رئيس الجمهورية يأذن بعرض مشروع نتقيح الفصل 411 من المجلة التجارية على مجلس الوزراء بداية الأسبوع المقبل    عضو هيئة الانتخابات: حسب الاجال الدستورية لا يمكن تجاوز يوم 23 أكتوبر 2024 كموعد أقصى لإجراء الانتخابات الرّئاسية    تونس حريصة على دعم مجالات التعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ( أحمد الحشاني )    مسؤول باتحاد الفلاحين: أضاحي العيد متوفرة والأسعار رغم ارتفاعها تبقى "معقولة" إزاء كلفة الإنتاج    تونس تشارك في الدورة 3 للمنتدى الدولي نحو الجنوب بسورينتو الايطالية يومي 17 و18 ماي 2024    المنستير: إحداث اول شركة أهلية محلية لتنمية الصناعات التقليدية بالجهة في الساحلين    العثور على سلاح "كلاشنيكوف" وذخيرة بغابة زياتين بجرجيس مخبأة منذ مدة (مصدر قضائي)    الترجي الرياضي يكتفي بالتعادل السلبي في رادس وحسم اللقب يتاجل الى لقاء الاياب في القاهرة    كاس تونس - النجم الساحلي يفوز على الاهلي الصفاقسي 1-صفر ويصعد الى ربع النهائي    الحرس الوطني: البحث عن 23 مفقودا في البحر شاركوا في عمليات إبحار خلسة من سواحل قربة    طقس... نزول بعض الأمطار بالشمال والمناطق الغربية    المنستير : انطلاق الاستشارة لتنفيذ الجزء الثالث من تهيئة متحف لمطة في ظرف أسبوع    اليوم العالمي لأطباء الطب العام والطب العائلي : طبيب الخط الأول يُعالج 80 بالمائة من مشاكل الصحة    قبل أسبوعين من مواجهة ريال مدريد.. ظهور صادم لمدافع دورتموند    بوسالم.. وفاة شاب غرقا في خزان مائي    مهرجان «بريك المهدية» في نسخته الأولى: احتفاء بالتّراث الغذائي المحلّي    عمر الغول.. الولايات المتحدة تريد قتل دور مصر بالميناء العائم في غزة    ملتقى وطني للتكوين المهني    المجلس المحلي بسكرة يحتجّ    منال عمارة: أمارس الفنّ من أجل المال    عاجل/ صفاقس: انقاذ 52 شخصا شاركوا في 'حرقة' وإنتشال 4 جثث    عاجل/ ضبط 6 عناصر تكفيرية مفتّش عنهم في 4 ولايات    النجم الساحلي يمرّ بصعوبة الى الدور ربع النهائي    كأس تونس : النجم الساحلي يلتحق بركب المتأهلين للدور ربع النهائي    تمدد "إنتفاضة" إفريقيا ضد فرنسا..السينغال تُلّوح بإغلاق قواعد باريس العسكرية    القصرين: القبض على شخص صادرة في حقه 10 مناشير تفتيش    الإنتخابات الرئاسية: إلزامية البطاقة عدد 3 للترشح..هيئة الإنتخابات تحسم الجدل    آمر المركز الأول للتدريب بجيش الطيران صفاقس: قريبا استقبال أول دورة للجنود المتطوّعين    قريبا.. الحلويات الشعبية بأسعار اقل    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    قراءة في أعمال ومحامل تشكيلية على هامش معرض «عوالم فنون» بصالون الرواق .. لوحات من ارهاصات الروح وفنطازيا الأنامل الساخنة    شبهات فساد: الاحتفاظ بمعتمد وموظف سابق بالستاغ وإطار بنكي في الكاف    بقلم مرشد السماوي: كفى إهدارا للمال العام بالعملة الصعبة على مغنيين عرب صنعهم إعلامنا ومهرجاناتنا!    المهرجان الدولي للمشمش بحاجب العيون في دورته الثانية ...مسابقات وندوات وعروض فروسية وفنون شعبية    ليبيا: اشتباكات مسلّحة في الزاوية ونداءات لإخلاء السكان    القيمة التسويقية للترجي و الأهلي قبل موقعة رادس    تضم منظمات وجمعيات: نحو تأسيس 'جبهة للدفاع عن الديمقراطية' في تونس    وزيرة الصناعة: مشروع الربط الكهربائي بين تونس وإيطاليا فريد من نوعه    هذه القنوات التي ستبث مباراة الترجي الرياضي التونسي و الأهلي المصري    أبو عبيدة: استهدفنا 100 آلية عسكرية للاحتلال في 10 أيام    ألمانيا: إجلاء المئات في الجنوب الغربي بسبب الفيضانات (فيديو)    5 أعشاب تعمل على تنشيط الدورة الدموية وتجنّب تجلّط الدم    وزير الصحة يؤكد على ضرورة تشجيع اللجوء الى الادوية الجنيسة لتمكين المرضى من النفاذ الى الادوية المبتكرة    السبت..ارتفاع ملحوظ في درجات الحرارة    ابرام اتفاق شراكة بين كونكت والجمعية التونسيّة لخرّيجي المدارس العليا الفرنسيّة    دار الثقافة بمعتمدية الرقاب تحتفي بشهرث الثراث    بينهم طفلان..مقتل 5 أشخاص نتيجة قصف إسرائيلي على لبنان    داء الكلب في تونس بالأرقام    حلوى مجهولة المصدر تتسبب في تسمم 11 تلميذا بالجديدة    كمال الفقي يستقبل رئيس منظمة الدفاع عن المستهلك    نحو 20 % من المصابين بارتفاع ضغط الدم يمكن علاجهم دون أدوية    جندوبة : يوم إعلامي حول تأثير التغيرات المناخية على غراسات القوارص    حفل تكريم على شرف الملعب الإفريقي لمنزل بورقيبة بعد صعوده رسميا إلى الرّابطة الثانية    الصادرات نحو ليبيا تبلغ 2.6 مليار دينار : مساع لدعم المبادلات البينية    ملف الأسبوع...المثقفون في الإسلام.. عفوا يا حضرة المثقف... !    منبر الجمعة .. المفسدون في الانترنات؟    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التباين والتوافق مع صديقي الشيخ راشد منصف المرزوقي
نشر في الفجر نيوز يوم 10 - 04 - 2012

لا يهديني أحد كتابا إلا وشعرت بضرورة الرد، سواء برسالة شكر، أو إن أعجبني النص بقراءة أنشرها. ذلك لأنني ككاتب، أعلم أن من يهديك أعز ما لديه أي عصارة الفكر والروح ينتظر منك أن تتجاوب معه ولو سلبا. أمر من التجاهل أن تسمع بكتابك معروضا في السوق للبيع، يميزه الإهداء المكتوب بخط يدك، مما يدل على قيمته لدى الذي توسمت فيه الخير. من الطبيعي أن أكتب هذا المقال وصديق عزيز مثل الشيخ راشد الغنوشي هو الذي أهداني آخر ما قرأت بكل اهتمام "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" (دار الشروق-القاهرة 2012) ولأن علاقة الناقد بكاتب أي نص هي دوما تفاعل فكر مشبع بالرؤى والتصورات والمشاعر، مع فكر آخر مهيكل بنفس الكيفية، لا بد من كشف الخلفية التي يحاول البعض طمسها لادعاء موضوعية كاذبة.
أعرف الشيخ راشد منذ أكثر من ربع قرن، لكننا لم نتقارب إلا عندما أطلق بن علي البوليس السياسي على الإسلاميين ابتداء من سنة 1991 بمستوى من العنف لم تعرفه تونس حتى في عهد بورقيبة. فكان ما كان من معاناة لكلينا، المعروف منها للأقلية والمجهول منها للغالبية. ثم جمعتنا غربة مريرة وطويلة. ودارت بيننا العديد من النقاشات على امتداد عقدين من الزمن سواء في بيته ومكتبه بلندن، أو ذات ليلة مشهودة في بيت صديق مشترك في فرنسا (التي دخلها بشكل سري) ثم تغيرت النقاشات بعد أن عدنا ورحل الطاغية، والرهان هذه المرة ليس على التوفيق بين رؤى فلسفية وسياسية متباعدة وإنما على التوافق حول النظام السياسي الجديد في تونس الثورة.
قد يكون هناك عامل ذاتي سهل التفاهم بيننا هو أننا ننحدر من نفس الأصول الفقيرة ومن نفس القرى المهمشة في الجنوب التونسي ومن نفس التيار اليوسفي الذي هزمه بورقيبة بعيد "الاستقلال". غير أنه لا ضروريات رص الصفوف لمقاومة الديكتاتورية ولا الانتماء المشترك، ولا الرغبة الصادقة من الطرفين في بناء الجسور، استطاعت طمس اختلافات جذرية على الصعيد الفكري. هكذا بنينا على مر السنين علاقة تتميز بالتباين المزمن والتفاهم المتواصل، ومن ثَم لا غرابة أن أكتشف -وأنا أقرأ الكتاب- كل ما يفرقنا إلى جانب كل ما يجمعنا.
نقاط التوافق ثلاث
قول الشيخ "لا يسعه (أي الإسلام) إلا أن يسعد ويرحب بما ارتقى له وعي البشرية .... بوصف ذلك بعض ما تتشوف له رسالته بما يجعل اتجاه التوافق بين تلك الإعلانات والعهود (لحقوق الإنسان) مع قيم ومبادئ الإسلام هو الاتجاه العام والاختلاف هو الاستثناء" (ص 103)، كم نحن بحاجة إلى توسع مثل هذا التفكير في عالم نخر فيه التعصب، وهو دوما المدخل لعنف ضجرت منه وضجت به البشرية!
قوله أيضا:
"لا يليق بالباحث المسلم في النظام الإسلامي أن يقف موقف المأخوذ المنبهر أمام أي إبدع حضاري يحطب منه -كحاطب ليل- حلوه ومره، ما يليق به، في الآن نفسه أن يتحرج ويستنكف من الأخذ بكل كلمة اتفق عليها عقل بشري وأثبتت جدواها تجربة حضارية حتى يندرج في سلك أولي الألباب" (ص39)
ثم هذه الجملة التي كان بوسعي أن أكون كاتبها، بنفس العبارات تقريبا "فإن المستقبل سيسلم قيادته على الأرجح للأمم الأقدر على الإبداع والتجدد الفكري والإقناع والحوار وتقديم ما ينفع الناس، والأقدر في المحصلة على المقاومة والتغيير والفداء" (ص 28).
نعم يجب أن نعود لساحة الإبداع لتدارك كل هذه القرون من التخلف، نعم يجب أن نجدد مخزوننا الحضاري، أن نترك الاجترار، بما في ذلك اجترار أمجادنا الماضية، الحقيقية منها والكاذبة، لا مجال لهذا إلا باستعادة الثقة في أنفسنا، إلا بفتح النوافذ على العالم... بتعلم الصينية والروسية واليابانية والأوردية ولغة الزولو والمايا... بالأخذ من كل الثقافات البشرية بامتنان وإعطائها بكرم... بجعل شعارنا قول الإمام علي بن أبي طالب:
كن ابن من شئت واكتسب أدبا *** يغنيك مضمونه عن النسب
إن الفتى من يقول ها أنذا *** ليس الفتى من يقول كان أبي
****
والآن إلى نقاط الاختلاف الثلاث وهذه تستوجب بعض الشرح.
1- العلمانية
في الجزء الأول (ص 37) يكتب الشيخ "وبذلك كانت حجة الواقع أبلغ من كل جدل في الرد على دعاوى العلمانيين ومساعيهم في علمنة الإسلام وتفريغه من جوهر رسالته" ويواصل نفس الفكرة (ص 38) "هذا دون الغض من قيمة الجهود الكبرى التي يبذلها علماء الإسلام ومفكروه في التصدي لتيار العلمانية ودحضه بحجة المنطق".
لا أريد العودة لنقاش المفهوم (انظر على الجزيرة نت: "العلمانية مفهوم للترك أو للتبني") أذكر فقط أنه يعني في منظوري حماية الدولة من المستبدين باسم الدين (أفغانستان طالبان) وحماية الدين من المستبدين باسم الدولة (تونس بن علي)... أنه لا علاقة له بالإلحاد... إنه من الأحسن تفاديا للخلط أن نتحدث عن الفكر المدني.
ما أريد التعليق عليه وصف الشيخ لمواقف المجموعة الفكرية التي أنتمي إليها بأنها "دعاوى" وأن هناك من "دحضها بحجة المنطق". كأن الشيخ ومن معه ما زالوا على مقولة "موقفي صواب قد يحتمل بعض الخطأ وموقفك خطأ قد يحتمل بعض الصواب!" بصراحة أنا أكره فكرة أن الشيخ ينظر إلي بعقله الباطني على أن الله يوم يفتح علي ويهديني إلى الحق سأترك "دعاوى" العلمانيين إلى حقائق الإسلاميين.
رأيي أن الموضوع لا علاقة له البتة بدعاوى وحقائق، ولا بخطأ من نصيب هذا وصواب لا يملكه إلا ذاك. فكريا نحن أمام تعقيد العالم الرهيب وتغيراته المتواصلة، متساوون في الخطأ والصواب. عقائديا الإسلام هو منبع نشرب منه جميعا وليس وقفا على أحد، اجتماعيا وسياسيا كلنا ندافع عن مبادئ مصالحنا ومصالح مبادئنا.
الأهم أننا جميعا تحت وطأة قانون: التعددية هي وإلى الأبد الحالة الطبيعية لأي مجتمع. هذه الظاهرة القارة لها سبب ذاتي: حب البشر للمشاكسة والتميز. هي نتيجة ظروف موضوعية داخلية وبالأساس نتيجة تباين الرؤى والمصالح والإستراتيجيات لحل مشاكل الأفراد والمجموعات في مجتمع محدود الموارد.
ثمة أيضا دور العوامل الخارجية، أي تأثير المجتمعات بعضها على بعض، إذ هي لا تنفك تتبادل الجينات والمعلومات والقيم، إن سلما وإن حربا. هذه التعددية هي التي أعطتنا في الماضي السنة والشيعة وداخل كل مذهب المدارس الفقهية المتنافسة. هي التي تفجر اليوم المنظومة الإسلامية إلى إسلام دعوي وإسلام سياسي، وهذا الأخير إلى إسلام سياسي معتدل وآخر متشدد، وداخل المتشدد إلى سلفية دعوية وسلفية جهادية، والكل يشكك بفهم الآخر للإسلام أو حتى يكفره.
هي التي تعطينا العلمانيين والإسلاميين، لأن مجتمعنا التونسي يحمل بقوة بصمات تأثير الشرق الإسلامي وبقوة موازية بصمات الغرب الأوروبي، ومن ثم وجود مفكرين إسلاميين ومفكرين علمانيين. ليست المسألة إذن قصورا في تفكير الآخر يمكن "دحضه بالمنطق" وإنما هي ترجمة كل فكر لما يعتمل داخل المجتمع من مشاريع متناقضة يجب تصريفها سلميا، بعد أن أثبتت التجربة التاريخية عبثية الأحادية وما تكلفه من ثمن باهظ من الدم والدموع. أما المفهوم الذي يدخله الشيخ "التعددية في إطار الإجماع" (الجزء الثاني ص150) فيبدو لي متناقضا حيث لا تظهر التعددية إلا لاستحالة الإجماع. هو مطالَب برفع كل التباس حتى لا يبدو -وهو المقر بوجود وشرعية التعددية- وكأنه يعطي باليد اليمنى ليسترجع باليسرى.
****
2- مادية الغرب
يقول الشيخ (ص 49)
"إن الفكر الغربي في جوهره واتجاهه العام لا يقر بغير المادة وحركتها، مما يجعل هذا الكائن المسمى إنسانا لا يعدو أن يكون لحظة متقدمة في حركة تطور المادة".
رأيي أن الشيخ لم ينظر إلا للنصف الفارغ من الكأس، هناك فعلا تيار قوي أعطى للفكر الغربي تصوره المادي للإنسان، ومن أبرز رموزه بايكون وقاليلي ونيوتن وداروين وماركس وفرويد. لكن تلك الحضارة لا تقتصر على العلوم والفلسفة والتكنولوجيا. من يتصور الغرب دون الكاتدرئيات الضخمة، مثل كاتدرائية باريس وكولن وشارتر وستراسبورغ وفلورانس، وكلها من روائع الفن المعماري العالمي، وقد استغرق بناء بعضها قرونا كاملة؟ من يتصوره دون لوحات مايكل أنغلو ورافايل ومئات الفنانين، وموضوعها الغالب صلب المسيح؟ من يعرف أن عظماء موسيقاه مثل باخ وهاندل وفيفالدي وموزار وبتهوفن وبراهمز كتبوا كلهم الموسيقى الكنائسية من نوع Messe أوRequiem. عندما يستمع التونسيون لموسيقى بتهوفن يعزفها الأوركسترا السيمفوني في المسرح البلدي دونما أدنى تنهيدة إعجاب، ملتزمين صمتا تاما، فإنهم لا يعلمون أنهم يواصلون خشوعا دينيا. فالموسيقى الكلاسيكية الغربية في جزء منها وريثة القصور وفي جزء أكبر وريثة الكنائس.
الحقيقة أن الثقافة الغربية مشبعة إلى درجة كبيرة بالدين ولها منحى روحاني عميق ومتأصل. والظاهرة قارة في كل الثقافات الكبرى، أي تواجد تيارين متناقضين الروحاني والمادي، ولو بنسب مختلفة حسب الظرف الزمني. إذا تأملنا كأسنا نحن، فسنجد أن فيه بالطبع التيار الروحاني الذي نعرف، لكن فيه أيضا التيار المادي الذي ننسب ونتجاهل، هذا التيار الذي مثله أحسن تمثيل المعري وابن المقفع وابن خلدون أو قريبا منا صادق جلال العظم.
ما يضايقني دوما في الكثير من كتاباتنا عن الغرب (القومية منها أو الإسلامية) عمق العلاقة المرضية التي تربطنا به، إذ نعمل بالمثل الشعبي "كل الغلة وسب الملة" أو بالمثل الآخر "لا نحبك، لا نطيق فراقك".
ثمة دوما في الكتابة عنه والتعامل معه إما إنكار مبالغ فيه وإما تبعية مقيتة. آن الأوان والغرب بصدد فقدان سيطرة لم تدم إلا 500 سنة (على عشرة آلاف سنة حضارة) والعالم يعود لتعددية واعدة والثورة العربية تعيدنا لساحة التاريخ، أن نخرج من هذه الثنائية لنبني معه علاقة نضج تكون أكثر استقلالية وأقل حفيظة.
****
3- علوية الإسلام في ميدان حقوق الإنسان
عنوان الكتاب هو "الحريات العامة في الدولة الإسلامية" عن أي دولة إسلامية يتحدث الكاتب: التي عرفناها طيلة 15 قرنا وكانت -ولا تزال في بعض البلدان- دولة استبدادية بقناع إسلامي، أم الدولة الإسلامية المرتقبة حتى لا أقول الخيالية؟ هل لي أن أذكر بأن العقد السياسي المبرم في تونس اليوم مع الإسلاميين هو بناء الدولة المدنية وليس بناء الدولة الإسلامية! ربما كان من الأصلح أن يكون العنوان "الحريات العامة في الإسلام" خاصة أن هذا هو فحوى الكتاب.
ما يطرح لي إشكالا منهجية المؤلف في التعاطي مع القضية هو يستعرض الحق في المساواة (ص68) وحرية العقيدة (ص70) وحرية الفكر (ص80) والحقوق الاقتصادية (ص81-90) والحق في القضاء العادل (ص 100)، ليخلص إلى أن كل هذا موجود في القرآن بل وبكيفية أشمل وأعمق مما يقدمه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فبخصوص حق المعتقد مثلا يذكر المؤلف ببعض الآيات البينات "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر" او "لا إكراه في الدين" (صدق الله العظيم). ثم يكشف بخصوص الحرية عن مصدر تفوق الإسلام على النصوص الوضعية حيث يقول "إذا كانت إعلانات حقوق الإنسان في إطار الفلسفة المادية والمذهب الرأسمالي مجرد كفالات للبرجوازية ضد الإقطاع والبابوية قد تكشفت في النهاية عما تنطوي عليه من زيف ومحدودية....... فإن تصور الإسلام للحرية لا ينطلق من طبيعة للإنسان تنبثق عنها ذاتها حقوق طبيعية كما يدعي الفكر الغربي وإنما الحقيقة التي ينطق باسمها كل شيء في هذا الكون، إنه الله خالق هذا الكون ومالكه" (ص53)
ثمة مشكلتان في مثل هذا الطرح، الأولى متعلقة برؤية الإسلاميين للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومشتقاته من عهود ومواثيق دولية، في كتاب صادره البوليس السياسي في بداية التسعينيات، عنوانه "الإنسان الحرام" ويمكن مراجعته على موقعي، قدمت قراءة للإعلان انطلاقا من دراسة تاريخية.
من يتذكر أن الصينيين هم الذين رفضوا للغربيين وللمسلمين ذكر الله في الديباجة، لكن أهل الديانات السماوية الثلاث فرضوا جملة الحقوق التي تعدها هذه الديانات مركزية في تعاليمها... إن الفاتيكان حاول أن يفرض منع الطلاق ورفض طلبه... إن السوفيات فرضوا الحقوق الاقتصادية على الغربيين لكنهم فشلوا في فرض حق الشعوب في الاستقلال والسيادة على مواردها الطبيعية (وهي الحقوق التي ستضمن لاحقا في معاهدات 1966)... إن هؤلاء فرضوا على السوفيات الحريات الفردية والعامة؟ مما يعني أن الإعلان لا يختزل في "الفلسفة المادية والمذهب الرأسمالي".
هو ليس إملاء غربيا وقل من يعرف حدة النقاشات وصعوبة عملية البيع والشراء التي رافقت صياغته، هو نتيجة وفاق صعب بين الثقافات الكبرى ومنها ثقافتنا العربية الإسلامية، فرضته ضروريات العيش المشترك في عالم متزايد الترابط، ففي ظل تعددية العالم الدينية والأيديولوجية والسياسية، وفي ظل استحالة أسلمة أو تمسيح أو تهويد... إلخ كل البشرية، واعتبارا لضرورة إيجاد أرضية مشتركة بين ثقافات متعددة، تكون تكملة ومتابعة لكل المشاريع العظمى التي جاءت بها مختلف الثقافات البشرية، لم يكن هناك من خيار غير تدبيج وثيقة مشتركة وبتزكية منها جميعا ومساهمتها في الصياغة.
مثل هذه الرؤية الموضوعية تنزع كل أسباب العدوانية المقَنعة والقبول الممتعض لبعض الإسلاميين. والإعلان كما نرى ليس منافسا أو بديلا إنما هو نص جماعي تفاهمنا عليه مع بقية مكونات العائلة البشرية لكي تكون لنا لغة مشتركة ومشاريع متفق عليها، حتى وإن بدت مغالية في المثالية والتفاؤل مثل تمكين كل البشر من حقوق ما زالوا بعيدين عنها كل البعد.
المشكلة الثانية تتعلق بالإسلام نفسه، كأن قيمته في اكتشافه لقيم حقوق الإنسان قبل كل النصوص الوضعية، وفي إرسائه لها على دعامات أصلب وأشرف، دون أن يشعر وضع الشيخ الإسلام في موضع منافسة مع نصوص لم تدع يوما أنها تؤسس لدين جديد أو أن لها أدنى قدسية. منهجية تذكر ببعض الذين كانوا يكتشفون في القرآن أسبقيته على كل اكتشاف علمي يعلن عنه وكأن قيمة القرآن تزداد باكتشافه هذه الحقيقة أو تلك قبل علماء الفيزياء والكيمياء.
إن عظمة الإسلام لا علاقة لها بسبق في هذا المضمار أو ذاك وإنما في كونه الطريق الذي ينتهجه أكثر من مليار من البشر ليمارسوا إنسانيتهم وإظهار جدارتهم بالكرامة التي حباهم بها الخالق عز وجل.
لما سئل غاندي عن سبب تعدد الأديان والله واحد، قال تصوروا أنه أعلى قمة لأعلى جبل والبشر يعيشون على السفح وهمهم الأوحد التوجه إليه. ثمة أكثر من طريق إلى القمة، من الجهة الغربية والشرقية والشمالية والجنوبية، لكنه متجه دوما إلى فوق. الرائع في هذه الصورة أن كل الطرق متساوية لأنها تتجه لنفس الهدف وأنه بقدر ما يتعالى البشر بقدر ما يقتربون بعضهم من بعض.
ربما هذا ما جعل كبار الناسكين، مهما كانت ديانتهم، يقولون تقريبا نفس الكلام، وهم يبتعدون عن السفح حيث الدين طقوس وعادات ومصالح، ويقتربون بأرواحهم وعقولهم من مصدر كل نور، لعل أبلغهم في لغتنا ابن العربي الذي قال:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة *** فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف *** وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدينِ الحب أنى توجهت *** ركائبه فالحب ديني وإيماني
****
وفي الختام..
لا الاتفاق على جملة من الأفكار ولا الاختلاف حول أخرى يغير شيئا من العلاقة التي ربطتني وتربطني بالشيخ: المودة والاحترام، ذلك لأن أهم ما جمع ويجمع بيننا الاشتراك في نفس القيم. كل الأفكار تبلى أو تتسخ ومن ثمة غيرها كما تغير ثيابك الداخلية، أما القيم فهي العلامات الثابتة عندما يضيع الطريق في الضباب ومن ثم تمسك بها تمسكك بجلدك.
المصدر:الجزيرة


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.