حديث كثير هذه الأيام في تونس عن الإعلام العمومي والمقصود به الإذاعة والتلفزيون ووكالة الأنباء المفترض فيها جميعا أنها تابعة للدولة وليس لأي حكومة أو حزب. النقاش الدائر حاليا هو كيف نضمن لهذه المرافق العامة استقلالية قانونية ومالية وتحريرية تجعلها بمنأى عن أي تجاذبات سياسية وتخلصها من عقدة التطبيل لأي حاكم مهما كان. المسألة ليست هينة لأنه بالأصل لا توجد لدينا في طول البلاد العربية وعرضها ثقافة الملك العام في التعاطي مع الكثير من المرافق والخدمات التي تصور على انها ملك للحاكم مع أنها ليست كذلك. هذه النقطة معطوفة على اعتبار السلطة في كل الدول المتخلفة ان الاعلام العمومي ما هو إلا مجالها الحيوي وسلاحها الخاص عقّدا المشهد اكثر. ازداد هذا المفهوم رسوخا بعد الاستقلال مباشرة وحاجة الحكومات الوطنية الجديدة الى منبر دائم للاتصال مع الجمهور لتوعيته والتحفيز للتنمية وبناء الدولة الجديدة ثم جاءت مرحلة الدولة المستبدة فأصبحت كل دكتاتورية ترى في وسائل الاتصال العمومية مساحتها الحصرية لتمجيد الزعيم وإبلاغ وحجب الاخبار التي تريدها ونوعية الخطاب السياسي الذي تبتغيه. ترسخ هذا الواقع لعقود شوه مفهوم كلمة العمومي في ذهنية الحاكم والمحكوم على حد سواء واستقر في الوجدان والممارسة حتى اصبح التعاطي مع وسائل الاعلام العمومية على انها صوت ووسيلة دعاية للحزب الحاكم أمرا مفروغا منه بل وبديهي. المشكل الأكبر أن هذا استقر أيضاً في ذهن كثير من صحافيي الاعلام العمومي فأصبح هؤلاء أيضا لا يرون وجاهة للتفريق بين السلطة بل والحزب الحاكم او حتى العصابة الحاكمة وبين هذا الفضاء الاعلامي إلى أن بات الامر تدريجيا أشبه بالمسلمة في نظر الجميع. لكل ما سبق فان الحديث عن الاستقلالية والمهنية في هذا الفضاء كلام جديد ويحتاج الى تأصيل في المفهوم وفي الممارسة بالتدرج دون استبعاد بعض الهزات العنيفة كضرورة الاستغناء عن أعداد من الصحافيين الذين كانوا يعتبرون أنفسهم مناضلين للحزب الحاكم وزعيمه قبل أي شيء آخر مع ممارسات ترهيبية ضد زملائهم يندى لها الجبين. هذه الخطوة ستخلق أجواء نفسية جديدة على أن تترافق مع إعطاء الفرصة أمام شريحتين من الصحافيين لتدعيم هذا التوجه : فئة جيدة ولكنها كانت مغلوبة على أمرها لسنوات طويلة وفئة الشباب المدعو لاكتساب الخبرة والصعود في مناخ سليم وذهنيات عمل مختلفة. قد لا يكون من السهل على الحكومة التونسية الحالية أن تتخذ الخطوات الجريئة اللازمة لبداية إعلام عمومي حقيقي في البلاد لأنها كأي سلطة ستجد من يزين لها أن في هذا الإعلام قوة جبارة ربما من غير الحكمة التفريط فيه. إن استجابت الحكومة لهذا الإغراء الزائف فلن تكون ساعتها مختلفة على هذا الصعيد عن حكومات بورقيبة وبن علي المتعاقبة لأكثر من نصف قرن. ما يمكن أن يطمئن الحكومة التونسية الحالية أو أي حكومة مقبلة أن استقلالية مؤسسات الإعلام العمومية لا تعني أنها ستتحول عدوة لها آليا وإنما ستصبح في القانون والممارسة على مسافة واحدة من جميع الفرقاء السياسيين مع ترك المهنية داخل هذه المؤسسات تعمل وفق قواعدها المتعارف عليها وهو ما سيكسبها حتما المصداقية والاحترام في نظر الرأي العام بعد عقود من الازدراء والتندر. إن نجحت الحكومة التونسية في ذلك وتجاهلت إغواء القوة التي تتوهم أن إبقاء وسائل الإعلام العمومية تحت جناحها يوفرها لها، فسيسجل لها ذلك بكل قوة ويحق لها أن تفخر به لأنها ستكون وقتها قد حققت للبلاد مكسبا كبيرا ستستفيد منه حتى الأحزاب الحاكمة حاليا لأنها سستخلص من تحمل مسؤولية كل عثرة كبيرة أو صغيرة لهذه الوسائل في تغطياتها للحراك السياسي الحالي في تونس... وما أكثره وسيزيد. القدس العربي 2012-02-22