تثير نظرية الإقصاء أو استثناء بعض الأطراف السياسية ومنعها من ممارسة العمل السياسي في المرحلة القادمة تساؤلات حول ما إذا كان من الممكن الحديث عن بناء ديمقراطي سليم ومسار ديمقراطي ناجح. فهل هي ضرورة مرحلية أم ضرب للديمقراطية؟ تمر تونس اليوم بمرحلة مهمة من مراحل الانتقال الديمقراطي، وبعد نحو عام من الانتخابات التي أفرزت مجلسا تأسيسيا متعدد الألوان السياسية لا يزال المشهد السياسي متذبذبا ولا تزال متطلبات الحوار الوطني غير ناضجة خصوصا في ضوء ما تشهده البلاد من حين إلى آخر من عنف سياسي.
الإقصاء «المقنّن»
وقد أعدّ حزب المؤتمر من أجل الجمهورية مشروع قانون لعرضه على المجلس التأسيسي يقضي بإقصاء الشخصيات التي تحملت مسؤوليات في صلب التجمع الدستوري الديمقراطي الحزب الحاكم سابقا والمنحل بقرار قضائي في مارس 2011 ومنعهم من المشاركة في العمل السياسي لمدة لا تقل عن خمس سنوات.
وأثار هذا المشروع ردود فعل متباينة بين من اعتبره الحل الأمثل لقطع الطريق أمام من أساء للبلاد ونال حظه من السلطة فلم يعدل ولم ينجح في إقامة مجتمع ديمقراطي بل خان أمانة الحكم وسرق خيرات البلاد ورسخ الفقر والبطالة وهمّش مناطق كثيرة من البلاد، وبين من يعتبر أنّ نظرية الإقصاء لا تستقيم مع الحديث عن البناء الديمقراطي ولا تتوافق مع مساعي البلاد نحو إقامة نظام ديمقراطي يقطع مع الدكتاتورية ويؤسس لعدالة اجتماعية افتقدتها البلاد على امتداد أكثر من نصف قرن، وإنّ كل إقصاء يجب أن يكون مبنيا على أساس إجراء قضائي وليس بصفة اعتباطية أو انتقائية.
وقد تحدّث المستشار السياسي لرئيس الحكومة في الحوار الذي أجرته معه «الشروق» ونُشر في عدد الأمس عن هذه النقطة حين أكّد أنّ عملية العزل السياسي يجب أن تكون قائمة على أساس الإدانة القضائية وبالقانون وليس بأي شيء آخر، معتبرا أن الحل كان يكمن في تفعيل آلية العدالة الانتقالية منذ الفترة الأولى التي تلت الثورة لأن هناك قلقا ممن سيتعرضون للعزل السياسي وهم على قناعة بأنهم لم يذنبوا في حق البلاد كما أن هناك أيضا مخاوف من عودة الظلم ومن ظلموا في السابق عبر بوابات أخرى وتحت عناوين جديدة.
وتوجه عدة أطراف خصوصا في المعارضة انتقادات حادة للحكومة بسبب ما رأت أنه تعامل «انتقائي» مع ملفات الفساد ومع المنتسبين إلى التجمع سابقا حيث تتهم هذه الأطراف حركة الحكومة بعدم احترام مسار العدالة الانتقالية والقيام بتسويات سرية مع بعض رجال الأعمال والوجوه التجمعية التي نالت رضا حركة «النهضة» ولم تر مانعا في العمل معها وغضت الحركة الطرف عن تجاوزاتها.
وحذّر مراقبون من انزلاق مسار العدالة الانتقالية نحو الانتقائية أو الانتقام وهو ليس مطلوبا في مراحل البناء الديمقراطي التي تقتضي المحاسبة القضائية قبل المصالحة. ضرورة مرحلية؟
وتدافع أحزاب «الترويكا» عن التوجه نحو إقصاء التجمعيين من العمل السياسي، واعتبر المستشار القانوني لرئيس الجمهورية وعضو المكتب السياسي لحزب المؤتمر سمير بن عمر أن مطلب إقصاء التجمعيين لا يرجع إلى خوف من منافسة الأحزاب التجمعية قائلا «نحن لا نعتبر التجمعيين منافسا لنا أو خصما سياسيا لأن حجمهم في الساحة السياسية ضئيل بدليل النتائج التي أحرزوا عليها في الانتخابات الفارطة».
أما الناطق الرسمي باسم التكتل محمد بنور فقد أكد أن «التكتل لم يطالب بإقصاء أحد لكنه كان دائما من المعارضين للتجمعيين زمن بن علي كما أنه إلى الآن لم يسمع اعتذارا منهم أو اعترافا بأي خطإ سياسي اقترفوه وهم يريدون العودة الآن إلى الساحة بأساليب مختلفة وتحت شعار بورقيبة والذي هو شعار كاذب لأن الناس تدرك أن ركوبهم على ذلك هو أمر فاشل» حسب تعبيره.
ويشير بنور إلى حزب حركة «نداء تونس» الذي يرى فيه التكتل وحركة النهضة خصوصا محاولة لإعادة تجميع شتات التجمعيين والعودة إلى الساحة السياسية من هذه البوابة.
واعتبر عضو المكتب التنفيذي لحركة النهضة نور الدين العرباوي أن «البلاد عاشت أكثر من نصف قرن من الفشل وهذا الفشل المسؤول عنه هو السلطة والحزب الحاكم وليس من المنطق أبدا أن تكون المرحلة الانتقالية امتدادا لهذا الوضع في الوقت الذي لا يزال فيه الشعب التونسي يضمّد جراحه».
ويقول العرباوي «لا أعتقد أن من كان جلادا للشعب وارتكب جرائم في حقه بإمكانه أن يصبح منافسا لنا حتى وإن كان التجمعيون يمتلكون من المال والقدرات والتغلغل في الإدارات ما يكفي لذلك.» معتبرا أن الشعب هو الداعم الحقيقي لهذا المشروع.
ضرب للديمقراطية؟
في المقابل أكّد الجامعي والحقوقي مصطفي التليلي أنه من غير الممكن اليوم الحديث عن المرسوم عدد 15 فهو إجراء استدعته المرحلة التي عاشتها البلاد خلال الثورة وخلال الاحتقان الشعبي المطالب بحل التجمع ومحاسبة التجمعيين واستبعادهم وهو إجراء كذلك ينطبق فقط على انتخابات المجلس الوطني التأسيسي ولا يمكن العمل على تفعيله أو تطويره لأن ذلك يعد ضربا من مناهضة الديمقراطية ومقاطعتها.
وعلق أمين عام حزب حركة «نداء تونس» الطيب البكوش على مشروع الإقصاء بالقول «لا يهمني لمصلحة من أو من يخدم الاقتراح المتعلق بإحداث مشروع لإقصاء التجمعيين لكن كل ما أريد قوله هو أن هذا القرار لا يخدم الديمقراطية.»
ورأى البكوش أن القطع مع الماضي لا يكون بهذه الطريقة بل بفك الارتباط بين أجهزة الدولة والأحزاب الحاكمة كما وقع فعله في الحكومة الأولى لأن في هذا المظهر من الماضي يكمن الفساد والاستبداد مؤكدا وجود مؤشرات اليوم بعدم القطع مع هذه العادات.
ووصف محمد جغام أمين عام الحزب الوطني الحر من جانبه مشروع القانون المعروض أمام المجلس الوطني التأسيسي بغرض اقصاء العائلة الدستورية والتجمعية من الحياة السياسية لسنوات بالمبادرة المؤسفة .
واعتبر جغام أنها «مبادرة تدخل تحت عنوان الاقصاء والتهميش الذي مورس على القوى التي تمارسه الآن». ووضع محمد جغام هذه المبادرة في خانة «محاولات الهدم التي تشهدها تونس بالتوازي مع الجهود البناءة والمنتجة والموحدة والدافعة الى الأمام» وهي جهود قال عنها انها «أوسع وأكثر كثافة من مبادرات الهدم والحمد لله» .وأكّد أن التاريخ سيحكم بقسوة على هذه المبادرات التي تسير عكس مساره.