تعدّ قضية «التراث» إحدى خمس قضايا كبرى طُرحت على النخب المثقفة والحاكمة في العصر الحديث، فلم يكن هناك بدّ من تناولها مع القضايا الأخرى: الدولة، الآخر، الوحي، اللغة عند معالجة السؤال الأكبر المتعلق بسبب تقهقر المسلمين، ومن ثَم -وانطلاقاً من إشكالية تأخر العالم الإسلامي- أصبح حتمياً بحث مسألة التراث. نلاحظ من جهة أخرى أنّ سؤال التراث هو مثل إشكالية التأخر التي انبثق عنها مصطبغٌ بطابعها الإيديولوجي، أي أن أنهما ينشدان تغييراً ما، ذلك أن القائل: «لماذا تأخر المسلمون؟» لا يبغي مجرد تحليل واقع العالم الإسلامي للوصول إلى قانون يجسد ثوابته، إنه لم يطرح السؤال إلا في إطار رفض للاختراق الغربي الأوروبي من جهة ورفض للتدني المتواصل مقارنة بما حققه الأسلاف أيام الازدهار، من هذا الرفض المثنى يتبين أن ما بحثه المفكرون العرب المسلمون من أسباب التقهقر لم يكن بدافع علمي محض، بل كان أساسا مسعى هادفا للتغيير والخروج من دائرة الهيمنة الأروبية. سؤال التراث -هو الآخر- كان سؤالا إيديولوجيا، أي أنه ما كان ليطرح إلا نتيجة رفض مثنّى: رفض التأخر بالنسبة إلى أمجاد الماضي ومعارف الأسلاف، وعبارة «التراث» لا تدل دلالة محايدة عن الآثار المكتوبة التي خلفها السابقون والمتصلة بالعلوم العقلية والنقلية وعن الأنماط الخاصة من الحياة والوجدان والتفكير، وهو يدل أيضا على موقف مُسبق منه وغاية مضمرة في التعامل معه. سؤال التراث مثل سؤال التقهقر ليس «بريئا»، ولم يكن كذلك بالنسبة إلى أوروبا حين طرحت منذ قرون على نفسها السؤال الخاص بعلاقتها بمعارف القرون الوسطى ومؤسساتها وتصوراتها، عندئذ كان على مفكري النهضة والتنوير الأوروبيين أن يكتشفوا ما يسمح لهم بمزاحمة الكنيسة والإقطاع في كفاءتهما بقصد إبطال هيمنتهما على الفكر والوجدان والمجتمع. جليّ أنه إذا كان موقف أوروبا من تراثها «القروسطي» تقويضيا وقاطعا من أجل تأسيس تصور جديد للكون ولمنزلة الإنسان فيه، فإن هذا يرجع للخصوصيات الحضارية المميزة للتجربة التاريخية الأوروبية، إنه ليس قانونا عاما شاملا كل المجتمعات الإنسانية في علاقتها بموروثها الحضاري، واللافت للنظر في الفضاء العربي الإسلامي أنه إزاء سؤال لا مفر من أن يكون إيديولوجيا وقع التقدم بجواب «غير علمي»، وبذلك تمّ تكريس فكر تقليدي تمجيدي يهرع إلى التراث باستمرار على أنه خزّان حلول جاهزة لا ينضب. من جرّاء هذا التعامل، اكتسب التراث في الوعي العام صفتين متناقضتين شكّلتا أهم مفارقات الفكر العربي الحديث والمعاصر: من جهة أصبح التراث هو عين الهوية وهو الذات الوطنية، أي أنه المكوّن الأوحد لاجتماع الأمة والضامن لاستمرارها وحصانتها، ومن جهة أخرى بدا التراث عند الشروع في معالجته أنه تراكم إبداعات حققتها الأمة لمواجهة معضلاتها المستحدَثة في أزمنة مختلفة وبمؤثرات ثقافية متباينة، وهكذا تحوّل التراث إلى مرجع ومصدر للشرعية والتعرف على الذات لكنه كان بمثابة الجلمود المتخشب، وكالأبكم الذي لا يقدر علي أيّ شيء. مفارقة الوعي العربي الإسلامي هي أن تراثه اليوم غدا عِبئاً عليه. هو لا يملك أن ينطلق من الصفر لكنه في الوقت نفسه لا يستطيع صياغة البدائل انطلاقا من تراث تحوّل إلى قارة مترامية لا موقع لها في الزمن تسبح في سديم واحد. هكذا أصبح التراث إلى ما يشبه تماثيل آلهة الرومان المرمرية والمشروخة، هي صلبة المظهر ولكنها هشة في الواقع، خالدة لكنها تفعل في الماضي فقط، قريبة منا ومع ذلك فهي تنأى عنا وننأى عنها، ذاك هو التراث: الكَلّ والكُل، الممجَّد والمجمِّد، الحاضر والغائب، وأغرب ما في الأمر أنّ كل الدعوات إلى القطع مع التراث لم تُفْضِ إلا إلى استلاب ثقافي وانتكاسة في الوعي وتفسخ للذات. الأدهى من كل هذا أن الاهتمام المتناهي بالتراث تغلغل في جميع المستويات مُربِكا المجتمعات العربية وخطابها السياسي وبحوثها الأكاديمية، ولو أخذنا المجال الأخير لرأينا وفرة مذهلة للبحوث الجامعية المتصلة بالتراث المعرفي العربي الإسلامي ولرأينا في الوقت نفسه أنها جهود استعراضية لا تتجاوز في غالبيتها المطلقة مجال الشروح المكرورة التي تغفل إشكالية كل مبحث والعناصر المختلفة المكونة له والآلية التي ينبغي أن نفهمه على ضوئها. بذلك طرحت مفارقة الوعي العربي الحديث سؤالا أساسيا آخر في المسألة التراثية، وهو: «هل يمكن وضع معالم «تمشٍّ آخر» في العلاقة مع التراث تختلف نوعيا مع الطبيعة المأزومة التي تعوق التراث عن كل إبداع؟». تلك هي إشكالية التراث الكبرى: كيف يمكن انطلاقا منه تحقيق الإبداع؟ قديما، واجه الوعي العربي أزمة استقطاب الماضي له استقطابا كاملا قبل ظهور الإسلام، وكانت أهم خصوصيات تلك اللحظة التاريخية هو تمحور النفس العربية حول زمن واحد هو الزمن الماضي، هو المرجع والملاذ، فلا معرفة تستقر ولا مشاعر أو روابط تحيا إلاّ إذا كان لها سند منه، وأكثر من ذلك: لقد انقلبت مرجعية الماضي إلى نمطية تقولب الفكر والمشاعر والعلاقات محولة الطموحات العربية إلى حروب أهلية طاحنة لا يُعرَف لها مبتدأ ولا منتهى، وقد عبّر عن هذه الدائرة المفرغة والقاتلة شاعران جاهليّان كبيران، إذ قال عنترة العبسي مؤكدا دوران الشعراء في نفس المعاني وحول نفس النماذج: هل غادر الشعراء من متردم؟- أم هل عرفت الدار بعد توهم؟ وقال زهير بن أبي سلمى في نفس هذا التوّجه: ما أرانا نقول إلا مُعاراً- أو مُعادًا من لفظنا مَكرورا أصبح الشاعر مدفوعا إلى صور وأخيلة مقَوْلَبَة، لا يزيد إبداعه فيها عن تخيّر ألفاظ «جديدة» تجسّدها، وحوّلت الروح الاتباعيّة الزمن الماضي إلى أفق الفعل والخيال والتصوّر، وفقد الحاضر كل معنى أو وجهة أو تساؤل، أما المستقبل فقد أضحى فضاء راكدا لا تضاريس فيه، لذلك كانت أهم التحديات التي واجهها الخطاب القرآني هو عقليّة التمحور على الزمن الواحد أو لا تاريخيّة الفكر العربي، كان يجيب المعاندين الرافضين لكل تمايز بين الأزمنة والقائلين «إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنّا على آثارهم مقتدون»، فيقول: «أو َلوْ كان آباؤهم لا يعقلون شيئا ولا يهتدون». كانت النمطيّة الجاهليّة تعتبر الزمن الماضي عينَ الهويّة، فهي لا تقبل التفريط فيه وفيها، لذلك كانت تستعمل لها عبارة «أمّة» لتأكيد التطابق بين الزمن المنصرم والذات «القوميّة»، يجيب الخطاب القرآني فاصلا بين تجربة الماضي وبين ذات الأمّة عن طريق معطى الوعي المتجاوِز للزمن والمستوعِب لتجاربه. وبذلك أمكن تجديد الذهنيّة العربيّة في جانب جوهري من خصوصيّاتها التقليديّةّ: «تلك أمّة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عمّا كانوا يعملون»، وقد اتاحت تعدّديّة الأزمنة وتمايزها للعربيّ المسلم مجالا جديدا للإنشاء، فيها يتنزّل فعله الحضاريّ، ومنها ينبثق وعيه بالتطوّر وقدرته على الإبداع. عندئذ أعيد الاعتبار للإنسان في الجزيرة العربيّة وما حولها من العالم المفتوح وأصبح المستقبل مجالا بِكرا يستطيع الإنسان من خلاله تجاوز مأساة إعادة إنتاج نفس العلاقات ونفس الفعل ونفس الحكمة، ومن ثمَّ أضحى المستقبل كاشفا يبدع حاضرا جديدا متوهّجا ينهي العلاقة مع طابع الرتابة وموت الوجهة، وقد برز الحاضر بعد أن كان زمنا مفقودا، وانتفت عن الماضي صفة المرجعيّة المطلقة فأمسى طورا من الأطوار يمكن تفسيره وتمثّله، أي تجاوزه. العرب 2010-04-01