المبالغة في الخطر السلفي استنقاص من حداثة المجتمع التونسي. «المنتدى» فضاء للتواصل مع قراء الشروق بصيغة جديدة ترتكز على معرفة وجهات نظر الجامعيين والأكاديميين والمثقفين حيال مختلف القضايا والملفات ووفق معالجات نظريّة فكريّة وفلسفيّة وعلميّة تبتعد عن الالتصاق بجزئيات الحياة اليوميّة وتفاصيل الراهن كثيرة التبدّل والتغيّر، تبتعد عن ذلك الى ما هو أبعد وأعمق حيث التصورات والبدائل العميقة اثراء للمسار الجديد الّذي دخلته بلادنا منذ 14 جانفي2011. اليوم يستضيف «المنتدى» الدكتور عادل لطيفي باحث ومؤرخ تونسي مقيم في باريس منذ سنوات عديدة لكن ابتعاده عن تونس لم يمنعه من المشاركة بجدية في الحياة السياسية عبر مقالاته وتدخلاته في الإذاعات والفضائيات الفرنسية.
وقد سبق للمنتدى أن استضاف كلا من حمادي بن جاب الله وحمادي صمّود والمنصف بن عبد الجليل ورضوان المصمودي والعجمي الوريمي ولطفي بن عيسى ومحمّد العزيز ابن عاشور ومحمد صالح بن عيسى وتوفيق المديني وعبد الجليل سالم ومحسن التليلي ومحمود الذوادي ونبيل خلدون قريسة وأحمد الطويلي ومحمد ضيف الله والمفكر العربي الافريقي رشاد أحمد فارح واعلية العلاني وجمال بن طاهر وجمال الدين دراويل وكمال عمران وجمعة شيخة والدكتور ابو لبابة حسين ومحمد حسين فنطر ومحمود طرشونة ومحمد كمال الدين قحة وجلول عزونة وسامي بن عامر وفؤاد الفخفاخ الّذين قدموا قراءات فكريّة وفلسفيّة وسياسيّة معمّقة للأوضاع في بلادنا والمنطقة وما شهدته العلاقات الدولية والمجتمعات من تغيّرات وتحوّلات وبامكان السادة القراء العودة الى هذه الحوارات عبر الموقع الالكتروني لصحيفتنا www.alchourouk.com والتفاعل مع مختلف المضامين والأفكار الواردة بها.
انّ «المنتدى» هو فضاء للجدل وطرح القضايا والأفكار في شموليتها واستنادا الى رؤى متطوّرة وأكثر عمقا ممّا دأبت على تقديمه مختلف الوسائط الاعلاميّة اليوم، انّها «مبادرة» تستهدف الاستفادة من «تدافع الأفكار» و«صراع النخب» و«جدل المفكرين» و»تباين قراءات الجامعيين والأكاديميين من مختلف الاختصاصات ومقارباتهم للتحوّلات والمستجدّات التي تعيشها تونس وشعبها والانسانيّة عموما اليوم واستشرافهم لآفاق المستقبل.
وسيتداول على هذا الفضاء عدد من كبار المثقفين والجامعيين من تونس وخارجها، كما أنّ المجال سيكون مفتوحا أيضا لتفاعلات القراء حول ما سيتمّ طرحه من مسائل فكريّة في مختلف الأحاديث (على أن تكون المساهمات دقيقة وموجزة في حدود 400 كلمة) وبامكان السادة القراء موافاتنا بنصوصهم التفاعليّة مع ما يُنشر في المنتدى من حوارات على البريد الالكتروني التالي: news_khaled@ yahoo.fr
كيف تقرأ جريمة اغتيال شكري بلعيد؟
أغتنم هذه الفرصة لأترحم على روح الصديق المناضل الذي خسرته تونس. جمعنا النضال الطلابي وجمعنا النضال المهجري لتعيد الثورة لم شملنا ولم يتغير شكري بلعيد قيد أنملة في صدق وفائه للوطن وللحرية. هذا الاغتيال الغادر يمثل نقطة فارقة ليس فقط في المشهد السياسي الحالي في تونس بل كذلك في التاريخ السياسي التونسي المعاصر. أعتقد أنه أول عملية اغتيال سياسي بالمعنى الصارم لهذا المفهوم. فاغتيال فرحات حشاد كان في إطار صراع مع الاستعمار كما أن اغتيال صالح بن يوسف يمكن وضعه في إطار العنف السياسي للدولة وفي كلتا الحالتين كان الجو استبداديا. لكن اغتيال شكري بلعيد يدخل في إطار تنافس كان من المفروض أن يكون ديمقراطيا وهنا تكمن خطورته على الوضع السياسي الحالي في البلاد.
أعتقد أن اغتيال شخصية ما كان أمرا متوقعا وخاصة في صفوف أحزاب المعارضة أو من بين الفاعلين على الساحة اليوم في تونس وذلك بالنظر إلى توفر كل شروط العنف السياسي. هناك رعاية سياسية لهذا العنف تتحمل فيه الحكومة والحزب الحاكم المسؤولية الأولى ولنا في ذلك عديد الأمثلة. هناك بيان مجلس شورى النهضة الذي يدافع عن المتهمين بقتل لطفي نقض. هناك النائب في حركة النهضة الذي اعتبر هذا القتل عملا ثوريا. هناك الدعم الذي تحظى به رابطات حماية الثورة من النهضة ومن المؤتمر والتي وصلت حد احتضانهم رسميا في قصر قرطاج.
هناك رعاية ثقافية للإرهاب من خلال فتح البلاد لدعاة مشارقة اعتبروا تونس أرض فتح وكذلك من خلال تسخير المساجد للدعوة للعنف وللقتل. وهناك كذلك رعاية أمنية للعنف من خلال تغاضي السلطة الأمنية عن بعض مظاهر العنف وعن الأموال التي تتمتع بها عديد الجمعيات. هذه هي الظروف الموضوعية التي أدت إلى عملية الاغتيال والتي تجعلنا نحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية إلى الأطراف التي ساهمت عن وعي أو بسبب سذاجتها السياسية في خلق هذه الظروف من القصبة إلى قصر قرطاج مرورا بباردو.
هذا خوف حقيقي وللأسف له ما يسنده. عملية اغتيال شكري بلعيد وبالطريقة التي تمت بها مثلت صدمة كبيرة عكستها الهبة الجماهيرية لتكريمه من خلال الجنازة التي يمكن اعتبارها استفتاء شعبيا حول الترويكا وحول النهضة. المواطن التونسي يشاهد اليوم العنف السياسي الذي تمارسه بعض المجموعات التي نصبت نفسها وصية على الإسلام. يشاهده في الساحات العامة، على صفحات التواصل الاجتماعي وحتى في المساجد. وربما أصبح الوضع أخطر مما نتصور من خلال الأخبار والتقارير الصحفية التي تتحدث عن جهاز أمني لحركة النهضة داخل وزارة الداخلية والذي لم نسمع أي رد مقنع عنه لا من وزارة الداخلية ولا من حركة النهضة تكذيبا أو تأكيدا. كما أن هذه التقارير تجد لها بعض السند في تصريحات راشد الغنوشي لبعض السلفيين في الشريط المسرب الذي تحدث فيه عن عدم ضمان وزارتي الداخلية.والدفاع ربما يفسر هذا المعطى تشبث حركة النهضة بوزارة العدل وخاصة بوزارة الداخلية في التحوير الوزاري. عمليات حرق الزوايا وأضرحة الأولياء هي كذلك من بين المؤشرات الخطيرة على هذا المستوى. لكن رغم ذلك أعتقد أن التفاف الشعب التونسي حول ثورته وحول وطنه وحول هويته التي عهدها وكذلك حيوية المجتمع المدني ستفوت الفرصة على الأطراف التي تدفع نحو التقاتل.
هل حكومة التكنوقراط هي الحل؟
أعتقد أنه من بين الحلول الواقعية المطروحة تقنيا وسياسيا. تقنيا لأن حكومة بعيدة عن المحاصصة الحزبية ستكون لها أكثر مصداقية وستكون واقعية. ثم سياسيا لأنه يوجد نوع من الاتفاق بين المعارضة والسيد حمادي الجبالي والرئيس المرزوقي حول هذا الخيار. لكن لا بد من خروجها من رحم مشاورات وطنية موسعة ودون إقصاء والتزامها بخارطة طريق محددة وبأهداف واضحة هي التالية: الوقف الفوري لأشكال العنف المسلط على خصوم النهضة ومحاسبة المسؤولين عليه، حصر مهمة المجلس التأسيسي في سن الدستور والقانون الانتخابي مع إلزامه بتواريخ واضحة، الاعتماد على الهيئة العليا المستقلة للانتخابات السابقة ربحا للوقت واستفادة من خبرتها وجاهزيتها.
التباينات داخل حركة النهضة ما هو مداها؟
أعتقد أنها تباينات حقيقة وعميقة ولها مؤشرات قديمة. كان هناك في السابق نوع من المنافسة بين الجناح العسكري أو الأمني للحركة والجناح السياسي وذلك خلال الثمانينات والتسعينات. ثم اتخذ هذا الخلاف فيما بعد شكل التباين بين قيادة الداخل والخارج. أما اليوم فهو يكتسي شكل التعارض بين ما يسمى بالصقور وبالحمائم. وهذا الاختلاف الأخير أعتقد أنه يستعيد الاختلاف القديم بين التيار المتشدد ومن ضمنه الجناح الأمني والذي يرى في الديمقراطية وفي الحرية وسيلة لهيمنة الحركة على المشهد السياسي وجعل الأحزاب الأخرى مجرد أقمار تدور في فلكها. ثم التيار المعتدل الذي يؤمن بأن الحركة حزب كأيها الأحزاب يشارك في الحياة السياسية بمرجعيته الإسلامية دون إقصاء لخصومه لكنه تيار أقلي إلى حد الآن. في هذا السياق يبدو أن تجربة حمادي الجبالي في تسيير الشأن العام من خلال الوزارة الأولى أعطته نوعا من الواقعية السياسية أبعدته عن الخط الإيديولوجي المحض لحركة النهضة والذي يمثله راشد الغنوشي. هذا يذكرني بالتحول الذي حصل على أفكار محمد عبده حين تولى دار الإفتاء في مصر وابتعد شيئا فشيئا عن الجانب التنظيري الذي كان يشارك فيه جمال الدين الأفغاني.
أنتم تعيشون منذ سنوات في فرنسا ولاحظتم بلا شك مواقف النخبة الفرنسية من الثورة ماذا تغير بعد عامين من الثورة التونسية؟
مباشرة بعد الثورة ساد تجاذب بين الانبهار بهذا الإنجاز التاريخي وبين الرغبة في فهم ما حصل. الثورة التونسية فاجأت الجميع ولم تترك أحداثها المتسارعة الوقت لفهم تراكمها وانتهائها بهروب بن علي. تفسر الرغبة في الفهم كذلك بالأفكار التي كانت سائدة عن العالم العربي في أوروبا عموما منذ بداية الاستشراق والتي تعتبره مجموعة مجتمعات يعد الاستبداد جزءا منها ومتأصلا فيها وأن الحريات ليست من مشاغل الناس لأسباب ثقافية عامة واجتماعية. بلغة أخرى أرجعت الثورة التونسية المجتمع العربي إلى حقل التاريخ باعتبار المواطن العربي فاعلا اجتماعيا وتاريخيا. غير أن هذا الانبهار وهذا التوق للفهم سرعان ما ترك المجال لنوع من الشك ومن الخوف بعد مضي أشهر على سقوط بن علي وحتى إلى حالة من اليأس. ويعود الشك والخوف إلى انتشار مظاهر التطرف الديني التي استفادت من ضعف سلطة الدولة ومن الفراغ القانوني ومن الهامش الكبير للحريات. أما بعض اليأس الذي نلحظه اليوم فمرده انتصار التيارات الإسلامية في الانتخابات مما دفع بعض المتتبعين إلى الحديث عن ربيع إسلامي (نسبة للحركات الإسلامية) لكنني أعتقد أن هناك مبالغة في ذلك كما أن هذا الموقف مبني على عدم فهم عميق لما حصل باعتباره تحولا سياسيا وتاريخيا وحضاريا. ما زال الرأي العام في الغرب يعتقد أن هذه المجتمعات هي وليدة الإسلام في كليته. كما أن في هذا الرأي نوع من الاستنقاص لقوى المجتمع المدني التونسي وللإرث الحداثي المنغرس في الواقع اليومي. هذا ما لاحظناه في برنامج «مراسل خاص» للتلفزيون الفرنسي حول السلفية والذي صور ما يبدو انه استسلام كل المجتمع لقدره السلفي.
كثير من المحللين العرب والغربيين اعتبروا أن هذه الثورات لن تحقق شيئا اكثر من تغلغل الجماعات المتطرفة في المجتمعات المغاربية بكل ما يعنيه ذلك من مخاوف هل توافقون على هذا الرأي؟
لا أشاطر هذا الرأي لثلاثة أسباب. أولا لأنه مبني على فهم قاصر للثورة التونسية باعتبارها حراكا تاريخيا. فالحدث الأبرز في كل ثورة هو سقوط رأس الاستبداد كما حصل في الثورة الفرنسية والبلشفية والإيرانية. لكن مع اختلاف جوهري يتمثل في أن سياق الثورة التونسية غير سياق ثورة 1917 في روسيا وغير سياق إيران سنة 1979. ففي الحالات الأخرى كان نموذج المجتمع البديل جاهزا قبل الثورة وتحمله قوى سياسية فاعلة. في تونس لم تكن ثورة تيار سياسي معين بل حصلت ثورة مجتمع تضامن ضد السلطة وهو ما يعطي بعدا تاريخيا أعمق ويجعل القوى الحية في المجتمع تحولها إلى لحظة حضارية. فمن الطبيعي أن تبرز كل تناقضات هذا المجتمع وكل تعبيراته بعد سقوط السلطة بما فيها التعبيرات الأكثر مرضية ومن بينها تيارات التطرف الديني. يوجد تنافس وصراع بين نماذج مجتمعية مختلفة بما فيها النموذج المجتمعي المحافظ الذي يمثله الإسلاميون بدرجات مختلفة من التعبير عن هذه المحافظة.
ثانيا أرى أن هذا التخوف يخفي في طياته عجزا فكريا على تقدير المخزون الحداثي لدى المجتمع التونسي الذي راكم التجارب منذ بدأت الإصلاحات مع أحمد باي في النصف الأول من القرن التاسع عشر وهو ما أعطى سبقا لتونس في مجال الدستور والعمل النقابي والدفاع عن حقوق الإنسان والمرأة. لقد شكل هذا الزخم ما يمكن أن يسمى بشخصية تونسية تمثل اليوم التحدي الأكبر للإسلاميين بما فيهم النهضة. إنهم يعتقدون بسذاجة أن تونس اليوم هي صنيعة بورقيبية يمكن إعادة صياغتها. لم يفهموا أنهم يواجهون التاريخ وأن من بين ما كسب التونسي بعد الثورة هو الحرية والوطن. لم يفهموا كذلك أن الانتقال الحاصل اليوم يتم من حداثة السلطة المبتورة نحو حداثة المجتمع المفكر فيها من الأسفل باتجاه الأعلى وليس انتقالا من نموذج الحداثة الغربي نحو أصالة النموذج إسلامي.
ثالثا، ليس لهذه التيارات ما تقدمه للمجتمع إذا استعدنا الأسباب الاجتماعية للثورة. هل بعذاب القبر سنحل مشكل البطالة والتنمية في تونس الداخلية؟ لقد أخطأوا الزمان على هذا المستوى، فالزمن ليس زمنهم والقول بأن الإسلام هو الحل هو مجرد هوام (fantasme) لكن في نفس الوقت هناك خطران يبقى قائمان. أولهما داخلي ويتمثل في تساهل حركة النهضة مع هذه الأطراف المتشددة مثل غلاة الدعاة ويعود ذلك إلى الاشتراك في النظرة الأصولية للإسلام. والثاني خطر خارجي ويتمثل في سيل الأموال الخليجية لجمعيات مشبوهة تستغل التهميش الاجتماعي لانتداب قواعدها.
عرفتم بمواقفكم النقدية من حكم الترويكا كيف ترون تونس بعد عامين من الثورة؟
هذا يتوقف على مستوى التحليل. فعلى المستوى البعيد المتعلق ببناء تجربة بديلة أعتقد أننا على طريق قويم. ذلك أن التجربة الانتقالية التي تتم في ظل مكسب الحرية قد مكنت المجتمع من التعبير على كل تناقضاته ومن فتح السجال والمناقشات على كل المستويات مما جعل التجربة لحظة بناء تاريخي وحضاري بامتياز. أما على المستوى الآني فالوضع فعلا غير مطمئن. فهذه الجهات الداخلية والشباب المعطل وكل الأطياف المهمشة تنتظر بوادر أمل لتحسين وضعها. وهذا اقتصاد أصابه شلل تام من خلال التراجع الكارثي للاستثمار. وهذه إدارة ودواليب دولة تسعى حركة النهضة إلى الاستيلاء عليها باعتراف حلفائها. وتلك مجموعات انتحلت صفة حماية الثورة لإقصاء خصوم الحكومة عن طريق العنف الذي وصل حد التصفية الجسدية. وهذا قضاء يأتمر بأوامر وزير عدل ما انفك يبدع في استنساخ سياسة التجمع المنحل في مجال العدالة. ثم أخيرا ضياع أكثر من سنة في عمل المجلس التأسيسي ليقدم لنا مسودة دون مستوى الذكاء التونسي ودون مستوى تطلعاته ودون مستوى ما وصل إليه عالم اليوم. فهناك خوف حقيقي على المسار الانتقالي.
هناك مخاوف من حروب أهلية في مصر وليبيا الا نخشى على تونس أيضاً من هذا المصير؟
لقد سقط الاستبداد في ثلاث مجتمعات مختلفة في طبيعتها. يتميز المجتمع المصري بهيمنة الصبغة الفلاحية والثقافة الزراعية مما يفسر تلك السمة من المحافظة الدينية والاجتماعية والتي استفاد منها الإسلاميون ليفرضوا هيمنتهم على مجلس الشورى. لاحظ مثلا أن معارضي الإخوان يتركزون في مناطق الإسكندرية ومدن القناة والمحلة وهي مناطق ركزت نشاطها على قطاعات غير زراعية. كما يتميز المجتمع المصري بشدة التفاوت الاجتماعي وباختلاف تكوينه الديني. جملة هذه العوامل تجعل من العنف مسألة متوقعة. لكن ما زاد الطين بلة هو انفراد حركة الإخوان وحزبهم والسلفية بالسلطة وكأنهم استحوذوا على ثورة كانوا قد التحقوا بها متأخرين. في ليبيا يبقى العائق الكبير هو ضعف تقليد الدولة تاريخيا وخاصة زمن القذافي مما فسح المجال أمام مختلف التعبيرات الجهوية والعشائرية مع ما يمكن أن يحمله ذلك من عنف.
أما في تونس فالسمات الاجتماعية الريفية والزراعية موجودة لكنها متوازنة نسبيا مع الصبغة المدينية وهذا يعود إلى قدم ظاهرة التحضر وانتشاره. عامل آخر أعتقد أنه حاسم ويتمثل في قوة حراك المجتمع المدني في تونس والذي ساهم بشكل قوي في تعديل المنافسة السياسية وفي وجود حد معين من التوافق السياسي. لكن ما أخشاه هو أن تكون نتيجة الانتخابات القادمة تعلة للبعض لرفض نتائجها ومحاولة جر البلاد إلى عنف مسلح لا تحمد عقباه.
أمام إصرار الترويكا الحاكمة على اعادة انتاج النظام السابق وخاصة في عدم الفصل بين الحزب والدولة واعتماد مبدأ الكفاءة في التعيينات الى ماذا يمكن ان تصل تونس؟
لا أريد استعمال كلمة الترويكا لأن الواقع يقول أن حركة النهضة هي التي تحكم وأن حلفاءها يشبهون المعارضة الكرتونية زمن بن علي. أريد الإشارة كذلك إلى أن هذه الممارسة تعكس نظرة حركة النهضة للدولة وللديمقراطية وللحريات. فهي مع الدولة إذ هي ملكها وهي مع الديمقراطية متى سمحت لها بالبقاء في السلطة وهي مع الحريات التي تضمن لها حزاما من الحلفاء. الخطر كل الخطر هو أن تتحول الإدارة إلى وسيلة ضغط وابتزاز سياسي بما يهدد كل المسار الديمقراطي الذي ننشده. وأنا أرى أن إطالة عمل المجلس التأسيسي عملية مقصودة كي يتمكن الحزب الحاكم من السيطرة على الدولة وعلى الإدارة بما يسمح ربما بالتحكم في المسار الانتخابي كما عهدنا منذ الاستقلال.
هل أنتم متفائلون وما هي التداعيات الممكنة على الحرب في مالي على الترويكا في تونس؟
رغم كل هذه التحفظات وكل هذه المخاوف فأنا متفائل. أنا متفائل بفعل التاريخ الذي لا يعود القهقرى. أنا متفائل بالرصيد الحضاري للشعب التونسي والذي سيمثل حصانة مهمة ضد كل زيغ باتجاه التطرف أو باتجاه الاستبداد. لقد ضاق الناس طعم الحرية ومن الصعوبة العودة إلى الوراء. أما فيما يخص مالي فأعتقد أن الحرب بشكلها الكلاسيكي، أي مواجهة بين جيشين، هي محسومة سلفا لأن الجماعات الاسلامية المتشددة غير قادرة على الحكم وغير قادرة على مواجهة الجيوش. ربما ستكون المرحلة المقبلة في مالي مرحلة حرب عصابات ضد سلطة باماكو والجيوش الإفريقية. لكن وجود بؤرة للإرهاب لا تخدم مصلحة أي من الجوار بما فيها تونس. أنا أعتقد بأننا على أبواب نهاية الإسلام الجهادي العالمي خاصة بعد وصول أحزاب إسلامية إلى السلطة لأن شرعية الجهاد ستدخل في مواجهة مع شرعية الحكم. في انتظار ذلك يبقى الخطر في أن تتحول تونس إلى مركز لتصدير الإرهابيين قائما خاصة وأن كل ظروف التأطير والتسليح والتدريب متوفرة. الخطر كل الخطر أن تغلق منافذ الجهاد العالمي أمام شبابنا ليعود «الدر إلى معدنه» فيصبح الجهاد العالمي جهادا داخليا.
من هو الدكتور عادل لطيفي؟ ولد بفريانة من ولاية القصرين سنة 1966 درس بدار المعلمين العليا بسوسة بين 1985 و1990 اشتغل أستاذ تاريخ بفريانة بين 1990 و1995 ناقش أطروحة الدكتوراه سنة 2001 بكلية 9 أفريل وكانت حول تاريخ الزاوية التليلية بفريانة والطرق الصوفية في العصر الحديث والمعاصر حاليا مكلف بتدريس تاريخ العالم العربي المعاصر بجامعة باريس الثالثة السربون الجديدة باحث في مجال الإسلام المعاصر وكاتب صحفي (الجزيرة نت)