تونس «الشروق»: ناقشت قمّة الاتحاد الافريقي التي عقدت يومي الجمعة والسبت في سرت بالجماهيرية الليبية جملة من القضايا ذات الأهمية المصيرية بالنسبة إلى القارة الافريقية وأساسا القضايا المتصلة مباشرة بالصراعات المسلحة أو التي يمكن أن تقود في المستقبل إلى نزاعات بين الدول الأعضاء في الاتحاد.وطغت على مناقشات القادة الأفارقة بالأساس قضايا الدفاع المشترك وبؤر النزاعات والمياه والزراعة لكن موضوع المياه الذي تحول إلى ما يشبه المشكلة استقطب الاهتمام وكان من أهم البنود المطروحة على جدول الأعمال. وقد وافانا الأستاذ عادل كعنيش بمساهمة ثرية حول هذا الموضوع وتحديدا حول تقاسم مياه نهر النيل تنشرها «الشروق» تعميما للفائدة. منذ عهود طويلة كانت مياه النيل هي شريان الحياة بالنسبة لمصر والسودان إذ تتدفق مياه هذا النهر الكبير من أواسط افريقيا لتغمر الأراضي المنخفضة بمصر فيكون الماء المتدفق هو مصدر الحياة حتى قيل ان مصر هبة النيل. وقد سمحت وفرة المياه في نشوء العديد من المدن على ضفاف النهر وتجمع ملايين البشر على ضفافه ومنذ القدم استخدمت القوة العسكرية بشكل متكرر لضمان هيمنة مصر على المنطقة العليا لنهر النيل ورافده الأساسي، لكن مياه النيل تتأتى كلها من مناطق خارج الأراضي المصرية وبما أن مصر لا تملك مصدرا آخر للماء، سعى حكام مصر إلى التحكم في منابع مياه النهر حتى يضمنوا عدم قيام قوى أجنبية بالمس من جريانه الطبيعي ولم يكن المصريون القدامى قادرين على تحديد موقع المنبع الأساسي للنهر لذلك تتبعوا مساره إلى السودان وشنوا حملات دورية لغزو هذه المنطقة وقد واصل البريطانيون هذا السلوك لما قاموا باحتلال مصر. هذه الاستراتيجية مكنت مصر التي لا تساهم في تمويل هذا النهر من الاستئثار بقسط كبير من مياهه ساعدها في ذلك أن سكان المجرى الأعلى للنهر يفتقرون للقدرة على بناء السدود ومحطات المياه الكبيرة. ان نهر النيل هو أطول نهر في العالم يمتد حوالي 6600 كلم من منابعه الأولية في افريقيا الاستوائية إلى مصبه في البحر الأبيض المتوسط. وينبع النيل من مرتفعات بورندي وكينيا ورواندا وتنزانيا الغنية بسيول المياه التي تصب في بحيرة فكتوريا أضخم البحيرات الاستوائية ومنها ينطلق القسم الأول من النيل الذي يطلق عليه اسم النيل الأبيض نحو الشمال في اتجاه بحيرة «كيوقا» في أوغندا ثم يتجه النيل الأبيض إلى بحيرة «موبوتو» في الكونغو ويدخل السودان ويتابع سيره نحو الخرطوم ليلتقي مع نهر «أتبرا» ومع النيل الأزرق الذين ينبعان من أعالي أثيوبيا الغربية وهكذا تتحد الأنهار الثلاثة لتشكل نهر النيل الذي ينطلق شمالا إلى الحدود المصرية نحو بحيرة ناصر الخزان العملاق الذي تكون في نهاية الستينات بعد بناء السد العالي. ينساب اذن نهر النيل عبر الأراضي المصرية انطلاقا من بحيرة ناصر وصولا إلى البحر الأبيض المتوسط فيقطع مسافة تقدر بحوالي 800 كلم. وعلى ضفاف هذا النهر كان موطن الفراعنة القدامى وتواجدت آثار الأقصر والجيزة كما نمت على ضفافه مدينة القاهرة التي يبلغ عدد سكانها ما يزيد عن 15 مليون نسمة وبعد اجتيازه للقاهرة يتفرع النيل إلى عدد من الفروع التي تبتعد بعضها عن بعض مشكلة منطقة «الدلتا». من وجهة النظر المصرية فإن السيطرة على النيل ومنابعه هو أمر ضروري لبقاء وازدهار البلاد وقد عارضت مصر اقامة سدود أو منشآت على النيل الأعلى تعيق جريانه الطبيعي وفي سنة 1920 اقترح كبير المهندسين البريطانيين في مصر «سير مردوك ماقدونال» بناء سلسلة من السدود على النيل من شأنها أن تسمح بتخزين الماء في أوقات الذروة، هذا المشروع كان يؤمن لمصر الماء الكافي حتى في أوقات الشدة لكنه كان يمنح سكان الضفاف العليا سيطرة أكبر على جريان النهر. لكن مثل هذا الاقتراح كان من الممكن تصوره في أوائل القرن العشرين لأن بريطانيا العظمى كانت تهيمن آنذاك على أغلب المنطقة وقد أصبح فيما بعد صعبا لوقوع تقسيم في المنطقة وخروج أجزاء منها على السيطرة البريطانية لذلك سعت مصر انطلاقا من سنة 1922 لضمان حقوقها التاريخية وتحصلت على وعد من انقلترا بأن لا يتم بناء سدود على النيل الأعلى أو روافده بدون موافقتها المسبقة وقد تمّ توقيع اتفاقية هي الأولى من نوعها سنة 1929 ضمنت لمصر عدم اقامة منشآت على النيل الأعلى دون موافقتها. لكنه وبمجرد أن استقلت السودان ومستعمرات افريقيا الوسطى حتى سارعت هذه الدول للاعلان على ان اتفاقية 1929 هي لاغية كما ان أثيوبيا اعتبرت ان هذه الاتفاقية هي باطلة لأنها وقعت باسمها من طرف ايطاليا التي كانت تحتل الحبشة. هذه التطورات أحدثت قلقا كبيرا لدى المصريين الذين بدؤوا بالكلام بصفة علنية عن الماء بوصفه مسألة أمن قومي. وقد سارعت الحكومة المصرية منذ الخمسينات بإقامة السد العالي الذي يؤمن مخزونا مائيا هاما كما سعى المصريون إلى الاهتمام بالتنمية المائية بالسودان عن طريق انشاء سدود ومشاريع ري وقد اتصفت الدبلوماسية المصرية خلال هذه الفترة باتباع أسلوب الحوار لكن مع عدم التنازل بخصوص ضمان حصة مصر الكبرى من مياه النيل. لذلك وقّع المصريون مع السودان سنة 1959 اتفاقية لتحل محل اتفاقية 1929 وقد احتكرت مصر حصة سنوية تقدر بحوالي 55.5 مليار متر مكعب من النهر وهو ما يمثل ثلثي جريانه السنوي بينما حددت حصة السودان ب 18.5 مليار متر مكعب أما الكمية الباقية البالغة 10 مليارات متر مكعب فقد افترض انها تضيع عن طريق التبخر. هذه الاتفاقية بنيت على عيب كبير إذ أنها لم تمنح شيئا من مياه النيل للدول الواقعة على الضفاف العليا. وعلى هذ الأساس كانت مصر تخشى ان تباشر أثيوبيا والدول الأخرى الافريقية خططها الخاصة في بناء سدود على مجرى النهر. وقد عرفت السياسة المصرية تحولا بعد معاهدة السلام مع اسرائيل عندما صرح الرئيس المصري السابق أنور السادات أن المسألة الوحيدة التي يمكن أن تجر مصر للحرب مرة أخرى هي المياه مهددا آنذاك بقصف المنشآت المائية لأثيوبيا إذا قامت حكومتها بخطة لتحويل بعض مياه النيل الأزرق إلى مشاريع للري. وقد صدرت كذلك تصريحات من وزير الدولة المصري السابق للشؤون الخارجية في عهد السادات السيد بطرس غالي مفادها ان «الحرب القادمة ستكون بسبب النيل وليس من أجل السياسة». لحسن حظ مصرفان دول ضفاف المجرى الأعلى لم تكن خلال العقود الأخيرة من القرن العشرين في موقع يؤهلها لمباشرة خطط طموحة فقد كانت أثيوبيا مشلولة بحربها مع اريتريا وكانت السودان ممزقة بفعل الحرب الأهلية بالجنوب وكانت الدول الاستوائية غارقة في النزاعات العرقية لكن هذه الصورة بدأت تتغير اليوم بعد أن تحسنت الأوضاع السياسية لبعض البلدان الافريقية التي بدأت تفكر في خطط تنموية طال تأجيلها فأثيوبيا عادت تدرس امكانية استغلال النيل الأزرق في التنمية الفلاحية وهنالك أوغندا التي تدرس اقامة مشاريع كهرومائية وهنالك السودان التي ترغب في المزيد من سحب مياه النيل يضاف إلى ذلك ان هنالك أطرافا خفية يهمها بالأكيد تحريك هذا الموضوع لتشكيل وسيلة ضغط على مصر يمكن استعمالها عند الحاجة. هذه الأمور تشكل مصدر قلق شديد لمصر وما يزيد الأمور تعقيدا هي الاحتياجات المائية السنوية لمصر التي تتزايد يوما بعد يوم نتيجة ارتفاع عدد السكان، فقد كان عدد السكان المصريين سنة 1960 ثلاثين مليون نسمة وقد ارتفع اليوم ليصل إلى 75 مليون ساكن كما ان الدول الافريقية الأخرى تواجه مستويات عالية جدا من النمو السكاني وهو ما يرفع من حاجياتها لسحب الماء من نهر النيل فقد وصل سكان أثيوبيا إلى حوالي 70 مليون ساكن أما السودان فيقارب عدد سكانها 30 مليون ساكن في حين ان سكان أوغندا ناهز 25 مليون ساكن. هذه الأرقام تؤكد ان المنافسة على نهر النيل ستشتد ومن الصعب أن نتخيل كيف ستتوصل أثيوبيا وأوغندا والسودان إلى ضمان الطعام لسكانها دون ري المزيد من الأرض. والمصدر الوحيد للماء هو النيل وروافده لذلك باتت هناك حاجة أكيدة لبناء سدود جديدة وتحويل ماء النيل الاضافي إلى مشاريع ري داخلية. وقد تمكنت مصر إلى الآن من الحفاظ على موقعها الممتاز بالطرق الديبلوماسية تارة وبالتهديد تارة أخرى لذك نجد الرئيس مبارك قد رد سنة 1995 على القيادة السودانية التي طالبت بتغيير اتفاقية 1959 «بأن أي خطوة يتم اتخاذها لهذه الغاية ستقحمنا في مواجهة للدفاع عن حقوقنا وحياتنا، ان ردنا سيتجاوز أي شيء يمكن أن يتخيل». بالنظر للمخاطر التي تتولد عن احتدام الصراع حول هذا المشكل فإن الاحتمال الأرجح هو الوصول إلى حل دون مواجهة وقد نقل عن مصر في أوت 2000 أنها وافقت على دراسة تبني ميثاق جديد ينظم توزيع مياه نهر النيل من شأنه أن يكفل ضمانات اضافية للدول الواقعة على ضفاف المجرى الأعلى وبالطبيعي ان مثل هذا التوزيع يترك امكانية لمصر بأن تستعمل أكثر من حصتها لكن بمقابل مالي. ان الطريقة الوحيدة لتفادي المواجهات هو التفكير في وضع خطط تنموية على نطاق اقليمي يهدف إلى تأمين حصة لكافة الأطراف المعنية وهذه الخطة يتولد عنها انشاء سدود وخزانات اضافية على المجاري العليا للنيل حيث يكون التبخر في حده الأدنى وعندما يكتمل انجاز هذه المشاريع يقع تخفيض مستوى المياه في بحيرة ناصر وهو ما يوفر حسب الاخصائيين مليارات الأمتار المكعبة التي تضيع كل عام نتيجة ظاهرة التبخر، وهكذا يقع تخصيص حصة لكل بلد وإذا حصل نقص في بلد ما يمكن تجاوزه عن طريق التعويض المالي. مشروع كهذا سيكون بلا شك مغريا لدول الضفاف العليا لكنه سيحدث قلقا كبيرا لمصر التي مازالت تمانع في التفريط بأي درجة من السيطرة على جريان النهر لارتباطه بأسباب استراتيجية وتاريخية ومعيشية. لذلك يبدو ان هذا الموضوع مرشح لأن يشهد تطورات هامة وقد لا يمكن حسمه في مؤتمر قمة لأنه من المستبعد أن يوافق المصريون على أي مخطط لاقتسام المياه بشكل لا يخضع لسيطرتهم المباشرة.