رئيس الجمهورية يركّد على ضرورة انسجام العمل الحكومي    قيس سعيّد: "لا وجود لأي مواجهة مع المحامين ولا أحد فوق القانون"    لجنة التربية والتكوين المهني والبحث العلمي تبحث تنقيح قانون التعليم الخاص    درجات الحرارة ليوم الخميس 16 ماي 2024    نمو مستمر للإسلام في فرنسا    يوميات المقاومة .. تحت نيران المقاومة ..الصهاينة يهربون من حيّ الزيتون    جلسات استماع جديدة ضد الصهاينة في محكمة العدل ...الخناق يضيق على نتنياهو    العدوان في عيون الصحافة العربية والدولية ..أمريكا تواصل تمويل حرب الإبادة ..دفعة أسلحة جديدة بقيمة مليار دولار    عاجل: بطاقة إيداع بالسجن في حق المحامي مهدي زقروبة ونقله إلى المستشفى    متابعة سير النشاط السياحي والإعداد لذروة الموسم الصيفي محور جلسة عمل وزارية    بعد تعرضه لمحاولة اغتيال.. حالة رئيس وزراء سلوفاكيا خطيرة    عقارب: أجواء احتفالية كبرى بمناسبة صعود كوكب عقارب إلى الرابطة المحترفة الثانية.    ايقاف مؤقت لبرنامج Emission impossible على اذاعة إي إف أم    ينتحل صفة ممثّل عن إحدى الجمعيات لجمع التبرّعات المالية..وهكذا تم الاطاحة به..!!    الكشف عن شبكة لترويج المخدرات بتونس الكبرى والقبض على 8 أشخاص..    دعوة الى إفراد قطاع التراث بوزارة    أولا وأخيرا .. «شي كبير»    سليانة: إلقاء القبض على سجين بعد فراره من أمام المحكمة    صفاقس: اشتباكات بين المهاجرين غير النظاميين فيما بينهم    القرض الرقاعي الوطني 2024: تعبئة 1،444 مليار دينار من اكتتاب القسط الثاني    البنك الاوروبي لإعادة الإعمار والتنمية يتوقّع انتعاش النمو في تونس    أمراض القلب والجلطات الدماغية من ابرز أسباب الوفاة في تونس سنة 2021    الديوانة تطلق خدمة التصريح بالدخول الخاص بالإبحار الترفيهي    مندوبية التربية بقفصة تحصد 3 جوائز في الملتقى الوطني للمسرح بالمدارس الاعدادية والمعاهد الثانوية    عاجل : أحارب المرض الخبيث...كلمات توجهها نجمة'' أراب أيدول'' لمحبيها    أغنية صابر الرباعي الجديدة تحصد الملايين    بمناسبة عيد الأمهات..البريد التونسي يصدر طابعا جديدا    الإعلان عن تركيبة الإدارة الوطنية للتحكيم    حاحب العيون: انطلاق فعاليات المهرجان الدولي للمشمش    الفلاحون المنتجون للطماطم يطالبون بتدخل السلطات    مكثر: وفاة شاب واصابة 5 أشخاص في حادث مرور    مجلس عمداء المحامين يصدر بيان هام..#خبر_عاجل    في اليوم العالمي للأسرة: إسناد 462 مورد رزق لأسر ذات وضعيّات خاصة ب 15 ولاية    قطر تستضيف النسخ الثلاث من بطولة كأس العرب لسنوات 2025 و2029 و2033    لاعب الأهلي المصري :''هموت نفسي أمام الترجي لتحقيق أول لقب أفريقي ''    وفاة عسكريين في حادث سقوط طائرة عسكرية في موريتانيا..#خبر_عاجل    وزير الشؤون الدينية يؤكد الحرص على إنجاح موسم الحج    على هامش الدورة 14 لصالون للفلاحة والصناعات الغذائية صفاقس تختار أفضل خباز    وزير الفلاحة يعرب عن إعجابه بصالون الفلاحة والصناعات الغذائية بصفاقس    قضية سرقة وتخريب بمصنع الفولاذ: إصدار بطاقات إيداع بالسجن في حق 7 أشخاص    أكثر من 3 آلاف رخصة لترويج الأدوية الجنيسة في تونس    علاجات من الأمراض ...إليك ما يفعله حليب البقر    من بينهم طفلان: قوات الاحتلال الصهيوني تعتقل 20 فلسطينيا من الضفة الغربية..#خبر_عاجل    وزارة المالية تكشف عن قائمة الحلويات الشعبية المستثناة من دفع اتاوة الدعم    وزير الرياضة في زيارة تفقديّة للملعب البلدي بالمرناقية    صورة/ أثار ضجة كبيرة: "زوكربيرغ" يرتدي قميصًا كُتب عليه "يجب تدمير قرطاج"..    ما حقيقة سرقة سيارة من مستشفى القصرين داخلها جثة..؟    عاجل - مطار قرطاج : العثور على سلاح ناري لدى مسافر    أنشيلوتي يتوقع أن يقدم ريال مدريد أفضل مستوياته في نهائي رابطة أبطال أوروبا    الأهلي يصل اليوم الى تونس .. «ويكلو» في التدريبات.. حظر اعلامي وكولر يحفّز اللاعبين    اليوم إياب نصف نهائي بطولة النخبة ..الإفريقي والترجي لتأكيد أسبقية الذهاب وبلوغ النهائي    أول أميركية تقاضي أسترازينيكا: لقاحها جعلني معاقة    قابس : اختتام الدورة الثانية لمهرجان ريم الحمروني    مفتي الجمهورية... «الأضحية هي شعيرة يجب احترامها، لكنّها مرتبطة بشرط الاستطاعة»    أولا وأخيرا: نطق بلسان الحذاء    مفتي الجمهورية : "أضحية العيد سنة مؤكدة لكنها مرتبطة بشرط الاستطاعة"    عاجل: سليم الرياحي على موعد مع التونسيين    لتعديل الأخطاء الشائعة في اللغة العربية على لسان العامة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشروع الثقافي للدولة العلمانية في العالم الإسلامي التداعيات والمخاطر(ج3)
نشر في الفجر نيوز يوم 14 - 08 - 2009


الفجرنيوز فريد خدومة
المشروع الثقافي للدولة العلمانية في العالم الإسلامي التداعيات والمخاطر(ج2)
المشروع الثقافي للدولة العلمانية في العالم الإسلامي التداعيات والمخاطر(ج1)
1- المركزية الغربية – اشكالية التكون و التمركز حول الذات: د عبد الله ابراهيم.
2- نفس المصدر.
3– نفس المصدر.
إن المتتبع لتطور ثقافة الغرب التى أقام عليها الحضارة المعاصرة ينتهي إلى نتيجة مؤكدة مفادها أن هذه الثقافة هي ثقافة عنف وإرهاب واستئصال. وأن الإنسان الغربي بحكم تأصل نزعة البربرية والتوحش فيه هو أكثر الناس من بين كل أو جل الأمم والشعوب توقا لإراقة الدماء لما يبدوأنه واجد فيه من لذة ومتعة ومنفعة يبدو أن الأغلبية العظمى من أفراد شعوب الغرب هم من السادية، إذا ما استثنينا بعض السالمين من هذا المرض والذين لا يخلو منهم أي مجتمع وأي شعب ولا تخلو منهم أي أمة. ولعل من بين القواسم المشتركة بين الصليبيين القدامى، على ما كان بينهم وبين اليهود من عداء، وبين الصليبيين الجدد واليهود وما أصبح بينهم من ود، هو التوق الشديد إلى إفناء الآخر غير المعمد والذي ليس من "شعب الله المختار"وتدميره. وهذا ما يؤكده التاريخ القديم والحديث.
إن الذي لا شك فيه أن هذا القول يبدو مستهجنا، وهذه الاحكام مبالغ فيها وخاطئة لدى البعض، وربما لدى الكثيرين، على اعتبار أن الذي أصبح سائدا في الأوساط المختلفة من العالم اليوم، أن هذه الحضارة هي حضارة عقل وعلم وتقنية، وحضارة حرية و ديمقراطية ومساواة وحقوق إنسان، وما من أحد أنكر هذه المبادئ والقيم والآليات وهذه الحقيقة النسبية، والتي أصبح مختلفا فيها، وبدأت تحول حولها الشكوك، وتلاحقها المطاعن، بل ويتأكد من خلال الأحداث عدم صحتها على النحو الذي كان يعتقد أنها كانت عليها قبل عقود، وعدم صدق الغرب في تعميمها على النحو الذي هي عليه في أوطان شعوبه، والتي كانت أساس حضارته، والتي يعتقد ويروج على أنه لابديل لأي كان عنها لكسب رهان الحضارة والمدنية والتطور والحداثة. ولذلك فهو لا يريدها في ما عدى ذلك من الأماكن في العالم إلا استبدادية فاسدة، ويعمل على فرضها بالقوة على ذلك المعنى. وانطلاقا من تلك المبادئ والقيم والمناهج العلمية والعقلانية و النظر إليها على المعاني السامية التي يروج لها الغرب وأتباعه وصنائعه ومواليه، فإن كل ذلك لا يحول دون اعتبار أن الأساس الثقافي والفكري الفلسفى والأدبي لهذه الحضارة هو أساس استئصالي إرهابي، وأن تلك القيم والمبادئ والآليات نفسها إنما يقع رفعها والمنادات بها وتوضيفها باتجاه إخفاء الآخر وقهره واحتوائه وإدماجه أو تصفيته وإبادته.
وليس صحيحا أن الغرب قد أوجد، في إطار حركة التجديد المتواصلة التى يقوم بها، قطيعة حقيقية وتامة مع التراث اليوناني الإغريقي في العصر الكلاسيكي، ولا مع التراث المسيحي الكنسي أو اليهودي التوراثي في العصر الوسيط ، ولامع آداب وثقافة بداية عصر النهضة، بل ولا حتى مع تراث أوروبا البربرية قبل تنصيرها. صحيح أنه أقام أوضاعا في أوطانه وبين شعوبه على أحسن ما في ذلك من آداب وقيم و مبادئ قد انتقلت أكثر ما انتقلت له عن طريق الحضارة العربية الإسلامية، وهو الذي أحسن الإستفادة مما نقل له المسلمون من كل ذلك، في إطار قيم الإسلام ومبادئه وآدابه وثقافته العقلانية التنويرية ومناهجه والنتائج العلمية لأبحاث علمائه من غير أن يقيم وزنا ولا يعير اهتماما وبخلفية صليبية للأساس الديني الذي انبنى عليه، ولكن علاقته بالآخر المخالف له في اللون وفي الدين وفي الثقافة والحضارة مازالت علاقة عنصرية وتفوق واستغلاء وهدم واحتواء.
مازال الغرب الصليبي اليهودي على ثقافة القرن الخامس عشر والقرن السادس عشر مرورا بما بعدهما من القرون التى كانت قرون غزو واحتلال واجتياح، وانتهاء إلى ماهي عليه الأوضاع في العالم اليوم، في تصور جديد للإستعمار، وطرق وأساليب جديدة لعودته العسكرية الجديدة، ولكن بلغة أخرى وشعارات أخرى وبتكتيكات أخرى تبدو جديدة، ولكنها كذلك قديمة. ونحن اليوم أمام مشهد يعاد فيه القديم نفسه. فموضوع السيطرة على الآخر هو قضية استرتيجية يتمركز حولها الفكر الغربي والثقافة الغربية وهي روح الحضارة الغربية منذ نشأة هذا الفكر وهذه الثقافة، ومنذ أن بدأت هذه الحضارة في الظهور.
ومجرد مقاربة بسيطة بين القديم والحديث، أي بين الفكر الإستعماري القديم والثقافة الإستعمارية الحديثة يزول الإلتباس ويتضح المشهد. ف"في كل مرة يثار فيها أمر السيطرة على الآخر( موضوع الإستعمار) يحدث خلاف بصدد الأسبقية التى تدفع المستعمرين لاحتلال البلدان الأخرى ، هل هو المال أم الرسالة الأخلاقية(...) فإدخال الآخر في منظومة قيم المستعمر، و بخاصة الدينية يضعه وإلى الأبد تحت طائلة مديونية أخلاقية لذلك الذي يعتقد أنه أضاء روحه وخلصها من الدنس والخطيئة وكل هذا سيوغ استغلاله والقبول الضمني بما يفعله الآخر به، في هذا الموضوع كشف كولومبوس عن ذكاء متوقد يؤهله فعلا أن يكون رائدا في مجال الفكر الإستعماري كما كان يرغب بذلك هو نفسه. للتغبير عن هذه النزعة، يكتب لملك إسبانيا و زوجته قائلا أنه بنجاح حملته فإنهما " سوف ينجحان في تحويل جماهير غفيرة إلى ديننا المقدس في الوقت الذي سوف تكسبان فيه لجموع شعوب إسبانيا مقاطعات وثروات عظيمة" هذا الربط بين الحصول على الثروة ونشر الدين المسيحي يتردد كثيرا في خطابه"(1)
إن الذي تغير في ثقافة حركة الإستعمار الغربي الصليبي اليهودي هي الأساليب والآليات والطرق والوسائل، وحتى التغير الحاصل في هذا المستوى لا يعدو أن يكون تغيرا شكليا وجزئيا. أما الأهداف فهي دائما واحدة، قتل الآخر و استئصاله وتصفيته جسديا، أو معنويا عن طريق حركة التبشير والمبشرين بفرض عقيدة المسيح عليه ونهب الثرواة.
" ومهما تعددت أشكال المبدأ الأخلاقي وأنماط الثروة وستأخذ العلاقة فيما بعد شكل تبادل سلعي".
"فالإسبان يقدمون الدين ويأخذون الذهب أو بتعبير دوبريه " ذهبك مقابل إلهي"(2)
إن الذي لا شك فيه أن استراتيجية حركة الإستعمار واحدة. فهي تقوم على هدم البني الثقافية والعقائد والأنماط والأنساق الحضارية للآخر، لتعرض عليه ثقافة وحضارة، ولما لا ،عقيدة الرجل الأبيض لتكون الثقافة هي ثقافة الإنسان الغربي الأبيض ولا شيء غير ذلك، ولتكون الحضارة هي حضارة الرجل الأبيض و لا شيء غير ذلك لأن التاريخ حسب غوبينو "...لا يخرج إلا من تماس العروق البيضاء"(3 ) ،
فقد ترك غوبينو هذا كتابا بعنوان " بحث في تفاوت العروق البشرية" الذي ذهب فيه " إلى أن التفاوت
1- المركزية الغربية – اشكالية التكون و التمركز حول الذات: د عبد الله ابراهيم.
2 - نفس المصدر
3 – نفس المصدر.
بين الأعراق موافق لنظام الطبيعة ولا يمكن لأحد أن يعارض ذلك "(1)
وحسب رأيه فإن العروق الدنيا غير مؤهلة للحضارة إنما خلقت لتخدم بوصفها عبيدا كآلات حية،كحيوانات جر ل"العروق العليا".
هذا الإيمان بالتفوق العرقي، واعتبار المسيحية دينا متفوقا بصورة مطلقة، والتاكيد على" أن المسيحية هى أعلى تظاهرة ثقافية "(2 ) هو الذي يمثل روح الثقافة الغربية التى هي الأساس النظري فكريا وفلسفيا وشعوريا وأخلاقيا للحضارة المعاصرة التى لا يراد لها إلا أن تكون حضارة الرجل الغربي الأبيض، والتى ينظر إليها ويتعاطى معها على أنها كذلك، ويعمل الغرب الصليبي مع حليفة الإستراتيجي اليهودي على إعطائها بعدا إنسانيا على خلفية أن إنسانية الإنسان لا تتمثل ولا تتجلى إلا في الإنسان الغربي الأبيض، هكذا بكل عنصرية. وأن التاريخ قد انتهى إلى هذه النتيجة التى وصل بها إلى الصورة الكاملة، وهي المرحلة التى اكتملت فيها صورة الإنسان الغربي الأبيض. يقول قوبينو في دراسة الأعراق والأجناس وكيفيات استخلاصها وانتخابها لتكون لها الريادة وتجتمع لديها مواصفات التفوق التى تجعلها جديرة بحكم طبيعتها بالقيادة والريادة." الفحص الأولى يبرز واقعة هامة: العرق الأبيض لا يظهر قط في الحالة البدائية التي ترى فيها العروق الأخرى منذ اللحظة الأولى يبدو مثقفا نسبيا ومالكا العناصر الرئيسية لحالة عليا ستنمو فيها بعد باغصانها المتعددة لتفضي إلى أشكال متنوعة من الحضارات".(3) وهذا التصور يتفق تماما مع منطق أرسطو" حينما قسم الأفراد إلى "حر بالطبيعة" و"عبد بالطبيعة" ذلك إنما " الطبيعة وهي ترمى إلى البقاء، هي التى قد خلقت بعض الكائنات للإمرة وبعضها للطاعة إنما هي التى أرادت أن الكائن الموصوف بالعقل والتبصر يأمر بوصفه سيدا كما أن الطبيعة هي أيضا التى أرادت أن الكائن الكفء بخصائصه الجثمانية لتنفيذ الأوامر يطيع بوصفه عبدا وبهذا تمتزج منفعة السيد ومنفعة العبد.(4)
هذه الثقافة الإغريقية القائمة على ثنائية الحر والعبد والسيد والرقيق والإغريقي والبربري، ذلك أن كل من ليس إغريقيا هو في الثقافة اليونانية السائدة بربريا، وهو نفس المنطق الذي نسمعه اليوم من زعماء العواصم الغربية الذين يعتبرون أن أي عمل أو أية ردة فعل عنيفة دفاعا عن النفس مقابل ما يسلطونه على العالم المستضعف من إرهاب وتتكيل وقتل وإبادة هو بربرية وتوحش وليس ذلك إلا استنادا منهم إلى خلفية ثقافية تعتبر، بحكم مسألة التأصيل الثقافي للحضارة الغربية المعاصرة في اليونانية والرومانية الوثنية فالمسيحية أنه من حق الإنسان الغربي الأبيض فقط أن يمارس العنف والإستئصال والإبادة الجماعية والتطهير العرقي ضد الأعراق والأجناس الأخرى التى بحكم طبيعتها لا يمكن أن ترتقي إلى المستوي الثقافي والعقلي والحضاري والعلمي الذي لا تصطفي اليه " الطبيعة" إلا العروق البيضاء. والذي زاد هذه
1 - المركزية الغربية – اشكالية التكون و التملك حول الذات: د عبد الله ابراهيم
2– نفس المصدر.
3 – نفس المصدر.
4 – نفس المصدر.
الثقافة عنصرية وشعورا لدى أهلها بالتفوق والإستعلاء، هو التحاق أو التقاء الثقافة الثوراتية اليهودية بالثقافة الإغريقية اليونانية والثقافة الرومانية الوثنية فالمسيحية والتى تقوم كلها على الوثنية وتعدد الآلهة والقول فيها بصراعها بعضها مع بعض، وبصراع الإنسان معها، وبصراع الإنسان مع أخيه الإنسان، وبعقائد حلول الناسوتي بالاهوتي واللاهوتي بالناسوتي إلى درجة الإنتهاء بالعلاقة إلى علاقة الأبوة والبنوة بعضهما ببعض. كل هذا النسيج الذي يحكمه الكثير من التجانس وفيه الكثير من التماثل والتشابه والتقارب، هو الذي شكل ثقافة العصر التى كان لليهود دور مهم فيها. ولذلك جاء تبرير الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن في حربه المعلنة على العروبة والإسلام ودعمه المتواصل اللامشروط للكيان الصهيوني الفاشي الغاصب في فلسطين المحتلة لأنهم شركاءهم في الحضارة، وأنهم الوحيدون الذين استطاعوا أن يقيموا نظاما ديمقراطيا في المنطقة. هذه المنطقة نفسها هي التي سقطت فيها كل الأقنعة وسقطت فيها ورقة التوت عن الجميع وبدوا على حقيقتهم لا تخفى منهم خافية لما اختار الشعب الفلسطيني حركة المقاومة الإسلامية "حماس"في انتخابات ديمقراطية حرة نزيهة لم يستطع أي طاعن أن يطعن في نزاهتها وشفافيتها وفي التعبير الحر الذي جاءت به عن إرادة هذا الشعب، وتبين أنه لا الغرب الصليبي الصهيوني ولا صنائعه من مختلف مكونات الحركة العلمانية اللائكية في فلسطين المحتلة وفي المنطقة العربية وفي العالم الإسلامي عموما يريدون لشعوب هذه الأمة كلها حياة ديمقراطية صالحة، وسرعان ما تنادت هذه القوى الشريرة المعادية لهوية الأمة ولحريتها واستقلالها لضرب حصار ظالم جائر يعبر عن عنجهية وتخلف وانحطاط لا مثيل له على الشعب الفلسطيني من أجل اختياره الحر ومن أجل اختياره للديمقراطية ومن أجل إقامة أول نظام ديمقراطي في المنطقة العربية الموبوءة بأنظمة استبدادية فاسدة شهدت به هي نفسها عن نفسها، ومن أجل إنهاء تلك الكذبة والمغالطة القائلتين بأن"دولة" العصابات الصهيونية هي"الدولة" الديمقراطية الوحيدة بها.وقد جاءت صورة التآمر الدولي والإقليمي العربي والعلاقات المستمرة والتنسيق المباشرة بين النظام الإمبريالي الإستعماري الصليبي الصهيوني في الغرب والأنظمة العلمانية الهجينة الإستبدادية العبثية والتقليدية العدمية الفاسدة وأغلب وأهم مكونات الحركة العلمانية الهجينة وضوحا أكثر من أي وقت مضى من أجل إجهاض أي محاولة لأي مشروع تحرري تقوم به أي جهة أو أي طرف إصلاحي تحرري. هذه المنطقة التى زرع فيها الصليبيون الجدد ما أصبح بفعل عربي ودولي دولة عبرية يحدوه حرص متواصل على الإبقاء عليها قوية بل الأقوى في المنطقة، وأقاموا فيها أنظمة استبدادية فاشية فاسدة مازالوا ملتزمين بدعمها وحمايتها ورعايتها والإبقاء عليها ضعيفة تابعة.وما زال في استراتيجيتهم منع أي طرف من إحداث أي نقلة نوعية في حياة شعوب المنطقة العربية خاصة وفي أوطان شعوب أمةالعرب والمسلمين عامة.
إن هذا التفوق الغربي العنصري الذي تؤكد عليه مختلف الثقافات التى شكلت النسيج الفكري والزاد المعرفي للغرب الصليبي قد ازداد خطورة وتعقيدا منذ أن أصبحت ثقافة التوراة جزءا منه. هذه الثقافة المستندة إلى ما يحيله اليهود من قول إلى الثوراة " أن الله رب الكون الأوحد- خلق الناس جميعا ليفضل عليهم الإسرائليين شعبا، ويختارهم منهم، وبذلك يكون الكون قد أشرف على غايته ويكون بنو إسرائيل هم هذه الغاية. وهكذا انغلق الوجود عند الإسرائليين وعليهم وأصبح مجرد مداعبة بين الخالق وبينهم إن رضي
عنهم سوّدهم على الشعوب وحكمهم فيها وإن لم يرض فعل العكس."(1)
ففي التصور التوراتي اليهودي" أن الله سبحانه خاص بالإسرائليين وحدهم ومن ثم فقد ارتسموه شيخا لقبيلتهم وتصوروه على واحد منهم" "وتلا ذلك ظهور فكرة الشعب المختار بمعنى اختيار التشريف لا اختيار التكليف"(2) بعدما أصبحت تشير إليه أدبيات اليهود من أن إلاهههم يهوه قد صارع كل الآلهة عند جبل صهيون فصرعها بمساعدة شعبه جميعا ومنذ ذلك الحين أصبح اليهود الشعب المختار وأصبح سائر الخلق من بني البشر لا حاجة لليهود ولإلههم بوجودهم إن لم يكونوا في خدمتهم وتلك هي الغاية التى خلقوا من أجلها فهم مقابل اليهود لا قيمة إنسانية لهم ولا يصلحوا إلا أن يكونوا عبيدا ليهم " قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك و منهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائما ذلك بإنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل و يقولون على الله الكذب وهم يعلمون".(3 )
وليس من قبيل الصدفة أن يكون ذلك مثل موقف " أحد الآباء الدومنيكان" توماس أورتيث" أو قريبا منه " في تقرير مرفوع إلى مجلس جزر الهند الغربية " في وصف الهنود " بأنهم (...) لوطيون أكثر من أي أمة أخرى، وليس عندهم عدل... وهم أغبياء وسفهاء وهم لا يحترمون الحقيقة إلا عندما نعود عليهم بفائدة... وهم ناكرون للجميل جدا ...ولا توجد عندهم أية طاعة ،أية مراعاة من جانب الصغار للكبار ولا من جانب الأبناء للآباء..."(4 )
وإذا كان ذلك صحيحا لحالة التوحش التى كانوا عليها فإن ذلك لا يقوم مبررا لتصفيتهم أو استئصالهم أو سوء معاملتهم خاصة من طرف الأسبان آنذاك وهم المتحضرون وحاملوا رسالة المسيح عليه السلام للناس وقادمون للعالم بحضارة راقية، حضارة إنسانية يزعمون أنها تقوم على مبادئ الحق والعدل والفضيلة، وداعية إلى قيم العدل والحرية والأخوة والمساواة.
" ومادمنا نهدف هنا إلى استكشاف أبعاد الصورة التى ركبت للهنود في خطاب الفاتحين الإسبان سواء كانوا قادة أو مبشرين أو فلاسفة أومؤرخين، فمن المفيد الوقوف على تصور"العلامة والفيلسوف سيبولبيدا" الذي يرتب التفاوت بين البشر إلى حالة طبيعية للمجتمع البشري لأن التفاوت يقوم على مبدإ واحد وحيد: سيادة الكمال على النقص والقوة على الضعف والفضيلة السامية على الرذيلة واستنادا إلى هذا المبدا يصدر حكم القيمة الآتي في التبصر كما في الحنكة وفي الفضيلة كما في الإنسانية يعتبر هؤلاء البرابرة أدنى مرتبة من الإسبان بالدرجة التى يعتبر بها الضغار أدنى من الكبار والنساء أدنى من الرجال فبينهم وبين الإسبان

1- تاريخ الوجودية في الفكر البشري: المستشار محمد سعيد الشماوي.
2 – نفس المصدر.
3 – آل عمران:75 .
4- المركزية الغربية – اشكالية التكون و التمركز حول الذات: د عبد الله ابراهيم.
قدر من الإختلاف كذلك الذي بين الناس الذين يتميزون بالوحشية وبالقسوة والناس الذين يتميزون برأفة بالغة بين الناس الجامحين بدرجة هائلة و الناس المعتدلين الكيسين بل إني لأجرؤ على القول أن بينهم قدرا من الإختلاف كذلك الذي بين القرود والبشر".(1)
أما "أوبيدو" فإنه يرى أن قتل الهنود هو أكبر هبة يقدمها المؤمن إلى الله وعليه "فإن استخدام البارود ضد الوثنيين هو بمثابة حرق يخور لربنا".(2)
إن نظرية التفوق العرقي هي أصل ثابت من أصول ثقافة الحضارة الغربية التى قامت على العنف وتطورت عليه، وهي من أكثر الحضارات إنتاجا لوسائل العنف وأدواته ولبرامج الدمار وتقنياته.
فالثقافة الغربية واستنادا إلى أصولها، ومتابعة لتطورها، ووقوفا عند الراهن التاريخي، لا يمكن أن تكون ثقافة إنسانية، ولا ثقافة متوازنة ولا ثقافة وحدة إنسانية. وهي ليست كذلك ولا يمكن لها ذلك. فهي ثقافة صراع أديان وثقافات وحضارات.وثقافة تطهير عرقي واستئصال الآخر وفق معايير غير إنسانية ولا علمية ولا عقلانية ولا تاريخية ولا أخلاقية تستند إلى لحظة تاريخية وجد الغرب فيها نفسه قد ظفر بالمسك بزمام المبادرة الحضارية، شهد خلالها نقلة نوعية انتقل فيها من مرحلة التوحش والبربرية إلى حالة المدنية والحضارة مباشرة. فجاءت هذه الحضارة متأثرة، على ما حملته من فتوحات علمية ومعرفية وتقنية عظيمة، بالنزعة البربرية والتوحش التي سرعان ما يضفونها على غيرهم من الأمم والشعوب والأعراق المختلفة معهم في الدين والثقافة والحضارة. ولو كان خطاب الإستغلاء والتمييز والعنصرية والتأكيد على تفوق الإنسان الأبيض في أوروبا مقتصرا على بداية النهضة لهان الأمر، ولكن الخطير في الأمرأن هذا الفكر كان السمة الملازمة للحضارة الغربية في مختلف مراحل تطورها حتى اليوم، وحتى اليوم الذي تنتهي فيه إلى ما انتهت إليه حضارات أقوام وأمم وشعوب أقتضت سنة تداول الأيام بين الناس أن يقيموا بنيانا حضاريا قد آل إلى غيرهم، وسوف يكون بالتأكيد العامل الرئيسي في سقوطها مثلما أسقط التحجر الفكري والسياسي والثقافي المعسكر الشرقي لما كان فيه من معادات للإنسان.
إن ثقافة الحضارة الغربية المعاصرة هي ثقافة الغرب التى أقامها على معادات الآخر المخالف له عرقيا ودينيا وثقافيا وحضاريا، والعمل على سحقه واستئصاله، أو استيعابه واحتوائه وإدماجه. ومهما أوتي الغرب من قوة فإن هذه العمليات سيكون مآلها في النهاية الفشل والإخفاق مع أقوام وأمم وشعوب لها من مقومات التميز الديني والثقافي والحضاري ما يجعلها غير قابلة للإستئصال ولا للإحتواء والإدماج، والعزم على التصدي لها ومقا ومتها حتى النهاية.
والطريف والغريب في هذه الثقافة بحكم طبيعتها المادية النفعية، واعتمادا على ما قامت عليه من أخطاء
في قراءة التاريخ ودراسة طبائع الأقوام والشعوب والأمم وما انتهت إليه من خلال تلك القراءة وتلك
الدراسة من عداء لغير الأروبي الأبيض أن حسابات النفوذ والمصالح قد فعلت فعلها في بعث ثقافة تفوق
1 - المركزية الغربية – اشكالية التكون و التمركز حول الذات: د عبد الله ابراهيم.
2 – نفس المصدر.
البعض الغربي الأبيض نفسه على البعض الأخر " فقد كتب كرومر* حاكم مصر في عهد الإحتلال البريطاني أن الأنجليز ثم الألمان أكثر أوروبية من الفرنسيين و الروس بمعنى أنهم عرق أرقى"(1)
واستنادا إلى فلسفة نيتشه القائلة بأن الإنسان هو الذي خلق الله وليس الله هو الذي خلق الإنسان" والذي يكون بذلك قد أعلن فيها موت الإله و يام الإنسان الأرقى الذي لا يعترف في الحياة بالضعيف ولا بالمعاق ولا باصحاب العاهات المختلفة، وأن كل هذه الأصناف البشرية وكل هذه الفئات يجب أن تزول، ولا حق لها في حياة هي من حق الأقوياء فقط ،ويأتي على رأس هذه الأعراق العرق الجرماني الذي يحق له وحده بحكم تفوقه العرقي أن تكون له السيطرة على غيره من الأعراق، ومن حقه الطبيعي أن يخضعها لحكمه وقيادته، فهذا العرق هو الذي استكملت فيه الطبيعة مواصفات القيادة ليكون قائدا وحاكما. أما الأعراق الأخرى فقد ظلت فاقدة لتلك المواصفات وقد أضفت عليها الطبيعة من الدونية ما يجعلها مقودة ومحكومة إذا قدر لها أن يكون لها حظافي الحياة.
و بناءا على ما كتبه اللورد كرومر وما أسس له نيتشه في فلسفته، أسس هتلر الحزب النازي الذي كان من الجهات الأساسية في إشغال نار الحرب العالمية الثانية، في محاولة لتجسيد فكرة إخضاع العالم لسيطرة الإنسان الأرقى الذي لا يمكن وبالضرورة وفق نظرية الإصطفاء الطبيعي إلا أن يكون الإنسان الجرماني بعد ادعاء موت الإله وذلك "ما لهم به علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا"(2)
إن المتتبع لتطور الفكر الغربي الأوروبي، سواء في مراحله الأولى لما كان الدين هو المحدد للأرقى من الأعراق والمتفوق من الأديان يجد أن التأكيد على أن الطبيعة قد جعلت من الإنسان الأوروبي الغربي الأبيض أنقى الأعراق، وهو الذي يجب أن يسود العالم وعن جدارة بتفوقه العرقي والديني، أو في مراحله الأخيرة التى كان الإعتماد فيها على العقل والعلم، والتى كانت النتيجة فيها واحدة، وقد تمت المحافظة على المركزية الغربية والتفوق الأوروبي الغربي الصليبي المتحالف استراتيجيا مع الشتات اليهودي ومع الكيان الصهيوني.
ولم يكن العقل والعلم في الثقافة الغربية منفصلين عن الثقافة المسيحية اليهودية القائلة بتفوق الديانتين
وبالتفوق العرقي للإنسان الأبيض المعتنق لهما. وليست ثقافة موت الإله أو لا إله والحياة المادة متناقضة مع مقولات التوراة خاصة أو منفصلة عنها للمتأمل بعمق لمقولات التوراة وأدبيات اليهود: فعلى ما يبدو من
اختلاف أحيانا بين الثقافة الثوراتية الإنجيلية والوثنية الرومانية الإغريقية، وبين الثقافة العقلية التى انتهت في بعض الأحيان إلى الإلحاد. إلا أن هذه الثقافة لم تنفصل يوما عن أصولها الدينية التوراتية الإنجيلية.
*كان كرومر على رأس ثقافة التغريب في مصر سنة 1948 ،ومن دعاة فصل الدين عن الدولة وسانده في ذلك الكثير من المكرين المسيحيين العرب من أمثال شبلي شميل، وسلامة موسى، وفرح أنطوان وغبرهم...
(1) المركزية الغربية – إشكالية التكون والتمركز حول الذات : الدكتور عبد الله إبراهيم.
(2)- الكهف:5
وهذا ما تؤكده الأدبيات الحديثة خاصة بعد أحداث 11/9/2001، وما تثبته التصريحات الصادرة من هنا
وهناك على ألسنة زعماء العواصم الغربية من إعلان الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن أنه سيعلنها حربا صليبية، ومن عدم تردد إعلان رئيس الوزراء الإيطالي سلفيوبرلسكوني أن الحضارة الغربية خير وأفضل من الحضارة الإسلامية، وغير ذلك من المواقف ومن التصريحات باتجاه إبداء الإقتناع بثقافة صراع الحضارات والثقافات والأديان، وباتجاه الإخضاع والسيطرة والإستئصال، والإصرار على فرض ثقافة المنفعة والمتعة والمادة والتمركز حول الذات، والعمل بكل الأساليب وبكل الوسائل وبكل الأسباب على مركزة الآخر حول هذه الذات أو إبادته واستئصاله.
فالأوروبيون في قاموس تريفو "هم شعوب الأرض الأكثر تهذبا الأكثر تمدنا والأحسن صنعا يبروز جميع شعوب سائر العالم في العلوم والفنون...في التجارة في الملاحة في الحرب في الفضائل العسكرية والمدنية إنهم أكثر بسالة أكثر فطنة أكثر كرما أكثر نعومة، أكثر اجتماعية، وأكثر إنسانية"(1)
إن ثقافة الشعور بالتفوق هي التى دفعت بالتحالف الصليبي الغربي الأوروبي الأمريكي لاحتلال العراق. ومن التقاليد الراسخة في ثقافة النفع والإستئصال والإخضاع، العمل على هدم البنى التقليدية التى وجدت القوات الغازية للعراق أن النظام العراقي قد ذهب فيها أشواطا على الطريقة الشرقية وعلى طريقة النظام العربي الإستبدادي، ولم يبق منها إلا على ما يوطد دعائم حكمه ويضفي عليه من الشرعية والقداسة ما لا يحصل له بدونه. وفي إطار هدم البنى التقليدية ، يأتي فسح قوات الإحتلال الأمريكي لمن هب ودب ليعيث فساد في المتحف الأثري والمكتبة الوطنية ببغداد، في خطوة تهدف إلى مواصلة محو الذاكرة للشعب العراقي العربي المسلم. وبذلك تتوفر للغزاة الظروف المناسبة لفرض ثقافتهم على خلفية أنهم، بحكم التفوق العرقي الذي منحتهم إياه " الطبيعة"إضافة للتفوق العلمي والتقني والمادي والعسكري والحضاري يجب أن تكون لهم السيطرة على أعراق شعوب وأمم العالم، وباستهداف خاص للعرب والمسلمين على العرب والمسلمين." يرى ديكارت أن البناء العلمي الذي تشيده أوروبا من أجل العالم كافة ومنفعة التفلسف لها أهمية كبيرة لأنها وحدها " تميزنا من الأقوام المتوحشين والهمجيين"(2)
بهذه العقلية وبهذه الخلفية وبهذه الثقافة ،يسعى الغرب اليوم بقيادة أمريكا للسيطرة على العالم كله، وليس ممكنا له ذلك إلا بالإنتهاء من إخماد بوادر التوتر،وإنهاء حالات التمرد، وتدمير مراكز القوة في الأمم والشعوب، والقضاء على حركات وقوى التحرر المتمسكة بحقها في الحفاظ على تميزها الديني والثقافي والحضاري أو محاصرتها.
" ذلك أن ما تهدف إليه الحضارة الغربية كما يذهب توينبي هو" جمع العالم الإنساني كله في مجتمع كبير
1- المركزية الغربية – اشكالية التكون و التملك حول الذات: د عبد الله ابراهيم.
2 – نفس المصدر.
واحد و السيطرة على كل شيء فوق هذه الأرض و في البحار والأجواء التى تصل إليها الإنسانية عن
طريق التقنية الغربية الحديثة"(1)
وليس هذا الزعم في الرقي العرقي وهذا البعد الإنساني الذي يريد الغرب أن يعطيه لثقافته وحضارته إلا لفرض ثقافة نهب الثروات وهدم الثقافات والأديان الأخرى وإلغاء الخصوصيات والثوابت لباقي الأعراق والشعوب والأمم، وهو يزعم أنه إنما يقدم بذلك للإنسانية مقابل ذلك دينا ليس ككل الأديان، وثقافة إنسانية ليست ككل الثقافات، وحضارة عادلة فاضلة قائمة على العقل والعلم وعلى الحرية والديمقراطية والمساواة والحق والعدل والأمن والسلام وحقوق الإنسان.
" يقول دوبريه" ذهبك في مقابل إلهي أعطني الدراهم وإليك المطلق إنني أنهب ولكنني أهدي للحق" وإذا كان من المعلوم " أن الكشوفات تمت تحت غطاء ديني فكولومبوس يكتب إلى " البابا" أن رحلته ستكون " لمجد الثالوث المقدس ولمجد الدين المسيحي" وأن ما يفعله هو أمر "جليل ومن شأنه زيادة مجد ونمو الدين المسيحي المقدس" وهدفه " نشر اسم الرب المقدس وإنجيله في أرجاء الكون" فإن مواصلة الأنشطة الإستعمارية الغربية في مرحلة عقلنة الفكر الثوراتي الإنجيلي وإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله ،مازالت في الحقيقة تخدم نفس الغرض ولكن بطرق و أساليب و وسائل أخرى، وبلغة وخطاب ومفاهيم وتصورات وأفكار أخرى.
إن الغرض من الكشوفات العلمية والجغرافية التى توصل إليها المكتشفون والعلماء والجغرافيون في بداية عصر النهضة هو نفسه الذي اجتاح من أجله الغرب الصليبي الإستعماري بعد ذلك العالم. وهو نفس الغرض الذي يجتاحه به التحالف الصليبي الغربي والشتات اليهودي المعاضد لدولة الكيان العبري في فلسطين المحتلة، ولكن بلغة مختلفة وبخطاب مختلف وشعارات مختلفة هذه المرة، ولكنها تخدم كلها رسالة المسيح التى هي في النهاية رسالة الكنيسة ورسالة البابا. وإذا كان ذلك ممكن التحقيق في مرحلة ما قبل النهضة وحتى بدايتها عن طريق سلطة الكنيسة، فإن ذلك قد أخذ طريقه إلى التحقيق عن طريق سلطة قيصر،باعتبار أن قيصر،و إن كان معاديا في بعض الجهات من أوروبا مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا للكنيسة فإنه لم يكن معاديا للمسيحية. وإذا كانت رسالة المسيح قديما تمر عبر نصوص الإنجيل وتعاليم الكنيسة وأدبيات القساوسة والكرادلة والرهبان والبابوات ومختلف درجات رجال الدين، فإنها اليوم تمر عبر شعارات الحرية والديمقراطية والمساواة وحقوق الإنسان التي يطلقها الرؤساء ورؤساء الوزراء والمفكرون والخبراء من هنا وهناك، وعبر الفلاسفة والإستراتيجيين والصحفيين والمنظمات والجمعيات المختلفة المناشط والأهداف والأغراض من مختلف المواقع.
فلم يكن تحالف توني بلير رئيس الوزراء البريطاني مع الرئيس الأمريكي جورج بوش سواء في ما أطلقه من حرب على " الإرهاب" أو في أخذ قرار احتلال العراق وإسقاط نظامه بتلك السرعة وبدون تردد، وهو
الذي دولته عضو في الإتحاد الأوروبي، لولا أنهما كانا يصليان معا كما يؤكد ذلك توني بلير نفسه.
1- المركزية الغربية – اشكالية التكون و التمركز حول الذات: د عبد الله ابراهيم.
وليس من قبيل الصدفة أن يشد الرئيس الأمريكي جورج بوش الإبن الرحال ‘إلى قواعده العسكرية في العراق متجشما كل الصعوبات ، وغير عابئ بكل الأخطار في بلد يشهد تفجرا وانفلاتا أمنيا تجاوز حدود السيطرة ليقضي عطلة عيد الميلاد مع جنود قواته هناك، وكذلك فعل بمناسبة عيد الغفران، وهي أعياد دينية مسيحية، ولعله كان يقوم بذلك لاكساب جنوده روحا معنوية وتقويتها عندهم لما يمكن أن يصيبهم من إحباط و ضعف وانهيار معنوي بسبب شعورهم بالزج بهم في حرب ليسوا في الحقيقة في حاجة أكيدة إليها ولا مضطرين لها، ولا مفروضة عليهم وهذا صحيح. وهو إنما يفعل ذلك كذلك لإضعاف الروح المعنوية لدى الشعب العراقي ولدى قواه المقاتلة في المقاومة الشريفة الباسلة في أرض الرشيد بلاد الرافدين وفي بغداد التى مازالت تعتبر من أشهر عواصم الخلافة الإسلامية في التاريخ. وليس الموقف في الحقيقة موجها للشعب العراقي ولا لمقاومته الباسلة فقط ،ولكنه يعتبر إهانة، ولعل ذلك ما يقصده، وهو الذي يعلم دائما كغيره من الغربيين ما يفعل– للعرب والمسلمين كافة. وهو الذي وقعت تنشئته على ثقافة معادية لكل الأعراق التى يجب أن ينظر إليها من خلالها على أنها سافلة هابطة محكومة بالسلبية ومتسمة بالدونية. ويزداد الأمر عنده خطورة لما له من عداء تاريخي للعرب والمسلمين من خلال تلك الثقافة وما كانوا عليه من تفوق حضاري وعلمي ومعرفي وإنساني، وليس عرقي عنصري بربري.
وهو الذي لا شك أنه ينظر إلى العرب مثلما ينظر إليهم " الكاتب والنائب بمجلس العموم العمالي السابق روبرت كيلروي سيلك في مقال نشره في صحيفة " صنداي اكسبراس اللندنية أوائل شهر جانفي المنقضي الذي وصف فيه – العرب بأنهم " مفجرون انتحاريون وباترون لأطراف البشر ومضطهدون للمرأة" وقال كيلروي سيلك أيضا" فيما عدا النفط الذي اكتشفه الغرب وينتجه الغرب ويدفع ثمنه ما هو الشيء الذي يقدمونه (اي العرب)؟ هل يخطر ببالنا أي شيء ( يمكن أن يكون إسهاما من جانبهم)؟(هل يقدمون) شيئا مفيدا؟ لا، لا أعتقد...يقال لنا أن العرب يحتقروننا حقا؟ فما الذي يتصورونه بشأن شعورنا تجاههم؟هل نقع في غرامهم بسبب الطريقة التى استخدموها لقتل أكثر من 3000 مدني في 11 سبتمبر ونرقص في الشوارع المحترقة والمليئة بالغبار احتفالا بالقتلة؟"(1)
إلا أن الذي يجب أن يعلمه بوش الصغير ومن هم على نهجه ومرجعيته وثقافته والدائرين في فلكه، وإن كانوا يختلفون معه في ذلك خوفا أو طمعا أو خوفا وطمعا، أن هذه التصرفات والسلوكات الصليبية، وهذا التحدي الذي يزعم لنفسه أنه إنما يقوم به لتقوية عزيمة جنوده والرفع من الروح المعنوية لهم، ودفعهم للصمود، وتعزيز قدراتهم القتالية ولفت أنظار الرأي العام الأمريكي إلى العناية الفائقة التى يحظى بها أبناء الشعب الأمريكي الصامدين على جبهات القتال في العراق من طرف الرئيس دفاعا عن أمريكا وعن مصالح أمريكا وعن الشعب الأمريكي في الحرب التى أعلنها عن قوى الإرهاب والشر التى أصبحت تشكل خطرا كبيرا على وطنهم، وعلى أمنهم وعلى مكتسباتهم وعلى ثقافتهم وحضارتهم وعقيدتهم. إن مثل هذه المبادرات في مثل هذه المناسبات وإن كانت تحط من عزيمة الضعفاء والعملاء والخونة الذين لاعزيمة لهم
1 - الطريق الجديد عدد 22-23- جانفي/ فيفري 2004 .
في الحقيقة بحكم ارتباطهم الوثيق بالعدو المحتل ، ومن عزيمة المتغربين المعادين للوجود الأمريكي الغربي الصليبي في بلادهم ،ويفت في عضد أصحاب الثقافات الدنيوية المادية النفعية التى أصبح لها وجود ملحوظ في أوساط شعوب أمتنا الإسلامية بفعل الإستعمار ووكلاء الإستعمار الذين ائتمنهم على مشروع الدولة العلمانية اللائكية الحديثة. إلا أنه لا يضعف المؤمنين بالله والمعتصمين به والمتزودين بتقواه والمتمسكين بثقافة العروبة والإسلام، ثقافة الشهادة والإستشهاد، ثقافة الحرية والتحرر. ولكن من شأن ذلك إضافة إلى عدم إضعافهم أن يزيدهم إيمانا بقضيتهم التى هي قضية شعوب أمتهم، وقضية الشعوب المستضعفة كلها، وإصرارا على المقاومة والمواجهة والقتال، وإقرار العزم على تعزيز قدراتهم القتالية لإخراج العدو المحتل من بلاد العرب والمسلمين مخذولا مدحورا كما خرج مرارا ومن مواطن وأماكن وأوطان مختلفة ومتعددة مخذولا مدحورا. وذلك ما يزيد أبناء الأمة يقينا من أن المعركة هي معركة حضارية ثقافية دينية، وما يجعل كل الصادقين يعلمون وكل القوى المحبة للخير تعلم طبيعة المعركة وحقيقة المشهد وغايات الإستعمار وأهدافه في مواجهة المستضعفين في الإرض، وفي مواجهة أمة العرب والمسلمين بصفة خاصة. لقد أسقطت هذه المبادرات وهذه الممارسات وهذه السلوكيات كل الأقنعة واتضحت الصورة والحقيقة لكل من لا يعلمها ولكل من يريد أن يعلمها ولمن لا يريد أن يعلمها كذلك. وحين يكون الصراع حضاريا وثقافيا ودينيا فمعنى ذلك أنه صراع شامل يستهدف الأبعاد الروحية والمعنوية والعقلية الفكرية والوطنية الترابية الجغرافية، والمادية المتعلقة بالثروة الطبيعية من معادن ومنتوجات زراعية وذهب وفضة وثروة حيوانية ونباتية وطاقات بشرية وغيرها، حتى لا يفهم أصحاب الآفاق المحدودة والمصابون بالقصور الفكري والعقلي والغباء السياسي وضيقو الآفاق أن الصراع الحضاري الدائرة رحاه بين الشرق والغرب، وتحديدا بين العرب والمسلمين، وبين التحالف الصليبي اليهودي الغربي، ليس مأخوذا فيه بالإعتبار بالنسبة للقائلين به، انطلاقا من فهم أصبح واضحا اليوم لكل صاحب بصر وبصيرة طبيعة المعركة والعلاقة بالمسائل المادية وثروات الشعوب ومصالحها.
ذلك أن ما ينتظره بوش الصغير ومن معه من اليهود والصليبيين هو نفس ما كان ينتظر كولومبوس من وجود في أمريكا إثر اكتشافها وهو القائل: " إن أخيار الكاتوليكيين فقط هم الذين يجب أن يكون لهم موطئ قدم هنا بما أن الهدف الأول للمشروع هو دائما نشر الصليب والعقيدة المسيحية"(1)
"يقول دوران (1537-1588 ) وهواحد الدومنيكان ممن أمضى سحابة عمره في المكسيك ويعد كتابه "
تاريخ الهند الغربية لإسبانيا الجديدة وجزر البرالرئيسي" وثيقة شديدة الأهمية في الثقافة الهندية التقليدية وغايته هي" تهجين الثقافات...": "إن الغاية الكبرى التى يريد دوران تحقيقها هي تحويل الهنود إلى المسيحية...لفرض الدين المسيحي لابد من استئصال كل أثر للدين الوثني وللنجاح في القضاء على الوثنية
لا بد أولا من التعرف إليها بشكل جيد ذلك " أن الهنود لن يجدوا الرب ما لم يجر استئصال جذور الدين
1- المركزية الغربية : اشكالية التكون و التمركز حول الذات- د: عبد الله ابراهيم.
القديم وكل أثر له"(1)
بيد أنه ما إن تتم معرفة ذلك الدين إلا و يجب الإجهاز عليه فالتحول للمسيحية يجب أن يكون تاما إذ لا يجب أن يفلت منه أي فرد أي جزء من فرد ، أية ممارسة مهما بدت تافهة ، ذلك أنه " يكفي أن يوجد في القرية رجل واحد حتى يقع ضرر جسيم"
وبقاء أي شعيرة لها صلة بالتصورات الدينية القديمة سيلحق حسب دوران أبلغ الضرر بالمهمة الجديدة " لأنها شكل مراوغ من أشكال الوثنية...(2)
تلك هي ثقافة الإستئصال التى اكتشف بها الغربيون مناطق كثيرة من العالم. وتلك هي الثقافة التى احتاجوه بها، ولم تختلف الممارسة ولا التصور كثيرا إبان فترة محاكم التفتيش عما ظلت عليه في مرحلة الإستعمار لتدمير البنى " التقليدية" واستئصال الأعراق الممكن استئصالها، أي تلك التى كانت لها قابلية الإستئصال والتى كان الغرب قادرا على استئصالها، ونهب الثروات وفرض الخيار الثقافي الديني والحضاري الغربي. وتلك هي الثقافة التى مازال الغربيون حريصون كل الحرص على فرضها على العالم بنفس الطرق والأساليب والوسائل، ولنفس الغايات والأهداف، من خلال إعطاء أنفسهم تفوقا عرقيا طبيعيا، ومن خلال العمل على استئصال الآخر كلما كان ذلك ممكنا فرضا للذات ونهبا للثروات وهدما للبني " التقليدية " ومن خلال إعطاء دينهم الذي تقوم عليه حضارتهم وأصل ثقافتهم صورة من القدسية والإطلاق ليس عليها أي دين من قبل ولا يمكن أن يكون عليها أي دين آخر من بعد. وفي إطار ارتباط فلسفة هيغل بفكرة التطور التى "أشاعتها فلسفة التاريخ في القرن الثامن عشر، وهي الفكرة القائلة بأن العالم محكوم بغاية حتمية يحقق بها ذاته ، وصولا إلى نهاية تذوب فيها التناقضات "(3)
فقد انتهى إلى حقيقة أن تطور الأديان قد انتهى في إطار حركة التطور هذه في نسق تصاعدي إلى نتيجة أن الدين وهو يتطور كغيره من العناصر متخلصا عبر التاريخ من شوائبه ونقائصه إلى منتهاه وغايته وصورة اكتماله، إن الدين المسيحي هو الغاية التى انتهى اليها تطور العالم: " وفي الدين ظهرت المسيحية بوصفها الديانة المطلقة التى أنهت دور الديانات الطبيعية والفردية الروحية، فهي إذن الديانة الأكثر كفاءة وقدرة على تمثل الحقيقة المطلقة"(4)،وهي الديانة التى وجدت أفكار وعقائد الأديان السابقة لها كالبوذية والكونفيشيوسية والزرادشتية واليهودية "، فضلا عن كثير من العقائد والطقوس والتقاليد ذات الطابع الديني التى كانت شائعة في مصر وبلاد الرافدين وسوريا فيها "(5)مكانا. وإذا كان لا بد للديانة المسيحية في إطار
تطورها أن تكون خلاصة ما سبقها من الأديان، فكيف يمكن أن تكون الأكثر كفاءة و قدرة على تمثل
1- المركزية الغربية : اشكالية التكون و التمركز حول الذات- د: عبد الله ابراهيم.
2 – نفس المصدر.
3– نفس المصدر.
4– نفس المصدر.
5– نفس المصدر.
الحقيقة المطلقة مقابل الدين الإسلامي الذي كان لاحقا لوجود كل هذه الأفكار والعقائد والديانات بما فيها الديانة المسيحية نفسها.
وبعقلية التفوق الديني، والتفوق الثقافي والتفوق العرقي والتفوق الحضاري كان ينبغي أن يكون سلوك الإنسان الغربي على النحو الذي كان عليه، والذي هو عليه اليوم، والذي لا يمكن ولا يستطيع إلا أن يكون عليه مستقبلا، وهو المؤمن من خلال ثقافته والتراكم الفكرى والفلسفي الذي شكل عقله واستقرت عليه قناعته... أن سنة التطور التى عرفها التاريخ بدءا بأحط المستويات وانتهاء إلى أعلاها " حيث تتربع الثقافة الغربية الحديثة فى ذرى سلم التطور،لأنها المصب الذي تنتهي إليه كل روافد الخبرة بعد أن بلغت غايتها القصوى على يد الجنس الأبيض الذي هو نخبة شعوب الأرض وخلاصتها"(1)
تقتضي أن يكون له الإشراف المباشر على غيره من البشر في الأرض، معتبرا ذلك حقا طبيعيا ليس من حق أحد أن ينازعه إياه فيه، وليس ممكنا له ذلك.
ومتى كانت العنصرية العرقية والثقافية والدينية حضارة؟
وكيف يمكن أن تكون حضارة إنسانية وحضارة ديمقراطية وحرية ومساواة وحقوق إنسان؟
ماذا لو جعلنا مقاربة صغيرة بين هذا المنطق وهذه الأفكار والتصورات وهذه الثقافة، والثقافة العربية الإسلامية وما هو معلوم من تاريخ حركة الفتح الإسلامي من أحداث ومن سلوكيات وممارسات ووقائع، وعلاقة بالآخر المخالف الضعيف والمستضعف؟
ولعله من الخطإ المنهجي الحديث عن مقاربة بين ثقافة الحرية والتسامح والعدل والإخوة والوحدة الإنسانية: "كلكم من آدم و آدم من تراب"(2) ، و"...الناس سواسي كأسنان المشط لا فرق بين عربي ولا أعجمي ولا أبيض ولا أسود إلا بالتقوى"(3) وثقافة الإستئصال والتصفية العرقية والتفوق العرقي والثقافي والديني والحضاري ، ثقافة الإستكبار والإستغلاء. ذلك أن أوجه التناقض ظاهرة بين الثقافة العربية الإسلامية القائمة على الفضيلة والعفة والتعارف والمجادلة بالتي هي أحسن، والثقافة الغربية الصليبية اليهودية القائمة على الدعارة والرذيلة والفساد والأنحطاط الأخلاقي والعنف والصراع بين بني البشر، وإشاعة الإرهاب وكثرة القتل والتطهير العرقي لفرض التنصير،ومزاعم ومغالطات واهية عن الحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان.
لكن لابأس من تقديم بعض الأسس النظرية التى تقوم عليها هذه الثقافة وتلك، والتي قامت عليها هذه الحضارة وتلك،ففي الوقت الذي يؤكد فيه فلاسفة الغرب ومفكروه في الأغلبية الساحقة منهم قديما وحديثا على تفوقهم العرقي والديني والثقافي والحضاري على باقي الأعراق والأديان والثقافات والحضارات، وكأنهم ينظرون إلى أن ذلك كافيا لتبرير الجرائم التى ارتكبوها ويرتكبونها في حق غيرهم من الأعراق
1- المركزية الغربية : اشكالية التكون و التمركز حول الذات- د: عبد الله ابراهيم.
2 – حديث شريف.
3 – حديث شريف.
والشعوب والأمم عبر التاريخ، يتأكد فيه للمتأمل لثقافة الإسلام وقيمه ومبادئه، ولحضارة العرب والمسلمين وفكرهم وفلسفاتهم وتاريخهم، أن هذا الدين هو دين تعارف بين القبائل والشعوب والأمم. وهو دين وحدة إنسانية وأخوة بقطع النظر عن فقر الإنسان أو ثرائه، عن قوته أو ضعفه، عن كبره أو صغره، عن بياضه
أو سواده، أوعلى أي لون من الألوان كان، عن إيمانه أو كفره، عن دينه أو عرقه، عن لغته أو لسانه، عن تقدمه أو تأخره وتحضره أو توحشه.... يقول تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير"(1).
وإذا كانت الثقافة العلمانية اللائكية الغربية الصليبية اليهودية قد جاءت مستهدفة المستضعفين وفي جانب كبير منها معززة جانب الإستكبار والمستكبرين، فإن الإسلام ومن ثمة ثقافة المسلمين وحضارة العرب والمسلمين قد جاءت مستهدفة المستكبرين وقوى الإستكبار، ومنتصرة للمظلومين وجموع المستضعفين. ذلك أن الثقافة المعادية للإسلام هي الثقافة التى صاغها ويصيغها المستكبرون وقوى الإستكبار الإستعماري والصهيوني، وأنظمة الإستبداد، وهي التى تقيم بناءها وتحدد وجودها وتؤكده على حساب المستضعفين في الإرض وعلى أوطانهم وجماجمهم، وعلى إنهاء وجودهم تصفيه جسدية جماعية على أساس ديني أو عرقي أو ثقافي، أو احتوائهم وإدماجهم بكل وسلئل الإضطرار والغصب والقوة، أو الإبقاء عليهم تحت السيطرة والنفوذ بأي طريقة وعلى أي صورة.
وذلك ما سعى له الغرب منذ وقت مبكر من التاريخ إلى يوم الناس هذا. وذلك ما تقوم به النخب المتغربة في أوطان شعوب العالم العربي الإسلامي وفي باقي أوطان شعوب المستضعفين في العالم. وقد كانت هذه النخب الموالية للأجنبي، والسائرة على نهجه، والدائرة في فلكه تستمد استعلاءها على الشعوب، وشعورها بأحقية قيادتها لها بالرغم عنها وعلى غير المنهاج والنظام الذي تريد أن تقودها عليه، من التفوق العرقي والثقافي والديني والحضاري الغربي الصليبي اليهودي.
أما الثقافة العربية الإسلامية التى كان ينظر إليها من طرف هذه النخب الراعية للمشروع الثقافي الحضاري الصليبي اليهودي، و لمنفذة لبرامجه، والملتزمة بمناهجه، والتى تفرض على الشعوب الإلتزام بها- على أنها ثقافة الإنحطاط والتشدد والتعصب. وهي تنظر إليها من خلال الأفكار المسبقة التى فرضت نفسها منذ القرن الثامن عشر والقائلة " بحيوية أوروبا" و"خمول العالم" و"السمو الأوروبي" و"امتدادية أوروبا" وفي الختام " أوروبا مركز العالم". ولقد تعاملت هذه النخب عن وعي أو عن غير وعي، عن علم أو عن غير علم، عن قصد أو عن غير قصد مع الثقافة العربية الإسلامية على أنها ثقافة خاملة ساكنة يجب هدمها وإلغاؤها، أو على الأقل إفسادها وتهجينها. وهو نفس التخطيط الذي يذهب إليه الغرب. وهي نفس القناعة التى عليها مفكروه وفلاسفته وقياديوه السياسيون والإعلاميون والعسكريون وغيرهم. وليس الغريب أن تكون هذه النخب المتغربة التابعة وهذه القيادات على هذا النحو، ولكن الغريب أن تكون على غير هذا
1– سورة الحجرات: آية:13 .
النحو وهي التي اتخذت من الغرب صديقا ومثلا يحتذى، ولمعاداتها لشعوبها وأمتها ولسائر المستضعفين. وموالاتها للأجنبي الغربي الصليبي اليهودي، وإعجاب عناصرها وافتتانها به، وخوفها منه وطمعها فيه، وبحكم جهلها لثقافة شعوب أمتها وكراهيتها، لها و زعمها العلم والإحاطة بثقافة الأجنبي المعادي واقتناعها بها وحبها لها اقتناعا أو خوفا أو طمعا أو اقتناعا وخوفا وطمعا.
إنه لمن المفارقات العجيبة في الزمان أن يقع قبول الإنسان بثقافة الإستئصال والتطهير العرقي والإبادة الجماعية، والتى يكون هو نفسه من الأطراف المستهدفة له بذلك، ويعرض عن ثقافة الجهاد، ثقافة الشهادة والإستشهاد التى هي الثقافة التى لا فرق فيها بين أعجمي ولا عربي ولا أبيض ولا أسود ولا أصفر ولا أحمر إلا بالتقوى. هذا الإنسان الذي ليس في حاجة اليوم للرجوع للتاريخ ، لأن المشهد العالمي عموما والمشهد الأفغاني والبوسني والكشميري والشيشاني وفي كوسوفو خصوصا، وفي العراق وفي فلسطين تحديدا، كافيا لإدراك مدى عدوانية هذه الثقافة وهذه الأديان وهذه الحضارة وأهلها، ومدى كراهيتهم للآخر وحقدهم عليه، وخاصة حين يكون هذا الآخر عربيا مسلما، في الوقت الذي يروجون فيه للثقافة الإنسانية ولثقافة الحرية والمساواة والديمقراطية وحقوق الإنسان المتأصلة حسب زعمهم في الديانة المسيحية المطلقة على حد قول هيغل وعلى حد تاكيد توينبي والتى يمكن لها " الجنس الأبيض الذي هو نخبة شعوب الأرض وخلاصتها".
إنها حقا ثقافة الحقد والكراهية ومعادات الإنسان، هذه التى يروج أهلها اليوم لضرورة مواجهة نفس هذه الثقافة حين لا تكون ثقافتهم ،وحين تبدوا لهم أنها ثقافة الحقد على الغربي الصليبي اليهودي وكراهيته، لفرط ظلمه وتسلطه وإمعانه في القتل والتدمير والتخريب، لمجرد أن تكون هذه الثقافة ثقافة رد للعدوان والدفاع عن النفس ومواجهة الظلم والتسلط والإرهاب والإستعلاء والإستكبار الغربي الصليبي اليهودي ، فهي الثقافة التى يجب في هذه الحالة استئصالها واستئصال أهلها.
ففي الوقت الذي يمعن فيه التحالف الصليبي اليهودي في الإرهاب وتأكيد العداوة والتمييز والكراهية بين الشعوب و لأمم، ترتفع فيه الشعارات من هنا وهناك لتبرئ ذمة هؤلاء من الجرائم التي يقترفونها في حق البشرية ،ومؤكدة على ضرورة مواجهة ومحاربة الإرهاب الإسلامي. هذا الإسلام الذي استطاع أن يجتاح ربع العالم في ربع قرن، لا بقوة السلاح وثقافة الإستعلاء والتفوق العرقي والديني والحضاري ولكن بسماحة أهله وتواضعهم وعدلهم وإنصافهم وحبهم للإنسان وشدة حرصهم على تحريره حقا وإعطائه الأمن والأمان والسلامة والسلام.
وليس ثمة أحسن من التاريخ شاهد على التعامل الإنساني والحضاري مع الآخر من غيره. ومن خلال تأمل المؤرخين والمتأملين في التاريخ القديم والوسيط والحديث للإنسان الغربي ينتهي الملاحظ إلى نتيجة إن هذا الغرب كان على قدر كبير من التوحش والبربرية يبدو أنه لا يستطيع الفكاك ولا التخلص منه ولا التخلي عنه، فلم تزده الحضارة إلا غرورا واستكبار، وأنانية وحبا للذات، وعنصرية وحقدا على الآخر وكراهية له. ولسنا بحاجة للوقوف عند كل جرائمه التى ارتكبها منذ وقت مبكر من التاريخ الحديث، بدءا بالحملات الصليبية ومرورا بفترة الإستكشافات الكبرى وبحروب التوحيد ذات الطبيعة القومية التي خاضها الأوروبيون ضد بعضهم بعضا في كل من أمريكا وأوروبا ، وانتهاء بحركة الإستعمار التى يبدو أنه لا يريد أن يجعل لها نهاية. ولكن حسبنا بعض الأمثلة من التاريخ القريب والمعاصر بعد أن أوردنا أمثلة من التاريخ القديم والأسس النظرية التي يقيم عليها الغرب وجوده ويحدد من خلالها علاقته بالآخر.
ولنا في تاريخ العرب والمسلمين حين كانوا يصنعون التاريخ خارج إطار ردود الفعل، وبعيدا عن الإنفعالات والتوترات الناتجة عن الإستفزاز الصادر عن الظالم المتسلط على الأمة وشعوبها بمختلف مللها ونحلها، وفي مواقع كثيرة من الكرة الأرضية، فهم الذين كانوا يقودون حركة تحرير الإنسان من الطواغيت والظالمين والمستبدين ولا يظلمون أحدا إلا أن يكون طاغية ظالما لشعبه متسلطا على من أوقعهم تحت نفوذه وأخضعهم لسلطانه وجعلهم في نطاق سيطرته فهم مسؤولون على الإطاحة به وإعطاء رعاياه فرصة التعبير الحر عن إرادتهم بالبقاء على ما هم عليه من العقائد والأفكار والقناعات والثقافات والعادات والتقاليد أو الدخول مع المسلمين في ما هم عليه من اعتقاد ونظام حياة، وكان ذلك حين كانوا هم المالكين لزمام المبادرة الحضارية ويمثلون حركة تحرير حقيقية للشعوب المقهورة الخاضعة لعبادة العباد والواقعة تحت جور الأديان وقد سجل التاريخ ذلك بكل وضوح وبإيجاز في ما سجله في قول قائد جيس المسلمين لفتح بلاد فارس ربعي بن عامر لملك الفرس لما سأله عما جاء بهم إليهم حين أجابه:"جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام".
" يقول السيراليوت أول مندوب سام لكينيا عام 1900 في بيان سياسة حكومته في كينيا : إن داخل المحمية (أي كينيا) أرض للرجل الأبيض وأن من النفاق عدم الإعتراف بأن مصالح البيض يجب أن تكون لها الغلبة وينبغي أن يكون الهدف الأساسي من السياسة التى نتبعها والتشريعات التى نسنها أن تنشئ مستعمرة بيضاء واستمرت هذه السياسة هدف حكام كينيا الأروبيين حتى اليوم: أن تصبح الأرض كلها للأوروبي الأبيض يتصرف بخيراتها كما يشاء"(1)
" وعلى هدي الرسول الكريم في تسامحه الديني ذي النزعة الإنسانية الرفيعة سار خلفاؤه من بعده فإذا بناء نجد عمر بن الخطاب وقد شكت إليه امرأة مسيحية من سكان مصر أن عمرو بن العاص قد أدخل دارها في المسجد كرها عنها فيسأل عمرا عن ذلك فيخبره أن المسلمين كثروا وأصبح المسجد يضيق بهم وفي جواره دار هذه المرأة وقد عرض عليها عمرو ثمن دارها وبالغ في الثمن فلم ترض مما اضطر عمرو إلى هدم دارها وإدخالها في المسجد ،ووضع قيمة الدار في بيت المال تاخذه متى شاءت ومع أن هذا مما تبيحه قوانيننا الحاضرة وهي حالة يعذر فيها عمرو على ما صنع ،فإن عمر لم يرض ذلك، وأمر عمرا أن يهدم البناء الجديد من المسجد ويعيد إلى المراة المسيحية دارها كما كانت".(2)
هذه ثقافة حضارة أمة يهدم فيها جزء من مسجد المسلمين في إطار إعادة الحق المسلوب إلى إهله- ليعاد إلى
1- من روائع حضارتنا- الدكتور مصطفى السباعي.
2 – نفس المصدر.
المرأة المسيحية بيتها.
وفي مثل كينيا المستعمرة البريطانية ثقافة حضارة أمة تنتزع من جموع الهاوهاو السكان الأصليين للبلد أرضهم وتسندها للرجل الغربي البريطاني الأبيض.
ل" قد كان الملكانيون يضطهدون أقباط مصر في عهد الروم و يسلبونهم كنائسهم، حتى إذا فتحت مصر رد
المسلمون إلى الأقباط كنائسهم وأنصفوهم؟
وتطاول الأقباط بعد ذلك على الماكانيين انتقاما مما فعلوه بهم قبل الفتح العربي فشكوا ذلك إلى هارون الرشيد فأمر باسترداد الكنائس التى استولى عليها القبط بمصر وردها إلى الملكانيين بعد أن راجعه في ذلك بطريرك الملكانيين"(1)
أما "السلطان محمد الفاتح حين استولى على القسطنطينية مقر البطريركية الأرتودكسية في الشرق كله فقد أعلن يومئذ تأمين سكانها- وكلهم نصارى- على أموالهم وأرواحهم وعقائدهم وكنائسهم وصلبانهم وأعفاهم من الجندية ومنح رؤسائهم سلطة التشريع والفصل في الخصومات التى تقع بين رعاياهم دون أن تتدخل الدولة فيها..."(2)
يقول المؤرخ شارل ديل عما فعله الصليبيون حين قدموا من أوروبا فاستولوا على القسطنطينية عام 1204 " لقد دخل الجنود السكارى كنيسة سانت صوفيا وأتلفوا الكتب المقدسة وداسوا بأقدامهم صور الشهداء وجلست عاهرة على كرسي البطريرك وارتفع صوتها بالغناء لقد قضى على آيات الفن في المدينة، وأذيبت التماثيل لسك نقودا"(3)
إن سماحة الإسلام وثقافة العرب والمسلمين بأبعادها الإنسانية هما اللذان جعلا حركة الفتح الإسلامي لا تطرح حيوية الشرق وخمول العالم، ولا السمو العربي الإسلامي، ولا الشرق مركز العالم، وإن كان الأمر في الحقيقة كذلك، لأن المسيحية التى يقدمها فلاسفة ومفكروالغرب نفسها على أنها خلاصة تطورالأديان، قد ولدت في الشرق وانبعثت منه، ويعود أصلها إليه، ولكن في صورتها الصحيحة وفي نسختها الحقيقية الموحاة إلى السيد المسيح عليه السلام. أما ما يروج إليه هؤلاء من تصورات حولها فهو من أوهام التحريفيين والمزورين الذين عاثوا فيها فسادا وقدموها للعالم على أبشع صورة أرادوها أن تكون عليها وأضفوا عليها مسحة من القدسية المصطنعة الكاذبة على أنها خلاصة الأديان لخلاصة الأعراق الذين أنتجوا من خلالها خلاصة الثقافات، يجد المؤمنون بها والمدافعون عنها والمبشرون بها إيمانا قويا باستئصال الأعراق الأخرى والقضاء على الديانات الأخرى وإنهاء أو على الأقل تهجين الثقافات الأخرى، ليكون العالم كله يدور في فلك الإنسان الغربي الأبيض. وهذا هو التوجه للعولمة التى تريد القيادة الصليبية في الغرب وفي أمريكا تحديدا أن نفرضها على العالم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.