لا أدري كيف بقيت كل هذه الاعوام والقصة التي قصها علي الدكتور ابراهيم تعود علي من حين الى آخر فتهزني احداثها ولم اتناول القلم لكتابتها!! ها أنا اليوم ألوم نفسي، وكم لمتها وانبتها من مرات، طيلة هذه الاعوام... الدكتور ابراهيم صديقي، صديقي منذ عهد الشباب وأيام المعهد. ... في نفس السنة احرزنا شهادة الباكالوريا، وفي نفس السنة سافرنا بل في نفس اليوم ركبنا الباخرة الى فرنسا... والى اليوم اسم الباخرة التي ابحرنا عليها مازلت اتذكره ... اتجه هو الى كلية الطب ب «مون بيليي» وأنا، من ناحيتي، مصاب بلوثة الأدب، كما يقال، اتجهت الى كلية الأداب ب «آكس اون بروفانس» في جنوبفرنسا.. تلك السنوات، ما اجملها!! يزورني وأزوره في فرنسا اثناء العطل، طيلة سنوات الدراسة... ثم عدت قبله بأعوام استاذا... وعاد، بعد اعوام طبيبا وابتدأ تربصه في مستشفى الرابطة بتونس. ومضت الايام والأعوام.. واليوم، لم ادر كيف عادت الي دفعة واحدة قصته وكأنه قصها علي بالأمس، فاندفعت في كتابتها. قال لي في البداية: انت يا بشير «استاذ عربية» والأدب مهنتك... كاتب معروف وصاحب اعمال منشورة ولك القدرة على التعبير.. والكتابة، كما تعرف، ليست مهنتي والأدب ليس ميداني فأنا بعيد عنه كل البعد لكن هذه القصة التي مرت عليّ... هكذا انطلق يحدثني.. فأنا في حقيقة الامر، لست مبدعا، كما ادعى صديقي ابراهيم اثناء حديثه، في شأن قصته هذه التي مرت عليه ايام تربصه، بل انا استاذ ادب ومحب للأدب شغوف به، اكتب المقال، وبعض الخواطر ومحاولات نقدية في بعض الاحيان انشرها على صفحات الجرائد اليومية، والمجلات... اما القصة والشعر والرواية فلا سبيل اليها.. رغم محاولات عديدة فالطريق لم تنفتح امامي... كنت، لا اجد ما اكتب... تغيب الأفكار من ذهني والصور والأحداث والأبطال والأنهج والشوارع ولا يبقى شيء يذكر... كل ما اقررت العزم على كتابته وتحدثت به نفسي، عبارة على شريط مر على شاشة الخيال واضحا جليا ثم دخل عالم النسيان وانتهى امره... عندما اتناول القلم امام الصفحة البيضاء في مكتبي... وويلي من الصفحة البيضاء فهي تخيفني وترهق اعصابي فلا اكتب شيئا بل ابقى اخط بعض الخطوط وأصور بعض الصور وأبدأ بعض الجمل ثم امزق كل الأوراق وألقي بها في سلة المهملات وأقوم وأفارق مكتبي ناقما... فأنا اتمنى من كل قلبي ان ارى بعيني وألمس بيدي كتابا انا صاحبه، مبدعه وكاتب جمله وفقراته... اتصفته بفرح واعتزاز وغلافه يحمل اسمي البشير بن سعيد... والعنوان يرفرف، عنوان المجموعة القصصية او الرواية، العنوان الذي اخترته من بين عدة عناوين... اتصفح الكتاب واقرأ صفحات تلو صفاحات مرات ومرات وأنا في نشوة وسعادة لا استطيع التعبير عنهما. بلغت من العمر ما بلغت وأدت بي الطريق الى التقاعد... فأنا شيخ مسن في زمرة المتقاعدين من عباد الله والاساتذة... حملت المحفظة عشرات السنين وفارقتها في خاتمة الرحلة بل فارقتني... لكن مع ذلك لم اطق صبرا، صرت اتعهدها وأعود اليها من حين لآخر، انحي عنها الغبار وأخرج بها احيانا لشم النسيم ولكي تعود الى سالف عزتها... لقد بلغت من العمر ما بلغت وانا احلم دائما بالقصة وكتابة القصة ونشر القصة وبلوغ النصيب الكافي منها لإخراجها في مجموعة وظهور عنوانها بين سائر الكتب الجديدة في الاسواق والمعارض والمكتبات.. هذه حكاية تطول ان انسقت وتركت نفسي على ما هي عليه... وحبل الأماني طويل يجري ولا يعرف له نهاية... لكن يجب ضبط اللسان والقلم... فالمقام ليس مقاما لبوح الأسرار والبكاء على الاطلال.. لكن، رغم ذلك، شعرت بالأمل يعود والعبء يخف واليأس يتلاشى ويضمحل. فهذه القصة التي قصها عليّ صديقي تأتي فليس لي إلا ان اتناول القلم وأشرع في كتابتها... فهل استطيع ذلك... او تعود علي حكاية الصفحة البيضاء، الصفحة اللعينة البيضاء ووقوف الفيلم وغياب الصور من امام عيني وذهني... او تعود حكاية الشريط الذي مرّ على الشاشة؟ ربما تكون نقطة البداية والانطلاق.. اعود الى صديقي الدكتور، شاكرا إياه في اعماقي في نفس الآن والحين، فهو الذي اعطى إشارة الانطلاق وحملني على كتابة اول قصة اتقدت في ذهني دفعة واحدة حال انتهائه من حديثه. دقت كما تدق النواقيس معلنة قدومها، فارضة وجودها... انتشيت، وفرحت الفرح الذي ترقبته طول العمر... ها اني دفعت دفعا، وبعثت في الشعلة وسهل الانطلاق فصرت اكتب بتلقائىة ما شعرت بها من قبل.. شعرت بنشوة الكتابة والابداع لأول مرة في حياتي.. إذن.. كنت، في تلك الايام الاولى من عودتنا الى تونس، اذهب الى المستشفى بانتظام لزيارة صديقي ابراهيم في قسم الامراض الصدرية... فصداقتنا بقيت كما هي منذ عهدنا الجميل بالمعهد الصادقي، حلوة منسابة مع الايام، صافية رقراقة لا يشوبها كدر.. فعندما اراه، اصبح أشاهد انفسنا ونحن صغار في عهد الشباب، بين الاصدقاء في المكتبات وفي شوارع المدينة ومقاهيها... ثم في فرنسا في مدينة مون بيليي ومطاعم ومقاهي وملاهي «إيكس» وباريس.. تقلبت في مدن عديدة، تنقلت بين مدن عديدة في البلاد بحكم المهنة والتدريس صفاقسطبرقةسوسةقليبية... غبنا عن بعضنا الأعوام وانقطعت اخبار صديقي ابراهيم... عدت في خاتمة المطاف، بعدما اجتزت امتحانات بتفوق، استاذا جامعيا وحططت الرحال في تونسالمدينة... فعدت الى ابراهيم ازوره وقد فتح عيادة من ناحيته... احيانا نتبادل الزيارات... فأسعد الاوقات التي امضيها في حياتي هي الساعات التي اقضيها مع ابراهيم... فالغليون لا يفارق فمه وهو الأدرى بمضار التدخين... وصندوق الكبريت من الحجم الكبير يخرجه من جيبه مرات ويفتحه ببطء... من حين لآخر، يكف عن الحديث، وينشغل بعلاج الغليون... احيانا اخرى يتابع الحديث بين الجذب والارسال والدخان يتصاعد من حوله فيبعده بيده... اتابع حركاته وانا ارنو اليه بمحبة الصديق لرفيق العمر... ثم يعود يعالج الغليون بخبرة ودراية بفن اشعال الغلايين المتنطعة المشاكسة... لا يكف عن الحديث بعفويته المطلقة، فهو رجل طيب باندفاعه، بحبه لزملائه وللناس بتفانيه في مهنته.. يجعل المصغي اليه يقول في سره وهو يتأمله.. «ايه، هذا هو الطبيب بحق، والرجل بحق، والانسان بأتم معنى الكلمة..». يقصده صغار الاطباء وينتصحون بنصائحه... المرضى بمختلف طبقاتهم يقولون الدكتور ابراهيم هو الطبيب القدير الذائع الصيت... الفقراء والمساكين يلهجون بذكره، يدخلون ايديهم الى جيوبهم اوان الدفع فيرفع اصبعه ويقول لا... أقول هذا القول ليس من باب الصداقة وما احمل نحوه من حب واعجاب.. لا لأنه صديق فالصديق المحب لصديقه لا يرى عيوب صاحبه.. ها أنا اشعر بالفرح يغمرني اذ استطعت ان اعبّر بصدق عما يختلج في اعماقي... أأنا كاتب حقا؟ لا ادري والله لا ادري لكن المهم عندي هو اني اعبّر بأمانة وصدق عما يختلج في اعماقي، لا يهمني ان نجحت في كتابة هذه القصة أو لم انجح.. زرته يوما في عيادته كما كنت ازوره في المستشفى، ايام تربصه، فألفيته ممتقع اللون مضطرب الحركات... بادرني بصوت متغير قائلا «اسمع يا بشير، اريد ان اقص عليك قصة جرت علي منذ سنين، ولم أنسها...». شعرت به منشغل البال، مهموما... تابع بقوله: انتظرتك هذه الايام... لم لم تأت كعادتك... لقد طال غيابك... ظننت انك سافرت.. فلم اجب، وتركته يتابع حديثه... اريد ان اقص عليك قصة ابتدأت عندما كنت متربصا في مستشفى الرابطة، حال عودتي من فرنسا، ولم تنته الا هذه الأيام... لقد مرت علي بدايتها سنوات... شددت اليه وهو جالس الى مكتبه... وغليونه في قمه... ونظاراته السميكة بلونها الداكن على عينيه... وتابع... قصة لا أنساها طول عمري يا بشير.. لا استطيع ان انساها ما دمت حيا.. ولا اريد ان تنسى من بعدي.. تغيّر صوته اتقدت عيناه تحت نظاراته السميكة، توقف عن الحديث برهة وهو يفكر... وكأني امام انسان آخر، غير صديقي ابراهيم الذي عرفته وعاشرته السنين الطويلة... بقيت انتظر متابعته الحديث... ثم واصل بعد صمت لم يطل: «في ليلة من ليالي الشتاء وانا في المستشفى اتنقل بين المرضى... فحصت شابا لا يتجاوز عمره ثلاثين سنة، في حالة خطيرة. شد انتباهي واهتممت به تلك الليلة... كان المسكين يتنفس بصعوبة.. يلهث وصدره مملوء صديدا... اعتنيت به كنت اقف امام فراشه واتفحصه كل ليلة وأسأل عن احواله... وبان الفرج شيئا فشيئا.. وليلة قص علي قصته... فمن يشاهده ويتحدث اليه لا يتبادر الى ذهنه ابدا انه سجين خطير، حكم عليه عشر سنوات سجنا... وقد قضى سبع سنوات منها... وذلك لمعركة وقعت في بلاده... ألحق بمخاصمه أضرارا جسيمة... ابنة عمه تنتظره في الدوار... وأمنيته الوحيدة في الحياة هي الخروج من السجن وعودته الى بلدته والزواج بابنة عمه.. بعد شهرين تقريبا شفي، ففارق المستشفى وعاد الى السجن.. مرت اعوام وتلتها اعوام... وهذه الايام بينما كنت متجها الى عين دراهم... توقفت في مدينة باجة لتناول قهوة كعادتي كلما سافرت الى عين دراهم وانسقت اتجول في اسواق باجة التي تعجبني خاصة... التجول في الاسواق يروق لي كلما مررت بمدينة او قرية، وإذا برجل يحتضنني ويقبلني بحرارة.. ويعانقني ويشد على يدي بقوة... قلت في نفسي في الأثناء مريض من مرضاي دون شك... واذا به المكي ذلك الذي بقي في المستشفي المدة الطويلة ثم عاد الى السجن.. ثم انطلق يقول لي في غمار العناق والتطويق: سي ابراهيم العزيز يا سي ابراهيم العزيز، أنا المكي ياسي ابراهيم اتتذكرني... هذه صدفة، ما اجملها يا ربي!! ويعود يشد على يدي ويطوّقني من جديد... خيرك لا ينسى ياسي ابراهيم، كيف ارد لك كل ما فعلت معي... انا لا انساك طول حياتي فأنت الذي انقذتني ياسي ابراهيم لولاك، لولاك ياسي ابراهيم لولاك، لولاك لكنت تحت اللحود، ميتا بين الأموات.. ... كنت اقول له في الاثناء: الأعمار بيد الله يا مكي... الأعمار بيد الله يا ابني.. لم يخل سبيلي.. ثم اقسم بغليظ الايمان ان اذهب الى بيته خارج باجة، واتغدى في دواره... اعتذرت قائلا له: اني على موعد مع اصدقاء في عين دراهم وهم في انتظاري، ومن الصعب ان اخل بالموعد... ان شاء الله مناسبة اخرى يا مكي، فأنا امر باستمرار على مدينة باجة... ثم سألته عن صحته وأحواله... فأجابني: منذ ذلك العهد وانا بخير والحمد لله، في صحة طيبة معافى كالحصان، الله يجازيك ويعطيك الخير يا سي ابراهيم.. عندما يئس من قبولي الدعوة، بعد إلحاحه الشديد، قال لي والدموع تترقرق في عينيه: ياسي ابراهيم العزيز... اسمح لي يا سي ابراهيم، والله انا اعرف ان الاطباء لا يريدون ان يتناولوا الطعام في بيوت الفقراء. انطلقت في صمت، تابعت طريقي.. وكلماته الأخيرة تفعل افاعيلها... اثناء الطريق ندمت، لكن فات الاوان... انبت نفسي... ودفء ذراعيه مازال عالقا بصدري... وكلماته تتردد على مسامعي وانا اتابع صعود جبال خمير قاصدا نزل الفرنان.. ... عادة، يا بشير، عندما اشرع في الصعود اشعر بموجات من السعادة تغمرني وتشمل كل كياني والفرح يملأ قلبي وقد ابتعدت بعيدا عن المدينة وأتعابها وهذه المرة لم يقع شيء من ذلك. قضيت نهاية الاسبوع وأنا كثير الصمت قليل الكلام، حزين، آسف عما فات.. الأصدقاء في مرح ولهو وتجول في الجبل وأحاديث ولعب وانشراح وسهرات في النزل حول المدفأة الى ساعات متأخرة من الليل... والخروج الى الغاب من جديد لسماع عواء الذئاب والعثور على بعض الخنازير والحيوانات الليلية... وبريبش الدليل يرافقنا، ليلا نهارا، لا يخشى سبيلنا ولا يكف عن الحديث... ونحن نتبع خطواته وفي المسارب والثنايا وهو يحكي عن الخنازير وتنقلها وأكلها بعض الأعشاب ويشير بيده اليها كما يتبع آثارها ويقف أمام انواع من الفقاع غير السامة ويطنب في وصفها لنا وتجنب الخنزير لها وآثاره حولها... كنت لا اسمع ولا اعي مما يدور حولي... ولا يسأل عن حالي بل كان البعض من الاصدقاء يسألني في الاثناء، ويقول: «يا ابراهيم مابك هذه المرة فأنت لست كعادتك... لست في صحنك... يا ابراهيم مابك؟ كنت لا اجيب... ولا اريد ان يشاركني احد فيما جرى... بقيت مهموما الاسبوع بأكمله، افكر في ذلك الفلاح البسيط، الطيب... وصورته عالقة بذهني، تعود وتتكرر علي، وهو يطوّقني بذراعيه ويشد علي بمحبة وشوق كبير.. وعدت الى تونس. بعد يومين، بينما كنت، بعد صلاة المغرب، في البيت في ضاحية اريانة كما تعلم.. دق الباب، ففتحت ابنتي سوفية... ثم عادت الي وقالت لي: رجل على ظهره خروف يسأل عنك... خرجت واذا به المكي.. انزل الخروف عن ظهره حالما شاهدني، ثم قال لي: يا سي ابراهيم العزيز... هذا هو الخروف الذي كان في الامكان ان تأكل منه لو تغديت في الدوار، بين اهلي وابنائي... قضى المكي الليلة في بيتي.. اسمه المكي، كما قلت لك في البداية، تزوج من ابنة عمه التي انتظرته سنوات السجن.. بنيته اسمها هدى لها سبع سنوات وابنه منير لم يبلغ الخامسة من عمره... باح لي، اثناء السهرة انه قدم الى تونس مشيا على الأقدام... وكما تعلم يا بشير، فالمسافة ليست قصيرة بين باجةوتونس. دام الصمت طويلا... لم استطع من ناحيتي ان اقول كلمة... فعاد الى غليونه يعالجه، يشعله من جديد بأناة، ينفخ داخله مرارا ليعود اليه تألقه وتنتشر رائحته.