في المحاور والملفات المهمة والخطيرة التي عنيت بها بسبب تولي حكومة شرعية مهام السلطة إلا أن ذلك لا يمنع الاستفادة من قدرات مناضليها وطاقاتهم الخلاقة وتجربتهم الثرية في الميدان ومما قدموه من تقارير وإسهامات مهمة يمكن اعتمادها.
وما زاد الطينة بلة هو مواصلة جهات حزبية وحكومية في هرسلة الاعلاميين والصحافيين في محاولة منهم للسيطرة والتحكم والنفوذ عبر التعيين حينا والتنصيب أحيانا أخرى وجرهم الى المربع الأول في التهليل والتطبيل الذي صمّ آذاننا فلم نعد نسمع ولا نجيد السمع حتى. وإلا كيف نفهم الدعوة المتكررة الى تطهير القطاع والتي جاءت أخيرا على لسان السيد رفيق عبدالسلام وزير الخارجية والقيادي في حركة النهضة ؟ حيث قال إن«الحكومة تسعى إلى السيطرة على الإعلام، لكنها تريد «تطهيره» لكي لا يتحول الى اعلام ضد الحكومة.». والتطهير كلمة حق ومطلب النقابة الوطنية للصحافيين وجمعية الصحافيين بل بالأحرى هو مطلب انتفاضة شعبنا الباسلة التي أطاحت بالدكتاتور أريد بها اسكات الصوت الحر والناقد لعمل الحكومة المؤمن بحرية الصحافة وحرية التعبير والحريات الديمقراطية والعامة المجال الحيوي الذي بدونه يبقى الصحافيون عرضة لعقلية موروثة من عهد الاستبداد الممنهج في الصاق التهم القديمة الجديدة كما جاءت على لسان السيد الوزير» لكي لا يتحول الى اعلام ضد الحكومة.» جزافا للنيل من مصداقية الاعلاميين تجاه واجبهم الوطني التزاما منهم بقضايا شعبهم و أمتهم العربية في التحرر والتقدم والوحدة .
اذا فالتطهير كلمة حق أريد بها باطل ذلك أن النقابيين والصحافيين الشرفاء الذين عوقبوا وحوكموا وشردوا هم أول من يعنيهم تطهير القطاع من صحافيي المجاري « وجماعة الله ينصر من صبح » في كل العهود الذين عادة ما تراهم ركعا سجدا يقبلون أيادي أسيادهم يؤدون الولاء والتأييد يناشدون السلاطين في كل عصر ومصر حتى يذهبوا في القول كما قال الشاعر : ما شئت لا ما شاءت الأقدار .....فاحكم فأنت الواحد القهار
وكم هم كثر في زمن العهر السياسي والزنا الاقتصادي والاستسلام القومي والتطبيع .وإيمانا منها بدورها وبرسالتها النبيلة كانت النقابة الوطنية للصحافيين وجمعية الصحافيين والنقابة العامة للثقافة والإعلام دائما في الموعد النضالي دفاعا عن مطالبهم المشروعة فعبرت في بياناتها واجتماعاتها وتجمعاتها وإضراباتها في كل المناسبات عن حقها المشروع في اعلام حر ذي مصداقية وشفافية دون تعيينات مسقطة أو ترضيات على حساب استقلالية المؤسسة الاعلامية. بل وطالبت الوزارة بمدها بالقائمة السوداء التي استعملتها للابتزاز وشراء الذمم و الضمائر. وفي هذا الخصوص تقول رئيسة النقابة الوطنية للصحافيين السيدة نجيبة الحمروني «النقابة لها موقف مبدئي ولا تراجع عنه وهو دعوتها الى محاسبة كل الفاسدين في قطاع الاعلام وملاحقتهم وقد أعلن هذه المطالب في المؤتمر الأخير المنعقد يومي 4و 5 جوان 2012».
وكان آخر ما دعت اليه النقابة الوطنية للصحافيين في الاجتماع العام هو انجاز وقفة احتجاجية في القصبة والتهديد بالإضراب الذي تراجعت عنه بعد فتح الحوار والعدول على منطق التعيينات والوصاية على القطاع .
هذا في ما يخص الاعلام أما في ما يخص القضاء فالصراع حول استقلاليته الفعلية من عدمها مازال قائما. فالمطلب الرئيسي الذي ناضل من أجله القضاة في إضرابهم الناجح الذي خاضوه أيام 13 و14 و15 جوان 2012 والذي تقرر في لائحة المجلس الوطني المنعقد في 9 جوان 2012 والذي كان : احتجاجا على التأخير غير المبرر في سن قانون الهيئة الوقتية التي ستشرف على القضاء العدلي وتواصل عمل القضاة في غياب أدنى ضمانات الاستقلالية ودفاعا عن المطلب الشعبي في ارساء قضاء مستقل وفي هذا الاطار لابد من التذكير بالرسالة التي بعثت بها رئيسة جمعية القضاة المناضلة الحقوقية السيدة كلثوم كنو في آخر ندوة صحفية قبل انجاز الاضراب حيث قالت«قضاء غير مستقل تهيمن عليه السلطة التنفيذية سيكون فيه المتقاضي أول المتضررين اذ انه يفقده حقه في التمتع بقضاء حر ومستقل وعادل ».
وفي نفس السياق أوضحت السيدة القرافي عضو الجمعية خلال تلك الندوة «أن الهدف الأساسي لجمعية القضاة هو تركيز هيئة مستقلة لها اعتماداتها المالية ومقرها الخاص بها، تتوفر على أقصى ما يمكن من الضمانات التي تحول دون تدخل السلطة التنفيذية في أعمالها و قراراتها» .
هذا المطلب الرئيسي للقضاة ما زال رهين التجاذبات والخلافات التي طفت على السطح داخل المجلس الوطني التأسيسي والتي وصلت الى طريق مسدود حول عدم التوافق على مشروع القانون المتعلق بالهيئة الوقتية المستقلة للقضاء على الرغم من أن أغلبية النواب في الجلسة الأولى صوتوا على البند الذي يعترف باستقلالية الهيئة سواء تعلق الأمر بالاستقلالية المالية والإدارية أو بالاستقلالية على الوزارة .
وأما في ما يخص الهيئة المستقلة للانتخابات التي شهد العالم أجمع داخليا وخارجيا وكل القوى السياسية المشاركة في الانتخابات على استقلاليتها والتي قامت بعمل شاق وجبار في وقت وجيز أنجحت فيه المسار الانتخابي وقع التخلي عليها هيكليا وإداريا على الرغم مما أنجزته لصالح البلاد والعباد .
وهاهي الحكومة المؤقتة تعلن عن تأسيس هيئة جديدة ضمن مشروع آخر ورؤية أخرى غير عابئة ولا مكترثة بتلك الهيئة التي ترأسها السيد كمال الجندوبي فيما عدا الاستئناس بتقريرها الصادر في فيفري 2012 كما صرح بذلك السيد عبدالرزاق الكيلاني الذي وصف تركيبتها قائلا «تركيبة الهيئة السابقة انبنت على المحاصصة الحزبية والقطاعية ».
ولعله من نافلة القول التأكيد على عكس ما ذهب اليه السيد الكيلاني ألا وهو صدقية أعضاء الهيئة ونضاليتهم كديمقراطيين وناشطين حقوقيين مشهود لهم بكفاءاتهم ونزاهتهم واستقلاليتهم الحزبية على الرغم من انتمائهم الى مشارب فكرية مختلفة.
ويكفيهم شرفا أنهم كانوا محل اجماع كل قوى المجتمع المدني وكل الفاعلين السياسيين. لكن تجربتهم على الميدان أثبتت بالفعل استقلاليتهم عن جدارة واستحقاق الشيء الذي أقرت به حركة النهضة التي أبدت احترازات على ميولاتهم النقابية واليسارية. مما دفع بالحكومة الانتقالية الى التخلي عن الهيئة جملة وتفصيلا وتقديمها لمشروع قانون عرضته على المجلس الوطني التأسيسي حيث برزت الخلافات الرئيسية خاصة في ما جاء في الفصلين الرابع والخامس اللذين يفوضان تركيبة الهيئة الى نواب المجلس.
وبما أن الأغلبية المطلقة داخل المجلس لأنصار الترويكا وبما أن رئيس الهيئة يتم اختياره بالتوافق بين الرئاسات الثلاث فستؤول الهيئة آليا الى المحاصصة الحزبية لا محالة عكس ما ذهب اليه السيد عبدالرزاق الكيلاني. وإذا ما أضيف اليها جهاز تنفيذي بيد الحكومة المؤقتة أصبحت الاستقلالية اسما دون مسمى وأصبحت خبر حزب السلطة تبحث عمن يشرّعها من داخل المجلس الوطني التأسيسي. وهكذا تصبح الشرعية الانتخابية عصا موسى بها يقع التسلط والتحكم والنفوذ في ارادة الشعب وكأن تلك العصا التي جاءت برهانا لإبطال عجائب وغرائب سحرة فرعون تنقلب لتشريع قوة هامان وجنوده.
وفي المحصلة نستنتج من ذلك أن حزب النهضة الذي بدا حريصا على التوافق قبل تسلمه السلطة ينقلب على تعهداته ووعوده التي أطلقها في حملته الانتخابية في أول امتحان له في الحكومة المؤقتة وكأني به ينظر من زاوية السلطة التي ضاق معسولها. فباتت يده اليمنى تبحث عن تركيع المؤسسات بطرق وصيغ مزوقة موضوعة في شكل مشاريع قوانين يصوت عليها المجلس وجسده بالكامل ينقض على السلطة مثخن بالمعارك الانتخابية السابقة لأوانها غير عابئ لا بالعهود ولا بالمواثيق ولا حتى بالمواعيد. فهاهو يقوم بحملة مسعورة غير مسبوقة على الاعلام هادفا الى تطويعه ويمنع القضاء من أن يكون مستقلا في يد القضاة و يعمل على ايجاد هيئة استشارية للانتخابات قراراتها بيد السلطة التنفيذية.
لكن ارادة النضال ما تزال في الشارع لدى عموم أبناء شعبنا ولا تخضع إلا لشرعية مطالبه ومشروعيتها من أجل التأسيس الى اللحظة الثورية الحقيقية تلك التي تقطع مع العمالة والخيانة والتطبيع حتى يفتك المجتمع المدني حقه التاريخي في اعلام حر شفاف ونزيه بعيد عن غطرسة السلطة والحزب أيا كان وقضاء مستقل بيد القضاة وإرادتهم المستقلة بعيدا عن قضاء التعليمات وفي هيئة مستقلة للانتخابات بعيدا عن المحاصصة الحزبية مهما كان لونها ليبني جمهوريته الديمقراطية الشعبية في تونس العربية كجزء من مشروع دولة الوحدة الديمقراطية الاشتراكية وبوصلتها القدس الشريف وفلسطين القضية المركزية للأمة العربية.