نحن نموت فانقذونا... جملة استقبلنا بها لاجئو مخيم الشوشة حين دخلناه لنقل صورة عن الاوضاع الصحية فيه كانوا يقولونها بلغات مختلفة وفي صيغ متنوعة ولكنها كانت عبر اصواتهم المتداخلة نوعا من اللازمة المتكررة في نشيد الموت المبحوح. توجهنا منذ البداية إلى المركز الصحي بالمخيم وبدأ يتكاثر من حولنا مع كل خطوة نتقدمها الراغبون في الشكوى والتظلم وعرض احوالهم من اللاجئين ومع تكاثرهم كانت سحابة الاتربة التي تثيرها الارجل النحيلة المجرورة تزداد كثافة وارتفاعا فأرضية المخيم ترابية أو قل هي بقايا كثبان رمال.
سرنا بين الخيام البالية المتتالية التي بدت لنا اشبه ما تكون في اصطفافها بقبور قديمة في مقبرة القرية وبدا لنا اللاجئون يتحركون في بطء وتثاقل بينها بنظراتهم الحائرة واعينهم الغائرة ضروبا من الاشباح أو الظلال أو الموتى الخارجين للتو من قبورهم يستعيدون ذكريات موتهم اوقتلهم أو قصف اعمارهم كما قالت فاطمة الارملة الصومالية.. «قصفوا أعمارنا قصف الله أعمارهم».
تركنا خلفنا في المخيم روائح البول والفواضل البشرية المتأتية من كل صوب تتسرب عبر الانوف جنبا لجنب مع الغبار والاتربة ودخلنا المركز الصحي. حيث استقبلناه هناك المدير الطبي للجنة مساندة اللاجئين بالمركز الدكتور مجدي قاسم وهو مصري الجنسية ليفيدنا بأن عدد الوافدين على المركز من اللاجئين يتراوح يوميا بين 50 و80 مريضا ويصل هذا الرقم إلى 2700 عيادة في الشهر في مخيم يناهز عدد سكانه 1600 لاجئ اي بمعدل اكثر من عيادة وحدة لكل لاجئ في الشهر فهل يعني ذلك ان مخيم الشوشة هو مجتمع صغير كل سكانه من المرضى وقد اضاف السيد المدير الطبي ان عدد الاطباء بالمركز هم اثنان ثالثهم متغيب وان بالمركز قابلة وطبيبة نساء وأخصائي نفسي وان ادوية الرعاية الاساسية متوفرة ولا يوجد نقص أو تأخير الا في ادوية الاختصاص كما اشار إلى ان المركز يعاني من صعوبة برمجة مواعيد لمرضاه في مستشفيات الولاية أو الولايات الاخرى كما افادنا ان عدد الوفايات بالمخيم سنة 2011 بلغ 5موتى.
ملجأ المرضى
وحين انهينا اللقاء مع هذا المسؤول كان اغلب المرضى الذين اجروا عيادات يومها قد غادروا المركز الصحي ولم نجد سوى بعضهم ومنهم السيد ابراهيم بوبكر وهو شاب سوداني من دارفور هده وجع المفاصل وانهك قواه الاحساس بالعجز وانعدام الحيلة على حد تعبيره فقد وجدناه في حال من اظلمت الدنيا بين ناظريه فكان تقييمه لوضع المخيم والمركز الصحي قاتما عدميا اذ ذهب إلى اعتبار اللاجئين نعاجا تذبح في مسلخ المفوضية السامية لللاجئين وتسلخ في المركز الصحي وحين طلبنا منه ان يدلنا على اماكن وجود مرضى اخرين بالمخيم رد حانقا لا يوجد احد ممن تبحثون عنهم..واضاف بعد ان هدأ قليلا انتم تبحثون فيما يبدو عن موتى يتجولون في الملجإ أما المرضى فاني اتحداكم ان تعثروا على شخص غير مريض في الملجإ غير السادة المسؤولين والزوار أو السياح مثلكم...كان كلامه صادما فغادرناه وغادرنا المركز الصحي نحو بقية ارجاء المخيم نسال كل من يعترضنا من اللاجئين عن حالته الصحية ليتأكد لنا مع كل خطوة نتقدمها ومع كل لقاء نجريه بعض ما قاله ابراهيم اذ فعلا لم نكن نبحث عن المرضى وانما وجدنا كل الذين التقيناهم واخترناهم للاستجواب عشوائيا من المرضى واغلبهم بامراض شديدة ليتراءى لنا المخيم في هذه المرحلة رواقا تعرض فيه لوحات المرض التي يبدعها المجتمع الدولي حين تتوفر له المواد الاولية لذلك وهم اللاجئون.
التقينا فاطمة الارملة الصومالية وهي مريضة بالانيميا وتحتاج إلى تصفية دورية للدم تتوفر حينا ولا تتحقق احيانا ولفاطمة طفلان بنت في سن السادسة مريضة وصبي عمره ثلات سنوات اشد مرضا اما امها خديجة والتي تقاسمهم الخيمة فهي تترقب الموت كما قالت حين التقيناها بدورها فقد قالت انها يئست من امكانية العلاج في المخيم فاسلمت امرها للمولى حسب تعبيرها فماذا يعني العلاج اصلا في مخيم تحجب فيه على اللاجئين الوجبات الغذائية اذ تم اغلاق المطعم وتسريح عماله وكيف يتم الشفاء في فضاء يغيب فيه كل اثر لمواد النظافة ولمجهود التنظيف هكذا قالت الخالة خديجة ثم اشارت علينا بزيارة دورات المياه ان كانت بنا شجاعة وتجلد كما قالت وحين فعلنا كان المشهد مفزعا... دورات مياه بلا مياه وفواضل بشرية متراكمة تعيق باب الدورة من الانغلاق.
حديثنا مع خديجة وابنتها فاطمة كان لم ينته بعد حين التحق بنا السيد على عيد الجوهري اللاجئ المصري ذو ال 54 سنة بادر بذكر رقم ملفه وهو3207 ثم أفادنا بأنه أتى إلى ملجئ الشوشة السنة الفارطة قادما مباشرة من السجون الليبية بعد أن سلبت منه عنوة كما يقول تحويشة العمر جمعها خلال 9 سنوات من العمل هناك إذ لم يتمكن من أن يجلب معه من ليبيا غير مرضه كما قال وهو فقر الدم ليعزز بكل انواع الفقر الاخرى فكل فقر يساند الآخر فقبله الغذاء والنظافة والدواء تضاعف المرض والمرض يزيدنا عجزا لأكون في طريق مفتوح نحو الموت.
اعترضتنا ودونما ادنى تخطيط أو قصد سلوى باللور اللاجئة الافوارية ذات ال 26 سنة لتعلمنا انها مريضة بتصلب الشرايين وان الجوع قد بلغ منها مبلغا صارت معه تتمنى كل يوم ان تجد نفسها ميتة في خيمتها التي تتقاسمها مع 8 افراد عرضة للشمس المطلة من ثقوب تلك التي تسمى خيمة في الصيف وقطر المطر شتاء.
المرفوضون موتى افتراضيون
ولكن ان كان المرض هو كلمة السر الجامعة بين كل سكان المخيم الذي ينقسم إلى مجموعة من الاجنحة حسب جنسيات اللاجئين كما افادنا بذلك السيد محمد جنتيلة مدير المخيم فإن الامر في الجناح يتغير تماما اذ تجد نفسك في هذا الجناح مع صورة الموت واضحة المعالم بينة التفاصيل اذ تم حشد كل الذين رفضت مطالب اعادة توطينهم من اللاجئين وعددهم280 حسب السيد مدير المخيم وقد منعت عنهم كل انواع المساعدات العينية والمالية عدا القليل القليل الذي لا يسد رمقا ولا يعول صبيا ليبقى هؤلاء اللاجئون يترقبون تنفيذ ترحيلهم إلى بلدانهم وهي في اغلبها تعيش حروبا اهلية ويعد نقلهم اليها حكما بالإعدام حسب تعبيرهم فقد افادنا يوسف على وصابور يبشارة من التشاد وعمران محمد خميس وابراهيم سحل من السودان بأن الامراض لم تعد تعنيهم أمام خطر الموت الحقيقي الذي يتهددهم ان هم تم ترحيلهم إلى بلدانهم.
كما اضاف اللاجئ التشادي عمران محمد قائلا ان المفوضية السامية لشؤون اللاجئين تعاملهم في هذا الجناح باعتبارهم مجرد أرقام في قوائم منظوريها تصنفهم حسب روتين الاجراءات الادارية والحسابات المالية لا باعتبارهم كرامات بشرية تنتهك والواجب هو الذود عنها وحفظها وحيوات انسانية مهددة يجب حمايتها. فإن كان كل المخيم مزرعة للامراض والاسقام فان الجناح هو مخزن للموت المؤجل كما يقول اللاجئ الصومالي يوسف حسن.
فمن يتدخل ليعاد النظر في ملفات المرفوضين من اعادة التوطين وهل سنجد انفسنا محتاجين إلى هبة جديدة من المواطن التونسي الذي اعال اكثر من10000لاجئ وحافظ على صحتهم وكرامتهم عند بداية الاحداث بليبيا وفي هذا الصدد تقول فاطمة بنت محمد وخديجة من الصومال انظروا إلى اسمائنا هي روائح نبينا ونبيكم وهي اسماء امهاتكم واخواتكم فلما يفعل بنا هذا ونحن بينكم فهل تسلموننا للمرض والموت امام اعينكم يا اهلنا في تونس.