من كرامات الانتفاضة التونسية من كرامات انتفاضة 14 جانفي المباركة، أنّه مضى الزمن الذي كان يخاف فيه أهل الفكر والقلم من ابدأ ونشر آرائهم السياسية والفكرية خوفاً من الاضطهاد، ودليلنا على ذلك، ما ارتسم على الجبهة الفكرية في المدّة الأخيرة من مقالات دينية وعلمانية بين شرائح المفكرين والمثقفين والسياسيين، وفتح باب الحوار الموضوعي بينهم على مصراعيه، خاصة بين أهل الفكر في الأحزاب الأكثر فعالية في ساحة العمل الوطني التونسي، والذي نرجو له أن يتشعب، ويطول إلى ما شاء الله، لأنّه سيساهم بترسيخ قناعات جديدة تساعد في الوصول إلى توازن المجتمع التونسي واستقراره، وبالتالي إلى تضامن وطني حقيقي في إطار مصلحة تونس فوق كل المصالح. يظهر من قراءة المقالات العلمانية أنها تستهدف بالدرجة الأولى إرجاع السياسة إلى أهلها، وبالدرجة الثانية، إرجاع الثقة إلى عقل المواطن التونسي المتعلّم، وما أكتسبه من علوم عصرية، من دون أن تنال من إيمانه بالله، مؤكدة أن الإسلام نفسه لا يتعارض مع العلمانية الغير ملحدة. كما أشارت هذه المقالات إلى أن مجموعات لا بأس بأعدادها من الشعب التونسي ترى أن هناك علوم ومعارف حديثة تشكلت خارج منظومة الفكر الديني الذي يجب أن يبقى قوة روحية لا علاقة لها بالسياسة والاقتصاد وما شابه، وأنها لا تريد أن تتكل في شؤون دنياها على الرؤية الإسلامية، التي لم تجد فيها أجوبةً على المسائل التي تطرحها تعقيدات الحياة المعاصرة، وأن الواجب عليها أن تهبّ للعمل متكلة على تضامنها ومقدرتها المادية العلميّة مدعومة بقوتها الروحية. أمّا المقالات الدينية فقد اعتبرت أن اسلمة القوانين في تونس أمرٌ يرضي الشعب كون أغلبيته من المسلمين، والمادة الأولى من الدستور تنص على أن الإسلام دين الدولة، وطبقاً للأنظمة الديمقراطية، من حق الأغلبية أن تأخذ بالنظام الذي تراه. وقد تبين أن معظم تلك المقالات نابعة من التيارات الدينية التي تعتمد الشافعية، المالكية، الحنبلية و الحنفية كمرجع أعلى لها، إنما ما يُحزن فيها، رميها بعض المسلمين المنفتحين على المدنيّة بالمروق والبدع، كما وأنها لم تخل من بث الكره والحقد ضدّ العلمانيين التونسيين، حتى أنها دعت إلى تجريدهم من حقوقهم المدنية والسياسية على اعتبار أنهم ملحدين؟!... لا نعلم إذا كانت هذه الدعوة الكريهة نابعة من خبرة الإسلاميين التونسيين بأبناء وطنهم من العلمانيين الذين شاركوا في السلطة في العهود التي سبقت الانتفاضة، والذين عميت بصائرهم، وذهبت فضائلهم من الكرامة والوفاء والعز الوطني، وحلّت محلها الرذائل، فاستولوا على حقوق الشعب التونسي، وحولوا العلمانية إلى مذهب وثني فقدوا فيه دورهم التحرري والتنموي؟!... إنما نرى من الضروري أن نقول كلمتنا بأن العلمانية كباقي القيّم الإنسانية، العدالة، المساواة، الديمقراطية، المواطنة، التضامن والحرية، تحتاج إلى أن يلتقي مؤيدوها ومحاربوها لحوار علمي هادئ، وأن يدركوا بأنهم ليسوا بإزاء ندوة فكرية أو سياسية تنتهي بمجرد إصدار بيان أو صياغة توصيات، إنما ليؤسسوا منبراً أو إطاراً لعمل مشترك دائم يصل إلى نتائج إيجابية تتوافق عليها الأغلبية التونسية. من المعلوم أن مفهوم العلمانية أوسع بكثير من المفهوم الذي تناولته تلك المقالات، والذي يقف على حد فصل السياسي عن الديني، فهو يتجاوز ذلك إلى فصل نشاطات الإنسان الزمنية عن الدين، أسياسية كانت أم اجتماعية، ولكي يستقيم قولنا، لا بدّ لنا من سرد سريع لتاريخ العلمانية. ولدت العلمانية في مفهومها المعاصر في الدول الأوروبية الغربية بعد تاريخ طويل لم يخل من الحروب الدامية، والإنقسامات بين الشعوب ودولها ورجال الدين، إلا أنها كانت تخرج دائماً بعد كل معركة من تلك المعارك الطاحنة، بحلة جديدة تحوّل رايات الحرب إلى قيّم اجتماعية تحظى بقبول واسع النطاق من كافة مكونات المجتمع التي كانت تلتقي حول ميثاقها الذي يؤكد على استقلالية المعتقد على الصعيدين الروحاني والديني. وتاريخ العلمانية هذا لم يكن قصة سير حتمي نحو التقدم، بل كان يتسم بالغموض والإيهام في بعض البلدان مما أثار تجديد العديد من النزاعات والتصادمات العنيفة، لكن العلمانيون استطاعوا النجاح في إدراج عوامل التهدئة الدائمة ضمن المبادئ الدستورية لتلك الدول، على اعتبار أن الدولة هي الضامنة الوحيدة لحرية المعتقد والعبادة والتعبير، وبصفتها تحمي الفرد، وتسمح بحرية الخيار للجميع. ثم بذل العلمانيون جهوداَ مضنية لشرح وتفسير كيفية التوفيق بين العقائد الدينية والقوانين العامة التي تحكم المجتمع، وذلك سعياً لجعل العيش المشترك ممكناً، ولطمأنة الخواطر بين رجال الدين ومجموع العائلات الروحية ، وذلك مع مراعاة مقتضيات النظام العام. نحن اليوم في فرنسا، وهي دولة تعتمد النظام العلماني منذ زمن طويل، نشهد وجود جاليات كبيرة لشعوب مهاجرة تعتنق ديانات لم يكن لها من قبل أي تمثيل في فرنسا الغنية بتقاليدها المسيحية المتنوعة، والتي كانت تسمى : "البنت الكبرى للكنيسة" باتت اليوم تضم عدداً كبيراً من : الأرثوذكسية إلى جانب الكاثوليكية، البوذية، اليهودية، الإسلام إلى جانب أتباع الفلسفة اللأغنوصية والمفكرين الأحرار، وعدداً هاماً من الملحدين، كل هؤلاء متساوون أمام القانون بحقوقهم وواجباتهم عملاً بالمادة العاشرة من إعلان حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789 ، زمن الثورة الفرنسية، والذي ينص على: "يمنع التعرض لأي شخص بسبب آراءه وأفكاره، بما في ذلك الدينية منها، شريطة ألا يخل التعبير عنها بالنظام العام الذي أرساه القانون". هذا مختصر مفيد عن العلمانية في دول أوروبا بشكل عام، وفرنسا بشكل خاص، أمّا في عالمنا العربي، فلم تنجح العلمانية في إقامة دولتها، المدنيّة، العصرية التي تحمي الفرد من الاضطهاد حتى ولو أراد فقط التعبير عن آراءه الروحانية أو الفكرية، وبالرغم من إدعاء بعض الدول العربية بأنها علمانية الاتجاه، فقد بقيت شعوبها تعاني من الأمية، الفقر, التخلف، البطالة، عصبيات قبلية وقادة استغلوا الثروات الوطنية لحسابهم الخاص ولأفراد أسرهم والمقربين منهم. أمّا في تونس المرتبطة بشكل كبير بعالمها العربي، لا أعلن سراً لو قلت أنها تعاني كمعظم دول العالم العربي من نفس ألأمراض، ومعظم السياسيين، ورجال الدين فيها انتفعوا من النظام ذو الصبغة العلمانية الذي كان قائماً، فتحالفوا وتمسكوا بذاك النظام البائس الذي جلب الويلات على الشعب، وأنهم حاربوا كل تحرك فكري، سياسي وعسكري، ديني وعلماني، حاول نقل تونس إلى حالة أفضل اجتماعياً، اقتصادياً ووطنياً. وهنا لا نريد أن نبخس، أو نقلل من النجاحات التي حققتها الحركات الإسلامية، وبالتحديد " حركة النهضة الإسلامية"، من خلال مسيرتها حيث تغلغلت في الحياة التونسية الفكرية، التربوية، السياسية والتنظيمية، كما لا أنكر سمتها الشمولية كنظام، وهي تحمل قيّم، ومثل عليا لها قدسيّتها الإنسانية عند المنتسبين إليها. ونود أن نشير إلى أن الشيخ الفاضل راشد الغنوشي منذ عودته من منفاه البريطاني، وعلى صدى أهازيج المستقبلين:" الله كبر، الله أكبر، لا إله إلا الله"، أعلن : "إن الإسلام ليس حكراً على حركة النهضة". و " حزب النهضة يؤمن بالحريات الفردية، وحقوق المرأة ومساواتها مع الرجل". ويضيف في مناسبة أخرى أن حزبه: " مع حرية المرأة في أن تقرر ما تلبسه وتختار شريكها في الزواج ولا تجبر على أي شيء" كما دعا إلى: " حكومة تحالف وطني تضم أحزاب المعارضة ومنظمات المجتمع المدني". .. والمعروف عن الشيخ الغنوشي أنّه من العلماء الذين يقولون: " إن الإسلام يتفق مع الحداثة والديمقراطية التعددية". في هذه التصريحات يثبت الشيخ الفاضل أنّه لا يضيق ذرعاً بالقوانين التي ترعى مصالح التونسيين، وإن لم يساهم في تشريعها كأحد علماء المسلمين، فهو لا يريد أن يفرض على العباد أن يلتزموا في أمور دنياهم نهجاً معيناً سوى ذلك الذي تمليه عليهم مصلحتهم العامة، وتلهمه إرادة التطور والارتقاء، وما كانت اهتماماته التشريعية إلا ليساعد العباد على ضمان مصالحهم. هذه التصريحات تتفق مع ما يسمى بالعلمانية الحيادية، الإيجابية تجاه الأديان والإيمان، وهي ليست إلحاداً، بل هي شروط استقامة الإيمان وتحرره من التأثيرات المجتمعية والسياسية، أي أن الإنسان حرّ بمبادئه الإيمانية " فمن شاء فليؤمن، ومن شاء فليكفر" (الكهف 29) لكل شخص الحق في العمل من أجل تونس، مؤمناً بالله، أو غير ذلك، شرط أن يقبل مبادئ الآخر والتعددية. شخصياً، أنا مؤمن بالله، ومؤمن بالعلمانية الشاملة دعماً لإيماني بالله، واستمد إيماني هذا من القرآن الكريم، ومن بعض نصوص أهل البرهان من علماء الإسلام الذين ينكرون أن يكون الرسول أسس دولة إسلامية أو شرع في تأسيسها، عملاً بالآية الكريمة:" (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا)( المائدة:3)، والذين يعتبرون أنّه ليس في الإسلام سلطة دينية سوى سلطة الموعظة الحسنة والدعوة إلى الخير والتنفير عن الشر، وهي سلطة خولها الله لأي مسلم، وترك الناس أحراراً في تدبيرها على ما تهديهم إليه عقولهم وعلومهم ومصالحهم وأهوائهم ونزعاتهم، وعلى هذا جاءت سنة الرسول تقول: (أنتم أعلم بشؤون دنياكم). ويقول الإمام محمد عبده: (إن صاحب السلطة في الإسلام حاكم مدني من جميع الوجوه، والأمة هي صاحبة الحق وهي التي تخلع صاحب السلطة متى رأت ذلك في مصلحتها). حكم ديمقراطي مدني كامل. فماذا يضر التونسيون إذا اعتمدوا هذه الأسس الراقية في تعديل، تحوير وتطوير الأحكام المنتظرة المنظمة لشؤون حياتهم؟!... فكرة إقامة الدولة العلمانية الإيجابية في تونس تقع على عاتق الإسلاميين الذين يحترمون العقل الإنساني في الاجتهاد والفقه، والعلمانيين من "جبهة 14 كانون الثاني" التي تضم التنظيمات اليسارية والقومية، وبعض المثقفين، لأنه كما نعلم، يجب أن تلعب هذه القوى دوراً فاعلاً في تحريك دفة الثقافة الوطنية ، وأن تصارع من أجلها بكل ما أوتيت به إعلامياً وفكرياً، من خلال النضال عبر الأجيال، في المدارس والجامعات ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة. فقد آن الأوان لهذه القوى أن تتبنى هذه المواضيع واعتماده العامود الفقري، والأساسي في نضالهم اليومي لإنشاء المجتمع المدني المتطور ، مجتمع يتساوى به المواطنون، ويربأ لإدارة مؤسسات الدولة كل من تخوله القدرات على الإنتاج والإبداع بعيداً عن الإنتماء الديني أو الوراثي، فالنظام العلماني الحيادي والإيجابي، وحده يحمي المواطن والوطن في تونس.