التحفظ الثاني، ان الفقرة الثالثة من الاعلان المشار اليه لم تتعرض الى اجل السنة لاعداد الدستور او لانهاء مهام المجلس الوطني التأسيسي وانما تضمنت اشارة صريحة الى ان هذا الاجل الاقصى يتعلق بفترة «أشغال» هذا المجلس. وعبارة الاشغال لا تعني، شكلا ومتنا، انهاء الدستور والمصادقة عليه ومن باب اولى لا تنطبق على سلطات المجلس. اضافة الى ان هذه الفقرة المتعلقة باجل السنة لم تحدد تاريخ بداية سريانه. متى يسري أجل السنة ؟ لا جواب. التحفظ الثالث، ان مضمون الفقرة الثالثة المذكورة اعلاه لا يتناغم ان لم نقل يتضارب مع الفقرة الأخيرة من الاعلان. لماذا؟ لانه جاء بهذه الفقرة الختامية ان «المجلس الوطني التأسيسي ...يباشر... مهامه الى ان يتم تعويضه نهائيا بسلطة قارة على اساس الدستور الجديد المصادق عليه من قبل المجلس».
ما يستنتج من هذه الفقرة الاخيرة لاعلان 15/9/2011 ان مهام المجلس الوطني التأسيسي لا تنتهي الا عندما يتم تعويضه بسلطة قارة يعني بمجالس منتخبة. و هكذا فانّ هذا الاعلان، الممكن الاستعانة به سياسيا، لا يمكن قانونا أن يُعزّز الأمر عدد 1086 الصادر في 03/08/2011. اضافة الى ذلك، ما هي القيمة القانونية لهذا الأمر الذي اورد ذاك الاجل الاستنهاضي مقارنة مع ما تضمنه القانون التأسيسي عدد 6 لسنة 2011 المؤرخ في 16 ديسمبر 2011 والمتعلق بالتنظيم المؤقت للسلط العمومية؟ 2 / الصنف الثاني من الحجج القانونية: تتمثل هذه الحجج في ما يجب استنتاجه من احكام الفصلين الاول والثاني من القانون التأسيسي انف الذكر. الحجة الاولى، ان كل رجال القانون يعلمون علم اليقين ان القانون يرحج على الأمر في اطار سلم القواعد القانونية. وهذا الترجيح لا يقبل الجدل وهو من المسلمات التي تدرّس للطالب منذ السنة اولى حقوق.
وعليه، فلا فائدة ولا جدوى من الدعوة الى تسبيق نص اسفل درجة على نص اعلي درجة، نص اصدره شخص بمفرده كان فاقدا للشرعية القانونية على نص صُودق عليه من طرف نواب الشعب واعتُبر بمثابة «الدستور الصغير» في انتظار «الدستور الكبير» . لذا، فانه من غير المستساغ قانونا محاولة اقناع الكافة بأمر صادر عن شخص واحد مُقابل قانون تأسيسي نابع من صوت الشعب. كفى محاولة فاشلة لاقناع الرأي العام بأمر صادر عن سلطة فردية غير دستورية وجدلية من حيث الطبيعة والقيمة على حساب سلطة تأسيسية تشريعية رقابية.
إن المتمعن في مضمون الفصلين الاول والثاني من القانون التأسيسي المذكور اعلاه ينتهي الى الاقتناع بان احكام هذين النصين نسخا ضمنيا وضروريا أمر 3 اوت 2011. فقد تضمن الفصل الاول ما يلي: «تنظم السلط العمومية بالجمهورية التونسية تنظيما مؤقتا وفقا لاحكام هذا القانون الى حين وضع دستور جديد ودخوله حيز التنفيذ ومباشرة المؤسسات المنبثقة عنه لمهامها». ان هذا الفصل حدد مدة التنظيم المؤقت للسلط العمومية بتحقيق ما يلي: اولا، بوضع دستور جديد.
ثانيا، بدخول هذا الدستور حيز التنفيذ. ثالثا، بمباشرة المؤسسات المنبثقة عن هذا الدستور لمهامها. وعليه ، فان الفصل الاول المذكور ، على خلاف ما جاء بالامر عدد 1086 المؤرخ في 3/8/2011، لم يحدد اجلا معينا لا لوضع الدستور ولا لانتهاء تنظيم السلط العمومية وانما قنن مدة عمل المجلس في شكل تحقيق ثلاثة اهداف متلازمة تمت الاشارة اليها صراحة وبكل دقة.
ثم ان الفصل الثاني من القانون التأسيسي سالف الذكر أورد ما يلي:»يتولى المجلس الوطني التأسيسي بصفة اصلية وضع دستور للجمهورية التونسية، كما يتولى ايضا بالخصوص المهام التالية : ممارسة السلطة التشريعية انتخاب رئيس المجلس الوطني التأسيسي انتخاب رئيس الجمهورية الرقابة على عمل الحكومة».
ولو نقارن بين الفصل 6 من الامر عد 1086 والفصل 2 من القانون التأسيسي عدد 6 لاتضحت الصورة وتبينت الحقيقة القانونية. قد يتفاجأ البعض بالقول ان الفصل 2 من القانون المذكور هو اعادة للفصل 6 من الامر المذكور مع اسقاط اجل السنة لاعداد الدستور. كيف ذلك ؟ لقد تضمّن الفصل 6 الجملة التالية: «يجتمع المجلس الوطني التأسيسي ... ويتولى اعداد دستور البلاد في اجل اقصاه سنة من تاريخ انتخابه». ثم جاء الفصل 2 من القانون التأسيسي سالف الذكر مستعملا ذات الجملة الواردة بالفصل 6 من الامر حاذفا منها التقييد الزمني في صياغة جديدة واضحة لا لبس فيها:» يتولى المجلس الوطني التأسيسي بصفة اصلية وضع دستور للجمهورية التونسية ...(مع حذف باقي الجملة المتعلقة باجل اقصاه سنة من تاريخ انتخابه). ان مثل هذه الصياغة تدل دلالة قاطعة على الغاء مسألة تحديد اجل لاعداد الدستور.
وما يعزز هذا الالغاء ان الفصل الثاني من القانون التأسيسي عدد 6 جاء متناغما مع ما ورد بطالع هذا القانون في فقرته الخامسة: «وباعتبار المجلس الوطني التأسيسي السلطة الشرعية الاصلية والمكلفة من الشعب التونسي باعداد الدستور يحقق اهداف الثورة التونسية ... (دون ذكر او حتى مجرد تلميح الى التحديد الزمني). وبطرح السؤال القانوني التالي: اذا ما اعتبرنا وجود تضارب بين الامر المذكور الذي حدّد اجل سنة لاعداد الدستور والفصل الاول من القانون التأسيسي الذي لم يُحدّد اي اجل مضبوط سواء تعلق الامر بوضع الدستور او بتنظيم السلط العمومية، فالحل القانوني المفروض لفض هذا النزاع يجب ان يُستمد من احكام النسخ.
والنسخ المتعارف عليه في القانون عامة هو نسخان : صريح وضمني. والنسخ الضمني نسخان : بالتضارب او بالاستعياب، كل ذلك عملا بالفصل 542 من مجلة الالتزامات والعقود الوارد بالباب المعنون «في بعض القواعد القانونية العامة والذي ورد به أنه «لا تنسخ القوانين الا بقوانين بعدها اذا نصت المتأخرة على ذلك نصا صريحا او كانت منافية لها او استوعبت جميع فصولها».
وقد استقر فقه قضاء المحكمة الادارية على ان هذا الفصل ينطبق في مواد القانون العام كالقانون الخاص لانه يُكوّن مبدءا عاما في تأويل النصوص القانونية التي قد تبدو غامضة.
وهكذا يصح القول ان الفصل 6 من الأمر سالف الذكر تم نسخه نسخا ضمنيا وضروريا بمقتضى احكام الفصل الاول من القانون التأسيسي عدد 6 المؤرخ في 16/12/2011. كما ان الفصل الثاني من هذا القانون عزّز هذا الالغاء الضمني بالتنصيص الصريح على ان المجلس التأسيسي يتولى، بصفة اصلية، اعداد دستور للجمهورية التونسية مع اقصاء كل تحديد لاي اجل معين، بما يجعل هذا المجلس غير ملزم قانونا بأي مدة زمنية.
علاوة على ذلك، فهناك العديد من الاساتذة في القانون الذين يعتبرون انه لا داع لاستعمال احكام النسخ لان القانون التأسيسي اعلى درجة من كل القوانين الاخرى الاساسية او العادية ومن باب اولى الاوامر الترتيبية او الفردية.
ومهما يكن من امر، بحثا عن مزيد ايضاح مآل الامر عدد 1086 الصادر في 3 اوت 2011 فان الفصل 27 من القانون التأسيسي انف الذكر وضع حدا لكل نقاش وانهى اي خلاف قانوني حول مسألة 23 اكتوبر. وهو ما سيتمّ بيانه ضمن الصنف الثالث و الأخير من الحجج القانونية.
يتبع
بقلم الأستاذ البشير الفرشيشي (أستاذ جامعي ومحامي لدى التعقيب)