تدمير منظومة التعليم المهني و التقني بالمعاهد الفنّية التي بنيت بعد الاستقلال، من وراءه و من تسبب فيه؟ لا يمكن القول في هذه الجريمة و الكارثة إلاّ أنّها مؤامرة غربيّة و صهيونيّة و قد نفّذها زعيم اليساريين صاحب نظريّة تجفيف المنابع محمد الشرفي عدو نفسه و الله و الدين و الشعب و الوطن، مع العلم أنّ أمثاله هذه الأيام كثر فهم يحسبون أنّهم يحسنون صنعا و لكنّهم من أكبر المفسدين و المخرّبين للوطن و العقول و النفوس « إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ » فكيف يرتجى الإصلاح بجماعة لها عقول و نفوس مخرّبة و ممسوخة، و قد مكّنهم نظام الرئيس المخلوع من مواقع القرار الأمر الذي جعلهم يجدون أنفسهم بعد الثورة متغلغلون في كلّ مفاصل الدولة و بالتّالي مسيطرون على المؤسّسات العمومية و الجامعية و التربوية و خاصة مؤسسات الإعلام، إنّهم يعيشون بين ظهرانينا و هم من بنو جلدتنا و لكنّهم مبهورون بالمجتمعات الغربية فهم يعيشون مجتثّون على هذه الأرض، فأجسادهم عندنا و عقولهم عند أسيادهم في الغرب و هم لا يتوانون أو يتردّدون في خدمته و تنفيذ أجنداته و برامجه، و بهم يتمكّن خبثاء الغرب و الصهيونية العالمية من التسلّل بسهولة لمجتمعاتنا من أجل تدميرها من الداخل، فتجدهم يقلّدون الغرب تقليدا أعمى من شدّة الانبهار به، و كلّ ما يأتيهم من الغرب يعتبرونه الحق المطلق الذي لا نقاش فيه و يسلّمون به و يعملون على فرضه و إسقاطه على أوطاننا و شعوبنا، فهم يعملون على تنفيذ برامج و حلول جاهزة و معلّبة و يجتهدون في تطبيق نظريّات مستوردة من أسيادهم في الغرب لا علاقة لها بمجتمعاتنا و بأوضاعنا، فتجدهم متعصّبون للإيديولوجيات المستوردة التي أثبتت فشلها عند صانعيها، بل تخلّى عنها من أسّسها و بعثها، كما أنّهم يتشدّدون في تنفيذها عندنا رغم أنّها جرّبت و أثبتت فشلها و قسورها منذ عقود و قد تخلّى عنها واضعيها، و من الغريب و العجيب أنّهم متمسّكون بتلك النظريات و الإيديولوجيّات إلى الآن و كما يقال "اللي يجرّب المجرّب لا يمكن القول فيه إلاّ أنّ عقله مخرّب" و الجماعة عندنا عقولهم مغرّبة و مخرّبة لا يرجى منها صلاح و لا إصلاح. إنّهم من أكبر المفسدين لهاته الشعوب و الأوطان، « وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَكِن لاَّ يَعْلَمُونَ (13) » و قد استعملهم بن علي و تواطئوا معه عن قصد أو غير قصد لضرب الدّيمقراطية و التعددية من حيث لا يعلمون و قد تمكّن النّظام السّابق من سحق الشعب و نشر الفساد بتواطئهم و انخراطهم معه في سحق التيار الإسلامي، و بعد تحييد هذا الفصيل المهم تمكّن بن على من الاستفراد بهم و تطويع الكثير منهم و بعد ذالك تمكّن من إضعاف الأحزاب القانونيّة المعترف بها و ضرب المشهد السياسي و صحّره و دمّره فلم نجد اليوم أحزابا جاهزة للقيادة و الحكم و استلام المشعل. و لنعود لمنظومة التعليم التقني و المهني، فهل يعقل أنّه بعد اكتمال بناء تلك المنظومة في أواخر الثّمانينات و التي أنفقت فيها المليارات بعد الاستقلال، جاءنا السيد محمد الشرفي و دمّر ما اكتمل بناؤه طيلة ثلاث عقود، و قد ارتكبت عدة أخطاء أخرى فقد اتّخذ بعض وزراء بورقيبة و بن علي عدة قرارات كارثيّة من غلق جامع الزيتونة لبناء شبكة مترو الساحل و غيرها من القرارت و على سبيل الذكر لا الحصر نذكّر بقرار إزالة شبكة الترنفاي سنة 1975 فبعد أقلّ من عشرة سنوات من اتخاذ هذا القرار الكارثة تبيّن أنّه كان قرارا خاطئا و بعد سنوات قليلة اتّخذوا قرار إعادة بناء المترو و كلّفت هاته الأخطاء، أي قرار إزالة شبكة الترنفاي و إعادة بناء شبكة المترو الخفيف مليارات على المجموعة الوطنية التي كان من الأحرى تخصيصها لمشاريع تنموية أخرى، و يجب اليوم بعد الثورة محاكمة من كانوا وراء هاته الكوارث و اتخذوا تلك القرارات المدمّرة و إن لم يكونوا على قيد الحياة. و بعد تدمير منظومة التعليم المهني و التقني و إلى حدّ اليوم منظومتي التكوين المهني و المعاهد العليا للدّراسات التكنولوجية لم تتمكّنا من ملئ الفراغ الذي أحدثه إزالة تلك المنظومة التّي أنفقت فيها المليارات و الجهود و السنوات و التّي كانت ناجحة و فاعلة في تكوين الكوادر الفنيّة و التقنيّة للاقتصاد الوطني، فقد كانت تساهم في تكوين عشرات الآلاف من التّقنيين المهرة في كل الاختصاصات و في كل الميادين التقنية، الفلاحيّة و الاقتصادية و العديد من القطاعات الأخرى المهمّة. و كل ما نشهده اليوم من تفاقم لأزمة البطالة سببه إزالة منظومة التعليم المهني و التقني، الذي انجرّ عنه إخفاق في التوجّهات و القرارات، فقد كوّنت منظومة التعليم العالي كوادر لا حاجة للاقتصاد التونسي بها، بينما أغلب القطاعات التقنية و الصناعية تشهد نقصا فادحا و واضحا من المهارات و الكفاءات، فالمشكلة مشكلة تكوين و اختيارات و تخطيط و استشراف بالأساس. إنّ من بين الأسباب الأساسيّة التي تسبّبت في انتشار البطالة و دفعت إلى ثورة الشباب هو تدمير منظومة التعليم المهني و التقني، حيث أنّه لم يعد لدينا مهارات في الاختصاصات التقنيّة و الفنيّة، كما أنّ جزءا هاما من حاملي الشهادات العليا عاجزون على تلبيّة متطلّبات سوق الشغل لعدم تطابق الاختصاصات و المهارات مع النّسيج الصناعي و العروض المطلوبة، و أقول للمشرفين و المسئولين عن التربية و التكوين، يجب عليكم من اليوم الاستعداد للمستقبل القريب و للسنوات القليلة المقبلة، و يجب أن تأخذوا في الحسبان الكارثة التي ستواجهها الصّناعة التّونسية و كلّ المجالات الاقتصادية الأخرى، فعندما يحال على التّقاعد التقنيين الذين تكوّنوا في منظومة التعليم التقني و المهني و الذين يمثّلون العمود الفقري في تسيير المؤسسات الاقتصادية الخاصة و العموميّة، عندها لن تجدوا من يعوّضهم و ربّما سنجد أنفسنا مضطرّون إلى استقدام المهارات المطلوبة من الخارج، إنّ الأمر خطير و عليكم التفكير فيه بجديّة و الاستعداد له من الآن قبل فوات الأوان و قبل أن "تقع الفأس في الرأس" كما يقولون. و تجدر الإشارة أنّه مدّة العشرة سنوات الأخيرة منظومة التكوين المهني لم تتمكّن من استيعاب طلبات التكوين بسبب إزالة منظومة التعليم التقني و المهني و بلوغ الحدّ الأعلى لطلبات التكوين، و لحلّ مشكل استيعاب طالبي التكوين تمّ الالتجاء إلى طريقة التكوين بالتّداول التّي تسبّبت هي الأخرى في ضرب الجودة و تدمير منظومة التكوين المهني المعوّل عليها في تعويض المنظومة المدمّرة بالمعاهد الفنّية، و قد وجدنا أنفسنا خلال السنوات الأخيرة بمنظومة المعاهد التكنولوجية الغير فعّالة و منظومة التكوين المهني المدمّرة بسبب سوء التصرف و الفساد في الإدارة و التسيير، و يا ليتنا حافظنا على منظومة التعليم التقني و المهني التي كانت ناجحة و متميّزة في تكوين اليد العاملة المختصّة في الكثير من المجالات و الاختصاصات، فلو بقيت تلك المنظومة قائمة و تمّت المحافظة عليها إلى اليوم لما وصلنا إلى هاته الأوضاع المزرية و لكانت أزمات التشغيل و البطالة أقلّ حدّة، و للخروج من الأزمة على المشرفين على مؤسسات التربية و التكوين إصلاح ما تمّ تدميره في أقرب الآجال. توفيق بن رمضان (كاتب و محلل سياسي)