أشعر بحرج حين أرفض الدعوة إلى الكتابة أو أمتنع عن المشاركة في تأليف دون أن يكون لي أكثر من مسوغ للرفض. ذلك أني أدركت منذ مراحل التعلم المبكرة أن الكتابة في جوهرها اكتشاف للذات وللجانب الخفي منها خصوصا. حين يكتب المرء على وجه الحقيقة فهو يقوم بسبر لتلك الملَكة الخلاقة فيه، سبر تقييمي يحدد أهميتها، وتقويمي في ذات الوقت بما يقتضيه من تصحيح وتعديل لها. لذلك فحين يرفض المتعلم أن يكتب إنما يفوت فرصة للتطور والارتقاء اللذين تحققهما الكتابة بكل ما تعنيه من تساؤل ومبادرة وتردد ومخاطرة وتراجع وتوقف وانبهار. ثم إن للكتابة الصحفية في الشأن العام وفي قضايا الثقافة والفكر ميزة أخرى تتجاوز ذات الكاتب لتصل إلى الجمهور الواسع المنشغل بالتحديات الآنية والبعيدة. الكتابة في هذا المستوى ترتبط كما هو شأنها في المستوى الفردي بحركة الوعي، ببعديه التقييمي والتقويمي، لكن ضمن المجال الجماعي. من هذا الجانب تصبح الكتابة مساهمة في تأهيل حراك الرأي العام بما تحقق له من القدرة على الانتقال من وضع إلى وضع أكثر تقدما بخصوص القضايا التي تشغله. هي تجسيد للعلاقة بين مفهومين ركز عليهما الفكر العربي الحديث: المثقف والرأي العام. هو التساؤل القديم عن طبيعة سلطة المثقف في سياق حضاري جديد فرض مفهوم « الرأي العام» الذي كان غائما إلى حد الغياب حين كان النظر مقتصرا على العامة والخاصة وخاصة الخاصة. مع العصر الحديث برزت مقولة «الرأي العام» للتعبير عن مجموع الاتجاهات السائدة في عموم الجمهور الواعي بخصوص قضية أو مجموع القضايا المتعلقة بمصالح ذلك الجمهور وقيمه ومآلات حياته. من هذه الناحية غدت الكتابة الصحفية مرتبطة من جهة بمفهوم الحرية وقيمة الكلمة ومن جهة ثانية بطموح المثقف في أن يكون « ضمير الرأي العام» أي الصانع لمبادئه والرائد لمسيرة وعيه وحركته. بالعودة إلى كتابات رجال الإصلاح في تونس في القرن 19 نجد هذا المعنى مع شهادة محمد السنوسي على خير الدين بعد أن تحول من موقع المثقف المصلح إلى سدة الحكم. يقول صاحب الرحلة الحجازية: « بعد توليه الوزارة تنكر لمن كانوا في إعانته وأخذ بيده زمام المبادرة ورشقته سهام الاعتراض وفسدت أنصاره ونقموا عليه أمورا كثيرة من أعظمها مخالفته لواجبات الشورى التي كانت من زهرات كتابه». يواصل السنوسي شهادته مستحضرا موقف الوزير معه عندما كان يتولى تحرير صحيفة « الرائد « فيقول : «كتبتُ فصلا افتتاحيا جعلت عنوانه - لا قول إلا بعمل- تكلمت فيه عن الموضوع فصرح لي (خير الدين) بقوله إني كتبتُ أقوم المسالك قبل مباشرتي للخطة فلما باشرتها رأيت واجباتها قاضية بغير ذلك». يضيف السنوسي قوله: ولم تنشر الافتتاحية مؤدى هذا أن دائرة الكتابة الصحفية ترتبط بمفاهيم أساسية تتداعى للتعبير عن الاستقلال في الرأي وعن الفكر النقدي اللذين بدونهما يفقد المثقفُ مصداقيته والكلمةُ فاعليتها في الرأي العام وضمن رهانات المستقبل. لهذين الاعتبارين استجبتُ للدعوة الكريمة التي توجهت لي بها دار الصباح للمشاركة في ركن المنتدى بالكتابة إلى جانب ثلة مهتمة بقضايا الفكر والثقافة والمجتمع والإعلام. إضافة إلى ما سبق فقد كان لي اعتبار ثالث حفزني لقبول دعوة المساهمة في منتدى الصباح. هذا الاعتبار رغم طابعه الشخصي فإنه، في تقديري، يتجاوز هذا المستوى ليلامس مدى حضاريا ووطنيا لا مجال لإغفاله. لقد فتحتْ لي دار الصباح في سنوات 1985 و1988 و1989 أبوابها بدعم من أحد رجالاتها، الأستاذ عبد اللطيف الفراتي، لخوض تجربة الكتابة الأسبوعية بحرية مع عدد من الأصدقاء في قضايا الثقافة والحضارة والفكر الإسلامي. من الجانب الشخصي كانت تجربة مثرية أضيفت إلى أخرى سابقة لها مع صحيفة « الرأي» للمرحوم حسيب بن عمار في سنتي 1981 و1982 قبيل تأسيس مجلة 15- 21. ما هو أهم من الجانب الذاتي في هذا الاعتبار الثالث هي الدلالة الحضارية التي تتبدى عبر مسيرة دار الصباح تركزت فيها القيمة المؤسساتية لهذا المعلم الإعلامي العتيد. إن المعنى البعيد الذي لا ينبغي أن تذهل عنه النخب المثقفة والسياسية إلى جانب قوى المجتمع المدني في تلك المسيرة هي الحاجة الماسة إلى دعم المؤسسات وترسيخها. ذلك أن المؤسسات البارزة في المجتمع بما تحرص عليه من التطور والتوازن ومن الحس النقدي إنما تمثل ضمانة للجميع في يقظة العقل الاجتماعي الحافز لدواعي المناعة والابتكار. ذلك هو ما أدركتُه من رصيد دار الصباح في ماضيها وهو، فيما أرى، رهانها المدني على قيمة الكلمة اليوم وغدا. مفكر تونسي الصباح