كيف ينظر إلى الوضعية السياسيّة اليوم في البلاد؟ وما مقترحاته لتيسير معالجة ملف رجال الأعمال الّذي ما انفكّ يزداد تعقيدا ويؤزّم أوضاع الاقتصاد الوطني؟ وهل ما يزال متمسّكا بالاعتذار الّذي سبق أن قدّمه ؟ ، عن هذه الأسئلة وغيرها يُجيبنا السيّد الهادي الجيلاني.
صلة القرابة الّتي تجمعه بالرئيس المخلوع وزوجته جعلته يكون في وضعية صعبة جدّا ، وطريقة التعاطي مع ملفاته الاقتصاديّة ووضعه السياسي في تونس ما بعد الثورة يبقى نموذجا للتعاطي مع رموز النظام السابق وكيفية تحقيق المصالحة الوطنيّة المطلوبة لإنجاح مسار الانتقال الديمقراطي في تونس...في ما يلي نص الحديث مع السيّد الهادي الجيلاني. قبل أشهر تقدمت باعتذار للشعب التونسي ثم سحبته قبل ان تجدده. لماذا اعتذر الهادي الجيلاني ولماذا سحب الاعتذار؟
انا لم اندم على اعتذاري للشعب التونسي ولم أتراجع عنه وكل ما في الامر هو أني شعرت في لحظة ما بنوع من الإحباط بسبب سيل الشتائم والاتهامات التي وجهت لي. اعتذاري كان صادقا عما قد أكون ارتكبته من أخطاء وعما لم ارتكبه، وقد أردته مبادرة تدفع نحو تسليط الضوء على معاناة جزء من الرأسمالية الوطنية التي تم استهدافها بشراسة بعد الثورة. خطاب الشحن والتجريح والشيطنة تجاوز كل الحدود المقبولة، وأصبح رجل الأعمال متهما حتى تثبت براءته. انا شخصيا كنت من اهم رجال الاعمال والصناعيين المصدرين في تونس سنة 1987،ولم يصنعني النظام السابق، وحين ترأست الاتحاد الافريقي ثم الاتحاد العالمي لرجال الأعمال لم يكن ذلك بدعم من النظام القائم، بل أفاجئك بان الخبر لم يحظ بأي تعليق أو اهتمام من وسائل الاعلام التونسية، وانت كإعلامي بإمكانك ان تفهم السبب. استفادتي من النظام السابق لم تكن والحمد لله ، في تهرب جبائي أو الحصول على منفعة غير شرعية، وهذا ما أثبتته الثورة التي فتحت الملفات، وكشفت عديد الحقائق، وانصفت كثيرا من الذين تم استهدافهم بكل شراسة. ولكني أؤكد أني اعتذرت بصدق وبوعي بمسؤوليتي الأخلاقية كرئيس للأعراف وكعضو قيادي في التجمع، عما ارتكبه النظام السابق من أخطاء، رغم انه أنجز الكثير لتونس في عديد الميادين وخاصة الاقتصاد.
تحدثت عن استفادة رجال الأعمال من النظام السابق، كيف تنظر لها بعين الحاضر؟
رجال الأعمال في كل زمان ومكان مطالبون بالتعاون مع النظام القائم في البلاد. التعامل مع النظام السابق لم يكن حكرا على رجال الأعمال التونسيين هناك آلاف الشركات الأجنبية التي استثمرت في تونس، ولا اعتقد أنها جاءت عن طريق التعاون مع معارضي النظام. الثورة خلقت واقعا جديدا وهو الأمل في نظام متعدد الأحزاب قائم على مبدإ التداول على السلطة. في ظل حزب واحد يحكم ليس خيارا غير ان تكون مع النظام الذي يمثله أو ضده وتكون عرضة للقمع والتهميش. الان بإمكانك ان تمول الحزب الذي تريده أو ان تختار الموقع الطبيعي للرأسمال الوطني وهو التنمية وخاصة في الجهات المحرومة والمناطق الداخلية. انا شخصيا لم أمول اي حزب بعد الثورة، ولكني حافظت على كل مواطن الشغل في مؤسساتي بل أحدثت 1300 موطن شغل إضافي رغم الصعوبات والتضييقات التي فرضت علي بمنعي من السفر وبتجميد املاكي المتأتية سواء بالميراث أو بالعمل والكد وهو ما حرمني من الحصول على قروض وتسهيلات بنكية. لكن دعني أركز هنا على ضرورة ان تتغير نظرة الأنظمة والأحزاب والرأي العام لرجل الأعمال، لانه مساهمته في التنمية هي دوره الأساسي ، الذي يشجعه ويمكنه في نفس الوقت من المشاركة في الحياة المدنية والسياسية .
يجب تحييد رجل الأعمال عن الصراعات والتجاذبات السياسية لانه مكسب وطني، والمؤسسة هي الشريان الأساسي لحياة الاقتصاد والوطن. وهنا أدعو بصدق للاستفادة من تجارب عديدة في حماية رجل الأعمال والمؤسسة وتفهم طبيعة علاقته بالأنظمة السابقة في ألمانيا واليابان وإيطاليا بعد الحرب العالمية الثانية ، وفي إسبانيا والبرتغال واليونان وأوكرانيا ... وكل الدول التي شهدت ثورات نجحت في إقامة أنظمة ديمقراطية مستقرة ومزدهرة. وأعطي مثالا يبدو بسيطا ولكنه ثري بالمعاني وهو حفاظ الشعب الألماني على مؤسسة « فولكسفاغن» التي أسسها النظام النازي . هي الان مفخرة الشعب الألماني ، ولا احد بإمكانه ان يقول أنها من ثمار هتلر . الاقتصاد رأسمال ومكسب . هل يدعو الهادي الجيلاني رجال الأعمال إلى الابتعاد عن السياسة وتحديدا عن تمويل الأحزاب ؟
طبعا لا . ولكن حين نجرم اليوم رجل الأعمال الذي شارك في تمويل التجمع، فإننا ندفع رجل الأعمال إلى الخوف من تمويل أحزاب أخرى سواء في الحكم أو في المعارضة. المطلوب هو الشفافية ومن واجب الرأسمال الوطني دعم الأحزاب والمنظمات والجمعيات والإعلام عبر الإشهار الذي أصبح المورد الأساسي للمؤسسات الإعلامية، وهذا شيء معروف وطبيعي في كل الديمقراطيات. هناك رجال أعمال يمولون اليمين وآخرون يمولون اليسار وهناك من يمول الاثنين . من المهم ان تكون لنا حياة سياسية نشطة وشفافة ، وخاصة إن أردنا تحييد الإدارة عن الأحزاب. البديل الوحيد هو تبرعات المنخرطين أو دعم المؤسسات الاقتصادية. الموضوع ليس من قبيل التابو وهو مرتبط أعود وأكرر بحماية رجل الأعمال باعتباره مكسبا وطنيا واستهدافه خطأ كبير، لا يستفيد منه احد بدءا من الشاب الباحث عن شغل الذي يبقى في تقديري أولوية الأولويات في هذه المرحلة على الأقل . صرحت في إذاعة « شمس أف م» مؤخراً بان قرار منعك ومنع شخصيات أخرى من السفر سياسي ، تتحمله الحكومة السابقة ، ومن واجب الحكومة الحالية غلق هذا الملف؟
نعم قلت ذلك وأنا مصر على هذا الموقف، لان ملف رجال الأعمال الممنوعين من السفر يجب ان يعالج انطلاقا من قراءة تسلسله التاريخي . أنا شخصيا كنت متابعا في قضايا دون ان امنع من السفر وهي حال كثير من الشخصيات ورجال الأعمال . فجأة وبعد مغادرة مسؤولة جمعياتية سابقة ارض الوطن، وما أثاره ذلك من جدل واحتجاج تم فجأة تعميم إجراء المنع من السفر على العشرات بل المئات في يوم واحد، بل تم تسريب بعض القوائم للصحف وقتها،قرار المنع اتخذه القاضي بالطبع ولكن في سياق سياسي، وليس نتيجة تطور في التحقيق. المنع من السفر إجراء احتياطي كان بالإمكان تفهمه لو كان محدودا زمنيا، ولكن تواصله ، وبالنسبة لرجل أعمال مختص في التصدير مثلي ، ينسف مصداقيته في الخارج، لان قطاع التصدير مبني على الثقة المتبادلة. أنا ممنوع من السفر من اجل ملف مرتبط باتحاد الصناعة والتجارة والصناعات التقليدية، ومن اجل حصولي على ارض فلاحية على وجه الكراء، أنا لا أعلق على قضايا منشورة، وثقتي في القضاء بلا حدود ، وأحيي شجاعة القضاء التونسي الذي عمل في ظروف صعبة بعد الثورة ، في ظل ضغط الشارع، والإعلام وتجاذبات الحكم، وفي ظل إغراقه بملفات تبين لاحقا أنها واهية.
لكن هناك من يقول انه تم تضخيم ملف المنع من السفر والدليل انك أحدثت 1300 موطن شغل كما ذكرت وأنت ممنوع من السفر؟
كأنك تريد أن تعاقبني على ذلك. الحمد لله أن الثورة أثبتت مرة أخرى أن نجاح كثير من رجال الأعمال في تطوير أنشطتهم ليس رهن استفادتهم من النظام السابق أو دعمه لهم . رجل الأعمال الناجح يمكن أن يبادر ويستثمر حتى في الظروف الصعبة. ولكن صمود مجموعتي الاقتصادية، لا يرجع فقط إلى خبرة الهادي الجيلاني ، وإنما لصمود شركائه التونسيين والأجانب ، وثقة حرفائه ودفاع إطارات وعمال المصانع ومحيطها من الأهالي والأجوار. عن حق مؤسستهم في الحياة والديمومة. لا أنسى المساندة المعنوية المتواصلة التي أجدها من منظمات الأعراف العالمية وخاصة العربية والأوروبية وقبل ذلك أحمد الله على نعمته، وفضله لان الابتلاء يكون بالنعمة ، وأيضاً بالشدة ، وأنا جربت الاثنين، وأرجو أن يحسبني المولى عنده من الصادقين والصابرين والشاكرين في السراء والضراء.
ختاما ، قبل الثورة كنت محسوبا على النظام السابق ، أنت الآن « متهم» بمحاولة التقرب من النهضة ؟
أولا لا أراها تهمة كما ورد في السؤال، وتذكر أنني أكدت وعلى صفحات الشروق تحديدا بأنني، احترم حركة النهضة والأحزاب الأخرى ولكني لم أتخلّ عن انتمائي الفكري الدستوري ، رغم أني خيرت بقناعة عدم التحزب . موضوع تقربي من النهضة ظهر بعد حضوري في ندوة السياحة التي نظمتها الحركة قبل وصولها للحكم وحضرها العشرات من رجال الأعمال. الآن وبعد سنة من وصول النهضة للحكم انا ممنوع من السفر وأملاكي مجمدة ، و لا أعتقد أن ذلك دليل على أي مسعى للتقرب.
الموضوع من أساسه، امتداد لمحاولات الاستهداف والتشويه التي تعرضت وأتعرض لها. هناك أطراف تعمل بوضوح على ان يبقى ملف الهادي الجيلاني رهن المزايدات والتجاذبات، وان احمل مسؤولية أفعال لم ارتكبها، هناك محاولة للضغط على القضاء حتى لا يعالج ملفي بهدوء وبعيدا عن المؤثرات. ولكني مرة أخرى أثق في القضاء.
هناك محاولات لإحراج الحكومة ومنعها من معالجة هذا الملف الحساس وأدعوها بالمناسبة الى تجاهل هذه المحاولات التي لا تخص الهادي الجيلاني فحسب بل كل رجال الأعمال الذين هم في وضعيتي. هناك من لا يريد حلا لملف رجال الأعمال وحين تتقدم الحكومة خطوة تتعالى الصيحات ، بأن من أعيدت لهم حقوقهم، متزلفون للحكومة أو للنهضة أو دفعوا أموالا تحت الطاولة .. هذا إثم كبير ، في حق الاقتصاد والبلاد وفي حق القضاء وفي حق أبرياء لم يثبت ما يدينهم بأي جرم. انا كرجل أعمال متمسك بدوري في التنمية والتشغيل والاستثمار في الجهات ، وادعم النظام القائم ، وسأدعم اي حكومة تنجح في الانتخابات القادمة سواء كانت من النهضة أو من غيرها هكذا أرى موقع الرأسمالية الوطنية ودورها في دعم الانتقال الديمقراطي في تونس، وهو رأي كل رجال الأعمال الوطنيين والحمد للّه.