التمديد في سنّ التقاعد بالقطاع الخاص يهدف الى توحيد الأنظمة بين العام والخاص    شوقي الطبيب يرفع إضرابه عن الطعام    عاجل/ إستقالة هيثم زنّاد من ادارة ديوان التجارة.. ومرصد رقابة يكشف الأسباب    البنك المركزي يعلن ادراج مؤسستين في قائمة المنخرطين في نظام المقاصة الالكترونية    عاجل : إدارة الترجي تمنع التصريحات لوسائل الإعلام في هذه الفترة    انتخابات جامعة كرة القدم: قائمة بن تقيّة تستأنف قرار لجنة الانتخابات    تونس: مرضى السرطان يعانون من نقص الأدوية    الرابطة الأولى: نجم المتلوي يرفع قضية عدلية ضد حكم مواجهة النادي البنزرتي    لاعب سان جيرمان لوكاس هيرنانديز يغيب عن لقاء اياب نصف نهائي ابطال اوروبا    من بينهم مساجين: تمتيع 500 تلميذ باجراءات استثنائية خلال الباكالوريا    أتلتيكو مدريد يقترب من التعاقد مع لاعب ريال مدريد سيبايوس    مجددا بعد اسبوعين.. الأمطار تشل الحركة في الإمارات    بنزرت: تنفيذ قرارات هدم وإزالة لاسوار واعمدة خرسانية    رئيس لجنة الشباب والرياضة : تعديل قانون مكافحة المنشطات ورفع العقوبة وارد جدا    مدنين: بحّارة جرجيس يقرّرون استئناف نشاط صيد القمبري بعد مراجعة تسعيرة البيع بالجملة    عاجل/ الشرطة الأمريكية تقتحم جامعة كاليفورنيا وتعتقل أغلب الطلبة المعتصمين    هام/ الترفيع في أسعار 320 صنفا من الأدوية.. وهذه قيمة الزيادة    اليوم: جلسة تفاوض بين جامعة الثانوي ووزارة التربية    4 حالات وفاة في شهرين:طبيب بيطري يحذّر من انتشار داء الكلب في صفوف التونسيين.    عبد المجيد القوبنطيني: " ماهوش وقت نتائج في النجم الساحلي .. لأن هذا الخطر يهدد الفريق " (فيديو)    وزارة التجارة تنشر حصيلة نشاط المراقبة الاقتصادية خلال الأربعة أشهر الأولى من سنة 2024    جبنيانة: الكشف عن ورشة لصنع القوارب البحرية ماالقصة ؟    صفاقس_ساقية الدائر: إخماد حريق بمصنع نجارة.    عين زغوان: حادث مرور يسفر عن وفاة مترجل وبتر ساق آخر    وزيرة التربية: ''المقاطعة تساوي الإقتطاع...تسالني فلوس نخلّصك تتغيّب نقصّلك''    المغازة العامة تتألق وتزيد رقم معاملاتها ب 7.2%    وزير الشؤون الاجتماعية يزف بشرى لمن يريد الحصول على قرض سكني    هذه حقيقة فتح معبر رأس وعودة حركة العبور..#خبر_عاجل    تونس تشهد تنظيم معرضين متخصّصين في "صناعة النفط" و"النقل واللوجستك"    الحماية المدنية: 9حالة وفاة و341 إصابة خلال 24ساعة.    حادث مرور قاتل بسيدي بوزيد..    24 ألف وحدة اقتصاديّة تحدث سنويّا.. النسيج المؤسّساتي يتعزّز    وفاة الروائي الأميركي بول أستر    الحبيب جغام ... وفاء للثقافة والمصدح    وفاة الممثل عبد الله الشاهد    أبرز اهتمامات الصحف التونسية ليوم الخميس 2 ماي 2024    الحماية المدنية: 9 قتلى و341 مصابا خلال ال 24 ساعة الماضية    غرفة تجّار لحوم الدواجن: هذه الجهة مسؤولة عن الترفيع في الأسعار    يهم التونسيين : حيل منزلية فعالة للتخلص من الناموس    بينهم ''تيك توكر''...عصابة لاغتصاب الأطفال في دولة عربية    محمد بوحوش يكتب .. صرخة لأجل الكتاب وصرختان لأجل الكاتب    نَذَرْتُ قَلْبِي (ذات يوم أصابته جفوةُ الزّمان فكتب)    مصطفى الفارسي أعطى القصة هوية تونسية    المهرجان الدولي للثقافة والفنون دورة شاعر الشعب محمود بيرم التونسي .. من الحلم إلى الإنجاز    وزيرة التربية تكشف تفاصيل تسوية ملفات المعلمين النوّاب    بطولة مدريد المفتوحة للتنس: روبليف يقصي ألكاراز    حالة الطقس ليوم الخميس 02 ماي 2024    عاجل : سحب عصير تفاح شهير من الأسواق العالمية    وفاة غامضة ثانية لمسؤول كشف العيوب في طائرات 'بوينغ'    وفاة حسنة البشارية أيقونة الفن الصحراوي الجزائري    مايكروسوفت تكشف عن أكبر استثمار في تاريخها في ماليزيا    مندوب روسيا لدى الامم المتحدة يدعو إلى التحقيق في مسألة المقابر الجماعية بغزة    طيران الكيان الصهيوني يشن غارات على جنوب لبنان    المرسى.. الاطاحة بمنحرفين يروّجان الأقراص المخدّرة    الكاف: اليوم انطلاق فعاليات الدورة التاسعة لمهرجان سيكا جاز    مدينة العلوم بتونس تنظم سهرة فلكية يوم 18 ماي القادم حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشمس    القيروان: إطلاق مشروع "رايت آب" لرفع الوعي لدى الشباب بشأن صحتهم الجنسية والانجابية    يوم 18 ماي: مدينة العلوم تنظّم سهرة فلكية حول وضعية الكواكب في دورانها حول الشّمس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بعد العدوان على غزة: حسابات الربح وثمار الخسارة :سعيد مبشور
نشر في الفجر نيوز يوم 28 - 01 - 2009


– كاتب مغربي
(في عام 1967 عرض فيلم "معركة الجزائر" عن حرب الاستقلال الجزائرية، مشهدا لقائد بالمقاومة اسمه بن مهيدي، وقد أحضر أمام مجموعة من الصحفيين الفرنسيين لاستجوابه. فسأله أحدهم: ألا تعتقد أنه من الجبن استخدام الحقائب والمسلات التي تحملها النساء، لنقل متفجرات لقتل العديد من الأبرياء في المقاهي والنوادي الليلية؟. فأجاب المقاوم الجزائري "ألا تعتقد أنت أنه أكثر جبنا قذف قنابل نابالم على قرى عزل، على ضحايا أبرياء أكثر ألف مرة؟".. "بالطبع لو كانت لدينا مقاتلاتكم الجوية، لكان من الأسهل علينا بكثير".. "أعطونا قاذفات قنابلكم، وخذوا حقائبنا ومسلاتنا." ). (1)
بعد العدوان على غزة: حسابات الربح وثمار الخسارة
بقلم: سعيد مبشور – كاتب مغربي
لم يكن العدوان على غزة حربا بالمعنى التقليدية، وعلى العكس مما روجته أغلب وسائل الإعلام الغربية، المتعاطفة دوما مع الكيان الصهيوني، فالمواجهة لم تكن بين قوتين نظاميتين متوازنتين في القدرة العسكرية واللوجيستية، ولم تكن بين تشكيلات متشابهة من حيث الرجال والعتاد، وقد لا يصح فيها حتى القول بوجود طرفين غير متكافئين، ولكنها كانت مجابهة بين إرادتين، إحداهما جبروتية مغرقة في السطوة والسادية، ممثلة بقوات العدو الصهيوني، والأخرى مسلحة بكرامتها وإيمانها بعدالة قضيتها، ممثلة في المقاومة الفلسطينية الشريفة.
وفي العادة، وعبر تاريخ حركات التحرر والاستقلال، تكتسب المقاومة شرعيتها الطبيعية من فعلها الثوري العفوي أو المنظم ضد قوى الاحتلال، وهي بالتالي في غير حاجة إلى أن يعترف بها أحد، ولا هي في فاقة إلى إجماع عليها من أي نوع، إذ أن المقاومة بعدالة مطالبها وسلامة نهجها ورشد توجهها، تخلق من حولها جوا من الإجماع التلقائي الذي لا تخرم تماسكه شطحات تجار السياسة ونخاسي الشعوب.
ولقد انتصرت المقاومة الفلسطينية بإرادتها الفولاذية، وبفضل إجماع شعبها عليها، فكان صمود أهل غزة وصبرهم عامل الحسم الأساس في المعركة، ولم تثنهم تأويلات المبطلين ولا تثبيطات المتخاذلين، مما جن معه جنون الكيان الصهيوني الدموي، لحظة إحساس قادة جيشه الغاصب بأنهم يواجهون صمود غزة وليس فقط عناصر المقاومة، فقرروا تحويل نيران دباباتهم وزوارقهم وطائراتهم إلى أجساد المدنيين العزل دون تمييز، عقابا لأهل غزة على اختيارهم الصامد، وفي الوقت الذي كانت فيه جهات سياسية وإعلامية عربية عديدة تكيل الشتائم للمجاهدين، وتنقص من قيمة صمودهم وتحاول ضربهم تحت الحزام، عمت العالم الغربي موجة منسقة من التأييد للعدوان الصهيوني، حتى ذهبت تصريحات بعضهم إلى التأييد الواضح والعلني للهجمات على غزة، كمثل التصريحات الصادرة عن ريشارد براسكيي رئيس مجلس الطائفة اليهودية بفرنسا، والذي قدر أن 95 بالمائة من يهود فرنسا هم مع السياسة الإسرائيلية الحالية ويؤيدون ما يقوم به الجيش الإسرائيلي(2)، وهو بالطبع ما أثار حفيظة قطاعات واسعة من الرأي العام الفرنسي، ورأى فيه البعض شرارة لإشعال فتنة في المجتمع الفرنسي، فيما ذهب بعض الإعلاميين إلى الاحتجاج على الولاء الآلي ليهود فرنسا إلى إسرائيل، أما في بلجيكا فكادت الدعوات التي أطلقتها اللجنة التنسيقية للمنظمات اليهودية للتظاهر يوم 7 يناير أمام السفارة الإيرانية ببروكسيل بدعوى دعمها لحماس أن تشعل فتيل أزمة حقيقية داخل المجتمع البلجيكي المتعدد، وفي باقي أنحاء أوربا والعالم الغربي كانت قوى اليمين العنصري تروج للعداون وتسنده سياسيا وإعلاميا، إلا أن مثل وجهات النظر هذه الممالئة للكيان الصهيوني سرعان ما خفتت أمام تصاعد الاحتجاج العالمي ضد العدوان من جراء التأثير الذي خلفته الصور المرعبة التي بثتها بعض وسائل الإعلام وساعدت على تعميمها وسائط الاتصال وفي مقدمتها الأنترنت والهواتف النقالة، وبفعل الأخطاء القاتلة التي وقع فيها جيش العدو، خصوصا حينما بدأ جنوده يقصفون المنازل والمدارس والمستشفيات.
وقد أعلن الكيان الصهيوني منذ بدء عدوانه الهمجي على قطاع غزة عن رغبته في تحقيق أهداف عدة من خلف العدوان، ولعل أبرز ما كان باديا فيها، ومن خلال تصريحات قادة العدو، هو القضاء على البنية التحتية للمقاومة، ووقف إطلاق الصواريخ على المستوطنات، وسد منافذ تهريب السلاح، وبعبارة أخرى أكثر وضوحا، وكما جاء على لسان تسيبي ليفني السيئة الذكر: تغيير الواقع على أرض غزة.
إلا أن مجريات المعركة على الأرض، لم تسفر عن تحقيق أي من هاته النتائج، حيث أن المقاومة، وكما يصرح قادتها، لا زالت تحتفظ ببنية تحتية قوية، لم ينل من عمقها العدوان، والصواريخ لا زالت جاهزة للإطلاق من أكثر من منطقة من القطاع وبأكثر من مدى، وأنفاق ما تحت غزة عصية على التدمير الكلي، وبالتالي فإن الواقع الذي دخلت عليه دبابات وطائرات ومجنزرات الجيش الصهيوني هو نفسه الذي خرجت على إثره، ويبدو أن لا شيء دالا على ما لوحت به ليفني من تغيير للوقائع على الأرض، التغيير الجذري المدلول، والقائم على استبدال الأوضاع والنظم وشبكة العلاقات الراهنة، وإزالة القيود والعقبات الحائلة دون تنفيذ الأجندة الصهيو-أمريكية في المنطقة، لا شيء من هذا تحقق، إلا إذا كان التغيير في عرف وثقافة الصهاينة يعني قتل وإبادة الأرواح وترويع الآمنين وتشريد السكان وتدمير المباني والمنشآت.
وبالنتيجة فالمقاومة الشديدة التي أبدتها الفصائل الفلسطينية المتنوعة بقيادة "حماس"، وكما أنها مقاومة للاحتلال والعدوان، فإنها مقاومة للتغيير بمفهومه الإسرائيلي، وقد نجحت هذه المقاومة في صد العدوان، وتثبيت الواقع بدل خلخلته، وأي تغيير قد يكون طرأ على الأرض فإنه بالضرورة نتيجة للمقاومة وليس للعدوان، وبالتالي فإن مخلفاته ستصب حتما في صالحها، ما دامت إسرائيل حسب ما يرى باتريك سيل قد سقطت في هفوة استراتيجية عميقة عندما منحت لحماس المزيد من الشرعية عوض القضاء عليها، وأعطت فرصة نادرة للوحدة عوض تعميق الانقسام في الصف العربي، وبدل تقوية قدرة الردع لديها أعطت إسرائيل لبعض القوى العربية ومعها إيران الذريعة للتسريع بعملية تحديث قواها الدفاعية، وانمحت صورة إسرائيل الملمعة في مقابل سخط متزايد على سياساتها المستهترة وغير المكترثة للقوانين الدولية (3).
لقد تغيرت لهجة العدو الصهيوني في الأيام الأخيرة للعدوان، وبدا أن الهجوم البري على المناطق المدنية الكثبفة الساكنة كان شبيها بما سمته دلفين ماتيوزون مراسلة جريدة ليبراسيون الفرنسية في القدس "لعبة بوكر"(4)، ولكن المقامر هذه المرة كان ضائعا ومرتبكا، وبلغ الذروة في الارتباك إزاء الحديث عن مراحل محتملة للهجوم البري، بدأ بعدها في استجداء الهدنة، ومن ثم البحث عن ضمانات للمزيد من محاصرة المقاومة وتضييق الخناق عليها قبل الخروج من جحيم غزة، وما توقيع الاتفاق الأمني مع الولايات المتحدة بخصوص ما يسمى تهريب السلاح، إلا دليلا على فشل خطة الإجهاز التي باشرتها القوات الإسرائيلية، فضلا عن الفشل السياسي الذريع، وهو الفشل الذي تحاول أوربا الحليفة التغطية عليه من خلال عرضها المساعدة في محاصرة غزة، وخلق فجوة في الحملة العالمية ضد العدوان، وإظهار الكيان الصهيوني بمظهر المدافع عن وجوده وأمنه الاستراتيجي، دونما إشارة ولو بعيدة إلى حق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال، في خضوع كامل لمفاهيم تروج لها إسرائيل من قبيل ما قالته تسيبي ليفني للفرنسيين في زيارتها الأخيرة لباريس من أن "إسرائيل تشكل خط الدفاع الأول للعالم الحر، ونحن نتعرض للهجمات لكوننا نمثل قيم العالم الحر الذي تنتمي إليه فرنسا"، ولعل هذه القيم هي التي دفعت بالولايات المتحدة المقبلة على العهد "الديمقراطي" إلى تسيير بواخر فرنسا، ذراعها "الجمهوري" في أوربا، إلى شواطئ غزة.
إن التحول الأبرز الذي خلقه الفشل في حربي الجنوب اللبناني وغزة، هو عودة الكيان الصهيوني إلى مواقع الدفاع عن الكينونة والوجود، وهو الخطاب الذي كان قد اختفى بفعل النجاح الإسرائيلي في إفراغ النظام الرسمي العربي من مقوماته الدفاعية وقدرته على المجابهة، أما وقد ظهر الآن على الساحة فاعلون جدد يتواجد بعضهم خارج حالة العجز العربي، فإن "إسرائيل" تضطر للعودة إلى نغمة المظلومية الفاقدة مصداقيتها بعد صحوة الرأي العام العالمي أمام محرقة غزة التي انمحى على إثرها الكثير من آثار هولوكوست النازيين إن صحت كل مزاعمه، وهو ما بدا واضحا مثلا في تعبير دوروثي كلاين رئيسة تحرير مجلة لوفيف ليكسبريس البلجيكية بقولها أن أزمة الضمير التي ارتبطت بالمحرقة النازية لا يمكن أن تعفي أبدا المجموعة الدولية من مسؤولية نقد ومساءلة إسرائيل. (5)
لقد أفرز العدوان البربري على غزة، عودة مثيرة للقضية الفلسطينية إلى الشارع العربي، وتصالحا للوجدان العربي والإسلامي مع فورة التعاطي مع القضية التي ساهمت عقود التسوية في تماهيها مع رتابة الواقع العربي والإسلامي الرديء، وتأكد للكيان الصهيوني قبل غيره، ما عبر عنه روبرت باير مسؤول المخابرات الأمريكية السابق حين قال: "حماس هي فكرة، لا منظمة" (6)، إنها فكرة المقاومة الحرة التي تتجاوز حماس "الحركة" إلى حماس "المُحَركة"، ويمتد تأثيرها إلى كل صاحب ضمير يحيا وقلب ينبض، وينتفض بموازاتها الشارع الغربي بشكل غير مسبوق، مخترقا الجدران الإعلامية العازلة التي صنعتها الآلة الدعائية الصهيونية طوال عقود، مستنكرا لقتل المدنيين العزل، ومطالبا بمحاكمة من أعطوا الإشارة باستعمال الأسلحة المحرمة دوليا، ومن اتخذوا قرار إبادة الرضع وأمهاتهم، والتلامذة ومعلميهم، والصحفيين وآلات تصويرهم، وزاد من تأزيم الموقف الإسرائيلي قرار فنزويلا ومن بعدها بوليفيا بتجميد علاقتها مع تل أبيب.
واستطاعت غزة توحيد الأصوات والمطالب والعناوين بين فلسطينيي الداخل، وفلسطينيي أراضي ما يسمى بالسلطة الفلسطينية، وفلسطينيي الشتات، وهي العناوين التي تدعمت بالإسنادين التركي والإيراني على الخصوص، مما أفقد أطرافا عربية كانت إلى وقت قريب صاحبة حق الانفراد الحصري بالمسألة الفلسطينية، فرصا مهمة كان يمكن أن تسثمرها كآلية لرفع سقف التفاوض العربي الإسرائيلي، واستصحاب المقاومة كورقة ضغط لدى الفاعل السياسي والديبلوماسي العربي، وفي المقابل نضجت الظروف أكثر لتفعيل الدور التركي أوربيا على الخصوص، وتحويل أنقرة إلى بوابة لا يمكن للعمل الأوربي في المجال الشرق أوسطي أن يمر إلا من خلالها، فيما تعززت فرضيات دخول أوباما في حوار مباشر مع طهران من معابر غزة.
وإذن فعلى المستوى العربي، ضاعت مرة أخرى فرصة استثمار الضعف الإسرائيلي في اتجاه تغيير معادلة الصراع، وبناء موقف عربي موحد، قوامه الأساس فرض احترام العالم لحق الشعب الفلسطيني في التحرر، وحقه في المقاومة، واعتبار المقاومة خزانا استراتيجيا في أي عملية مفاوضات، وعدم تمرير أي خطاب آخر موضوعه السلام من لدن الولايات وإسرائيل دونما تعريب كامل للشروط اللازمة لإقامة أي شكل من أشكال التهدئة أو المباحثات، وعدم القيام بما أسماه دنيس سيفر رئيس تحرير مجلة بوليتيس الفرنسية "مسحا" بالإسفنج لكابوس امتد اثنين وعشرين يوما(7)، وتوسيع دائرة الدور الإسلامي بانضمام تركيا وإيران وغيرها، والتلويح ولو رمزيا، ومن باب حفظ ماء الوجه، بوريقات قطع إمدادات النفط عن الغرب ووقف التعاون في ملف الهجرة السرية نحو أوربا، والتملص من التزامات مشاريع مكافحة ما يسمى بالإرهاب مثلا، لكن، ومع الأسف الشديد لم تصل التحركات العربية حتى إلى المدى المتوسط مما وصل إليه أطباء النرويج وساسة أمريكا اللاتينية وحتى أطفال العالم العربي والإسلامي.
أما فلسطينيا، ومع ضبابية الملسكية التي نهجها محمود عباس إزاء العدوان، كبرت الفجوة بالتأكيد بين سلطة رام الله وبين مشروع التحرير الفلسطيني الأصيل، وبدا عباس أكثر ارتباطا بالمحور العربي "العبر- أمريكي" منه إلى نبض الشارع الفلسطيني، الذي ترحم بعضه على أيام الرئيس الراحل ياسر عرفات، وعلى الرغم من دخول كتائب الأقصى كشريك في المقاومة داخل غزة، تباينت ردود فعل القادة الفتحاويين تجاه ما جرى، كنتيجة فعلية لحالة الترهل التي تمر منها كبرى فصائل منظمة التحرير، وبدا أن زمن التسويات الزهيدة قد مضى إلى غير رجعة، بما فيها اتفاقات أوسلو التي كان يفترض حسب البروفيسور الإسرائيلي أورن يفتاحئيل، أن تكون "دربا للسلام"، فتحولت إلى "درب آلام" (8)، وبالتالي غدا الحديث فلسطينيا عن أي أجندة غير تلك المرتبطة بالوحدة في ظل المقاومة، تغميسا خارج صحن الواقع على الأرض، والمطلوب هو التحرك بعقلية وذهنية المنتصر في معركة كانت كل الفصائل شريكا في كسبها، وتجنب أية مواقف قد تحول النصر الميداني، إلى هزيمة سياسية واستراتيجية، خصوصا وأن ما يجري إسرائيليا الآن هو حوار فعلي مع المقاومة وإن بوساطة مصرية أو غيرها، وهو نفس الحوار الذي تسعى إليه أوربا والولايات المتحدة، وليس أمام باقي أطراف الساحة الفلسطينية سوى التماهي مع الطرح القديم/الجديد لحرب التحرير الشاملة البعيدة المدى، التي يخوضها صف فلسطيني صلب، وجسد وطني متماسك، يحمل في يمناه البندقية، وتلوح يسراه بغصن الزيتون.

هوامش:
1- الحرب على غزة: وإذا حاربت حماس بمقاتلات أمريكية، وإسرائيل بصواريخ منزلية؟ بقلم ثاليف ديين عن موقع وكالة "آي بي إس IPS"
2- انظر مثلا عدد 612 من مجلة Marianne الفرنسية بتاريخ 10- 16 يناير 2009
3- ينظر مقال باتريك سيل في ص 46 و 47 من مجلة جون أفريك Jeune Afrique عدد 2507 بتاريخ 25 إلى 31 يناير 2009
4- الطبعة الثانية من العدد 8607 من جريدة ليبراسيون الفرنسية Libération بتاريخ الخميس 8 يناير 2009
5- افتتاحية العدد 3001 من جريدة لوفيف إكسبريس le Vif l'Express بتاريخ 9 إلى 15 يناير 2009
6- حوار مع موقع وكالة "آي بي إس IPS".
7- افتتاحية العدد الجديد 1036 من مجلة Politis.
8- نقلا عن مجلة المشهد الإسرائيلي الصادرة عن المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية عدد 202 بتاريخ 13 يناير 2009.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.