عاش التونسيون ومعهم محبو تونس وأشقاؤها العرب ومن استلهموا تجربتها الفريدة في الإطاحة السلمية بالحاكم، عاشوا على أعصابهم كما يقال وسارع السماسرة وتجار السوق السوداء ومصفقو الثورة المضادة ولعلعت أصواتهم من أجل أن يتسع الشق بين أبناء الوطن الواحد، أولئك الذين كانت الثورة حلمهم منذ أن بدأت ارهاصاتها الاولى في الحوض المنجمي ثم في المدن المهمشة وكانت انطلاقة الثورة في السابع عشر من ديسمبر عام 2010 في سيدي بوزيد ليكون انتصارها في 14 جانفي 2011. عاش التونسيون وعاش الوطن العربي قلقه الكبير على ثوراته التي جاءت بصيغ جديدة ابتكرتها الشعوب المضطهدة في سلسلة نضالاتها التي لم تتوقف.
كان السؤال التونسي الملح : هل يحصل الاضراب أم لا؟ وكان هناك من يدفع الى أن ينفذ الاضراب مهما كانت النتائج غير عابئين بمصلحة الوطن وبما يترتب عن هذا الاضراب من تفاقم المشاكل الكثيرة في البلد والتي كانت مخبأة في العهد المنقرض وحيث كان صوت الشعب مقموعا، وما إن انتصرت الثورة حتى هبت الجهات بمطالبها وكلها مطالب مشروعة فالثورة ليست اسقاط النظام فقط بل وبكل آثاره وأدواته والتركة الثقيلة التي ورثتها حكومة الثورة، كان المطالبون يجددون في كل مناسبة ما يبتغونه من ثورة جاءت من أجلهم، من أجل حريتهم وكرامتهم وحقهم وحق أسرهم في التشغيل، ثورة كانوا وقودها بجرحاهم وشهدائهم.
لم يكن أحد يعرف كل هذه التفاصيل عمّا يحصل في مدن الهامش من كوارث وأمراض وفيضانات لم نكن نراها من قبل ولا نعرفها، ولكن ها هي واضحة صريحة تقدمها لنا الفضائيات التونسية المتكاثرة العامة والخاصة.
نعم، انتصرت الحكمة التونسية وأثبتت الحكومة واتحاد الشغل وعدد من الأحزاب الوطنية والمنظمات الشعبية ان التونسيين أو أبناء أي شعب عربي آخر ليس أمامهم الا أن يتعايشوا مهما اختلفت آراؤهم وتعددت أحزابهم، وان الحكم ليس غنيمة بل هو مسؤولية لا يوصل اليها التهييج ونشر الشائعات والأصوات العالية في الإذاعات والفضائيات بل توصل اليها البرامج الانتخابية والدعاية الحزبية المقنعة للمواطن الذي يتوجه بأريحية الى صندوق الاقتراع ليدلي بصوته ويرجح كفة هذا الحزب أو ذاك ويفشل أحزابا أخرى، ولكن هذه ليست نهاية الدنيا، فأجمل ما في الديمقراطية التي تعمل تونس على ترسيخها وجعلها سلوكا سياسيا بدلا من التهييج الذي لا يقود الا الى الفوضى واتلاف ممتلكات البلد ما حصل من حرق لبلديات ومراكز شرطة لعل آخرها ما حملته الأنباء في قرقنة من حرق لمؤسسات الدولة التونسية بعد أن أفشل الأمن «عملية حرق» نحو جزيرة لمبيدوزا الايطالية
نعم، نعم، انتصرت الحكمة التونسية، انتصر العقل على الهياج، وأدرك الجميع حكومة واتحاد شغل ان لا خاسر الا الوطن لوأن الاضراب قد تم، ولكن اليوم وبعد أن مرت المحنة وغلب الحوار نستطيع القول بالفم الملآن إنه لا خوف على تونس ما دام فيها من هم حريصون عليها، وقد تنادوا منذ أحداث ساحة محمد علي لتطويق كل المضاعفات التي لو حصلت لأعادت الوطن التونسي العزيز سنوات الى الوراء.
في تونس مجلس تأسيس وفيه قضاء، وفيه حكومة منتخبة واتحاد شغل ذو تاريخ وفيه أحزاب، وكل هؤلاء لا أحد منهم يستأثر بكل الأدوار فما للقضاء للقضاء وما للحكم للحكم وما للمجلس التأسيسي للمجلس التأسيسي وما لاتحاد الشغل لاتحاد الشغل، ولكن الأهم أن ما للشعب هو للشعب.
تونس تتجاوز محنتها وتذهب الى الحوار الجاد فأمام المشاكل الصعبة التي تواجه البلد والتي كادت ان تودي به، ينتصر العقل حيث لا غالب ولا مغلوب، واذا كان هناك من غالب ومنتصر فهو الإخاء الوطني والانتماء الى هذا البلد الذي كان دائما وأبدا يتسع لأبنائه جميعا.
ان المحنة العربية القائمة اليوم وبشكل فاجع هي محنة مصر التي ذهب الخلاف فيها الى حدوده القصوى حتى ان صحفيا عربيا كبيرا هو الأخ عبد الباري عطوان قد كتب في جريدته «القدس العربي» افتتاحية توقع فيها ان يستمع المصريون الى البيان العسكري الاول بعد ان استعان الرئيس محمد مرسي مضطرا بالجيش لضبط ما يجري من انقسام حاد لم يكن أحد يتوقعه بهذه الصيغة. كما ان سوريا فيها ما يكفيها ولا نقول غير هذا، ولذا فإن تفاؤلنا الأقوى هو بمسار الثورة التونسية، هذا المسار الذي عجز أعداء الثورة عن حرفه عن طريقه.