أصر الكاتب بوراوي سعيدانة على أن تكون لحظة الكتابة السردية لحظة مكاشفة وجلد للواقع بكل عنف فلم يتخلف نصه عن الكثير من المضامين المحظورة خصوصا في العقود الأخيرة حيث كانت الكتابة في مواضيع كهذه تميط اللثام عن الواقع المزيف في خطاب السلطة وتعاكس توجهاتها وتوجهات الحكام العرب مغامرة غير محمودة العواقب في دولة قمعية لا تحترم الفكر المخالف وتتمسك بالترويج لبضاعتها المزيفة التي تتغنى بالعدل والشفافية وحقوق الانسان زمن الظلم والوشاة
قصص المجموعة تنتمي في مجملها الى الأدب الواقعي وتحمل بصمات المكان والزمان الذي كتبت فيه لذلك نحسب أن ما تطرحه من مشاغل هوفي النهاية تصوير للواقع التونسي الذي لا يمكن فصله طبعا عن الواقع العربي بتناقضاته وجراحه وقد كان موضوع غياب العدل وانتشار الظلم من أبرز المواضيع التي تم طرحها ذلك أن الكاتب صور جوانب من الظلم الذي يتعرض له الانسان وهذا ما نستنتجه من نهايات هذه القصص.. هذه التي ينتهي أكثرها بالظلم الذي تمارسه السلطات بمختلف أشكالها فثمة ظلم قضائي وأداري وسياسي متنوع يجثم على الشخوص القصصية في النهاية ولنا أمثلة كثيرة على ذلك.. فعبد التواب الذي ضبط زوجته تخونه تم تكذيبه وآلت نهايته الى الهستيريا والسجن. «لم يخرج معه أعوان الأمن الا بعد ساعة أو أكثر..» ويضيف «نزع عبد التواب كامل ثيابه ولم يبق منها سوى سليب وطني وتوجه الى مخفر الشرطة سالكا دروب المدينة.. أحاطت به جموع عديدة.. ذكر هذا الازدحام عبد التواب بالليلة الخانقة التي عاشتها حارتهم عندما تم القبض على ابن جارهم أبو عبد الله المصلي الذي كان ينتمي الى جماعة الملتحين.. تعجب احد الحاضرين من العقاب الذي سلط على عبد التواب بالسجن لمدة ستة اشهر مع النفاذ من اجل التجاهر عمدا بالفحش حسب الفصل226 من القانون الجنائي.. »ص18 أما صابر في قصة سارق الشمس «وبدون سابق إعلام أو انذار افلح الوشاة في كشف أمر ه وتبليغه لأصحاب البلاغ فلم يجد مفرا من اخفاء جريمته وقرر ولاة أمره احالته على محكمة الجنايات التي أذنت بقطع عنقه بدون بزته الرسمية ودفنه في الخلاء..»ص20 أما صاحب المتجر في قصة مسرد الأيام فيغلق محله بسبب عدم تقديمه للهدية اليومية التي اعتاد تقديمها لصاحب الشرطة وغير ذلك من المظالم التي صورها بأسلوب سردي وهو تلميح لانتشار الظلم والجور في تلك الفترة وهو ما عاشه التونسيون جميعا. ولعل الكاتب قد حوصل هذه الرسالة في جملة بليغة في أول قصصه كاسرا بذلك مقولات الاستقرار والأمن التي كان النظام السابق يفاخر بها حيث قال «اذا استتب الأمن في بلد ما فاعلموا أن سلطانها جائر..» ص9 تلك اذن صورة لهذا الظلم وهذا الجلد الغير مبرر الذي يتعرض له الانسان من أصحاب النفوذ ولم يغفل الكاتب صورة الحاشية وتآمرها فعجت قصص كثيرة بالحديث عن القوادين والوشاة وألاعيبهم ودورهم فهؤلاء كانوا حاضرين في مختلف القصص وزيادة على هذا نرصد هذا الحضور السلبي للحاشية في حكاية حمار حيث يحضر الحمار الطامع في السلطة والحالم بها ولكن نهايته كانت الفتك وهي اشارة الى صراع وراثة الحكم وبطش الحكام بالراغبين في الارتقاء الى الحكم ممن بدا من خلال هذه القصة انهم لم يتعظوا من حيل الوشاة كما يحضر الذئب المتآمر والمتزلف للأسد والكاذب عليه وهو حال الكثير من حاشية الحكام العرب.. 2 حديث العروبة لم يغب حديث العروبة عن هذا العمل حيث تناوله الكاتب من صور ساخرة ومريبة في مضارب عديدة.. فلقد استغل قصة الحمار والذئب التي جاء ذكرها سابقا ليفسر بسخرية تكالب العرب على التطبيع مع الكيان الصهيوني. «وفي الغد عاد الذئب الحمار وجرحه لم يندمل بعد قال لي صاحبي مبهوتا كيف يعود اليه مرة أخرى وماذا كان رد فعل الحمار
قلت: ألم يعد العرب الى اسرائيل بعد أن شردت شعوبهم وقسمت أوطانهم وهتكت أعراضهم وافتكت ممتلكاتهم وأرزاقهم الم يعودوا اليها مرارا وتكرارا وكلما ارتكبت خطا وجدت من يبرره ومن يعمل على نسيانه وهي معفاة من تطبيق القوانين الدولية لأنها لم تشرع لها وانما لغيرها من دول العالم بينما تتأجج النيران بين العرب والعرب لأي خلاف يرتكبونه وتكون أمريكا واسرائيل دائما من امامه وورائه..» كما سخر في قصة قرار مجلس الامن الدولي من هذا المجلس الظالم ومن الجامعة العربية الضعيفة ومن الحكام العرب المتواطئين وقد بدأت هذه القصة بالحديث عن قيام مواطن عربي بالتغوط بجوار مرحاض افرنجي «أبرقت احدى وكالات الانباء العالمية مخبرة ان مواطنا عربيا احدث بجوار مرحاض افرنجي والقي روثه حذو فوهة المرحاض المستورد.. وبناء على ذلك طالبت احدى الجهات الرسمية بتقديم شكوى الى الجامعة العربية..» ص69 وقد سرد الكاتب ردود الفعل المألوفة كلما تعلق الأمر بالشكوى من العرب جامعا بين الردود الدولية والعربية وقد تقرر في النهاية وبعد لجان التفتيش والتحقيق المألوفة في المنطقة معاقبة المواطنين العرب بسخرية» .. قرر مجلس الأمن الدولي المجتمع في مقره الدائم بنيويورك وبالاجماع سد أفواه العرب وقيناتهم وتعيين شركات خاصة لاعداد الصمامات يدفع العرب أجرتها.. جاء في برقية عاجلة لوكالة الانباء «سي.ن.ن» ما يلي انه اثر القرار العاجل رقم.. .. الصادر عن مجلس الأمن الدولي وجه ممثلو الدول العربية عجيزاتهم صاغرين طائعين لوكلاء نعمتهم.. .ص72 والملاحظ في هذا المقطع التصوير الهزلي المخجل للحكام العرب المعبر عن تخاذلهم المتكرر..
3 خاتمة
لم تقتصر الاشارات الى الأوجاع العربية عند هذا الحد فثمة اشارات عديدة الى الواقع العربي المتشعب وغضب من واقع مؤلم.. والحقيقة أن القضايا التي يشير اليها الكاتب عبر السياق السردي أو بعض الاستطرادات كثيرة ومتشعبة يربط بينها أسلوب السخرية من هذا الواقع وتقديمه بشكل مرير فثمة قضايا كثيرة منها ما تعلق بالثقافة ومنها ما تعلق بالمجتمع ومشاغله. فالنص السردي هو حكاية لا تحقق توهجها الا بما تحمله من مضامين واشارات حادة تكشف الواقع وتجابهه.