صدر للكاتب الكويتي عقيل يوسف عيدان كتابا سماه "العقل في حريم الشريعة: العقلانية عند الشيخ محمد عبده"، عن دار قرطاس الكويتية، تناول فيه تجربة الشيخ الفكرية، وسيرة حياته، وجهوده الإصلاحية، مركزا على العقلانية والاجتهاد العقلي، ومبرراً ذلك إلى أن دراسة العقلانية عند محمد عبده توفر لنا أرضية واسعة لفهم الجوانب المختلفة لمشروع الإصلاح الديني الإسلامي، كما تشير دراسة العقلانية إلى قضايا فكرية ودينية واجتماعية وسياسية لم تكن مناقشة او محلولة داخل إطار الفكر الإسلامي. دور العقل في الشرع ويشير الكاتب إلى أن العقل لا ينفصل عند محمد عبده، لأن أحكام العقل الصحيحة هي الأحكام التي تقرها الشريعة، ولأن أحكام الشريعة لا يمكنها أن تتعارض مع أحكام العقل، ويتابع الكاتب تحليله لإبراز مكانة العقل عند المصلح الكبير الذي يبغي تأسيس عقلانية جديدة؛ فالعقل الذي يرومه هو: التفكير: والنظر، والتأمل، وتحليل الأشياء وتركيبها، من اجل إدراكها في ذاتها في حقيقتها اليقينية. ويركز الباحث على مصادر العقل والعقلانية في آيات القران الكريم، كما أشار اليها محمد عبده، وقسمها إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول الذي يعرف بالعقل ويأمر به بوضوح، والثاني ما أمر به وأطلق عليه أسماء مختلفة مثل، لب، وعلم، وقلب، والقسم الثالث من الآيات التي لا تذكر العقل مباشرة؛ بل تذكر بما يدل عليه كالحكمة التي هي علم وعقل وتعقل. ويشير الكاتب إلى أن العقل الذي أراده محمد عبده لم يكن سوى العقل المتزن الذي لا يأخذ من الغرب او من التراث إلا ما يراه متوافقا مع مبادئ الشريعة الأصلية، وفي دعوته للعقل والعقلانية توصل محمد عبده إلى ضرورة استئناف الاجتهاد، والذي أغلق منذ أمد بعيد، وتجاوز الأسباب التي أدت إلى الجمود والانغلاق، وهي التمذهب السياسي والديني، والكسل العلمي، وقلة الاطلاع. والاجتهاد في رأي عبده ليس وقفاً على عدد الفقهاء السابقين، بل هو باب مفتوح دائماً لأن طبيعة الدين الإسلامي انه جاء ليوافق البشرية في كل زمان ومكان. واعتمد الشيخ في اجتهاده وفتاويه على مبدأ المصلحة ومقاصد الشريعة في الوصول إلى الجديد من الأحكام، ويشير الكاتب إلى طبيعة هذا الاجتهاد، فيعتبره منهجاً عقلياً في الاستدلال، فهو يلجا إلى الاجتهاد تحت لواء المصلحة والمقاصد، ولما هو معلوم عن الدنيا بالضرورة ليسوغ الجديد. فالمعقول عنده شرعي إلا إذا خالف معلومات الدين بالضرورة. سيرة عبده وجهوده التجديدية يتحدث الباحث عن سيرة حياة المصلح الكبير، ومصادر ثقافته الغربية والإسلامية، وإصلاحاته، وفتاويه، وجهوده المعرفية في علم الكلام، ودوره في الحياة الفكرية. فقد ولد الشيخ محمد عبده سنة 1849 في محافظة البحيرة المصرية، والتحق أولاً بالجامع الأحمدي في طنطا، ثم غادرها إلى القاهرة ليلتحق بالأزهر الشريف، وفي القاهرة التقى بالمصلح الكبير جمال الدين الأفغاني سنة 1871، الذي لازمه وتعلم منه الفلسفة والاهتمام بالعلوم الغربية الحديثة، وبثّ فيه روحاً ثورية لإصلاح أحوال المسلمين والنهوض بهم. وانطلق الإصلاح من المقدمات التي اجمع عليها التيار السلفي في عصر النهضة العربية، وهي أن المسلمين هم المسؤولون عن التأخر والانحطاط، وليس الدين الإسلامي، دين العقل والعلم الذي لا يتناقض مع التقدم والحداثة، وحدد محمد عبده الأصول التي بني عليها الإسلام كمقدمات للإصلاح، وهي الجمع بين مصالح الدنيا والآخرة، والنظر العقلي كوسيلة لتحصيل الإيمان، وتقديم العقل على ظاهر الشرع، ومودة المخالفين، وتقويم السلطان او الخليفة إذا انحرف عن كتاب الله وسنة نبيه. ومن هذه الأصول، انطلق محمد عبده على نهج الأفغاني، معلمه وصديقه في مرحلة الشباب في الدعوة الإصلاحية التي تضمنت: تطهير الدين الإسلامي من البدع والشوائب، والتوفيق بين الإسلام وجوهر الحضارة الحديثة، وإصلاح مؤسسة الأزهر، والانخراط عملياً في الإصلاح من خلال المشاركة العملية في اللجان التنفيذية مثل مجلس التعليم الأعلى، وتولي القضاء، ومواجهة تحديات العصر الحديث وحماية المسلمين من العلمنة والتغريب. وحاول الشيخ مهادنة السلطة السياسية، خاصة بعد انكسار الثورة العرابية وعودته إلى مصر من المنفى لإنجاح الإصلاح الديني والاجتماعي الذي يحتاج لدعم مادي سياسي من الخديوي والانجليز للنفاذ لنسيج المجتمع المصري ومؤسسة الأزهر، الا ان خصومه كالخديوي والمحافظين والوطنيين المتحمسين كمصطفى كامل، ناهضوا دعوته، وأعاقوا مشروعه الإصلاحي، وبقي المشروع أهم معالم الإصلاح الديني في عصر النهضة العربية، وهو المشروع الأكثر قابلية للاستئناف والاستعادة، إلا انه يحتاج لمزيد من التأصيل والتطوير بعد أن انحرف المشروع الإصلاحي من الإصلاح الديني والتنوير إلى الأصولية والتكفير. لقد كانت الثورة العرابية والشيخ جمال الدين الأفغاني أهم المتغيرات الإشكالية في حياة عبده، فقد تردد أولا في تأييد الضابط الفلاح احمد عرابي، إلا انه فيما بعد أصبح أهم المحركات الفكرية للثورة العرابية إلى جانب خطيبها عبدالله النديم، وعندما فشلت الثورة نفاه الخديوي عن مصر، فرحل إلى بيروت، واشترك بحياتها الفكرية والاجتماعية، وتنقل سراً وعلناً، فالتحق بصديقه الأفغاني في باريس، وعمل على إصدار جريدة "العروة الوثقى" لتحريض المسلمين ضد الاستعمار، وحاول متابعة نضاله في مصر والسودان ضد الانجليز إبان الثورة المهدية، إلا انه في النهاية عاد إلى مصر تائباً يائساً من التغيير الثوري، وعاد إلى رشده مصلحاً معتدلاً، وعقلية وسطية، ونأى بنفسه عن السياسة، وصب اهتمامه على النواحي الدينية والاجتماعية والتربوية؛ أي إصلاح القاعدة الفكرية والبنى التحتية للمجتمع المصري. ولم يكن في تكفيره وفتاويه شيخاً تقليدياً، فقد تعلم اللغة الفرنسية، ودله الأفغاني على عيون الكتب الفلسفية، فدرس ابن خلدون، وابن سينا، وابن رشد، ومسكويه، وعلم الكلام عند المعتزلة والأشاعرة، وأعلام الفكر الصوفي. وعاش الشيخ فترة انتقالية مضطربة في حياة مصر بسبب نضوج تيارات الإصلاح السلفية والليبرالية التي اشتد عودها، ونادت بالتحديث على الطريقة الغربية، مما زاد التيار السلفي التقليدي محافظة وتمسكاً بالثوابت الدينية، وكان على الشيخ عبده الوقوف موقفاً وسطاً، فبرهن أولاً على أن الإسلام لا يعارض العلم وحقائق العقل، بل يستلزمهما معاً لتحقيق التطور رداً على دعوات التغريب التي صاغت خياراتها من الليبرالية الأوروبية، إما الإسلام وإما التطور والتحديث. وفي جهده التنظيري الإصلاحي أثبت قدرته ومعرفته بتيارات الفكر الغربي الرائجة حينذاك وخاصة الوضعية والداروينية، فتعرف على فلاسفة ومفكري أوروبا مثل ارنست رينان وسبنسر، وناظر وساجل هاناتو وفرح انطون دفاعاً عن الإسلام دين المدنية والعقل والعلم، وربط التغيير بمبادئ الإسلام الأصلية واعتبره الأساس الخلقي والعقلي لبناء المجتمع الحديث لسحب البساط من تحت أقدام دعاة العلمانية والتغريب الذين ينفون صلة الإسلام بالمدنية والعقل قياساً على المسيحية، التي اعتبرت عند فلاسفة الوضعية ديانة غير قابلة للتجدد والتطور. وتمثل الشيخ حقائق العلم الحديث والعقلانية، ولا يعني ذلك ان شيخنا أجاز باسم الإسلام كل ممارسة حديثة تشرع لنفسها باسم التقدم حتى تكون مهمة علماء الشرع إضفاء الشرعية على التقدم الغربي كأمر واقع، فالإسلام كما فهمه عبده كان "مبدأ ردع" كما يقول البرت حوراني، ومن شأنه أن يمكن المسلمين من التمييز بين الصالح والطالح من مختلف وجوه التغيير الحاصل، وبالتالي فقد اضطلع شيخنا بإعادة تجديد جوهر الإسلام كالعقائد، وما هو متغير قابل للاجتهاد. ولعبت الانتقائية والتوفيق بين المذاهب والأفكار دوراً مهماً في مشروع الشيخ محمد عبده الإصلاحي، وابتعد عن القضايا الخلافية بين المذاهب، او في علم الكلام الإسلامي قديماً وحديثاً للحفاظ على وحدة المسلمين وسلامة كيانهم الاجتماعي ونسيجهم الفكري أمام التحديات المادية والفكرية الخطيرة التي يمثلها الاستعمار الحديث في مصر والعالم الإسلامي، فاستعار قضايا فكرية خلافية من المسيحية والفكر الغربي؛ مثل علاقة الدين بالعلم الحديث، وهي القضية التي شغلت الوضعية والداروينية الاجتماعية، فصاغ الإشكالية بما يناسب الإسلام، ويخرجه منتصراً بعكس المسيحية. وأمعن الشيخ بالتوفيق بين المفاهيم الإسلامية الأصلية، ومقتضيات العلم الحديث، بهيمنة كونت ودوركايم عليه، وخرج بهذا النهج إلى تماهي المصلحة بالمنفعة، والشورى بالديمقراطية، والإجماع بالرأي العام، وطال التوفيق عنده المذاهب السنية الأربعة، وعمل على توحيدها بمذهب تكاملي موحد على قاعدة المذهب المالكي الذي تبناه شخصياً لتشديده على أهمية المصالح البشرية وأولويتها في التأويل والاجتهاد، رغم انه مارس الإفتاء رسمياً على المذهب الحنفي، مذهب الديار المصرية، وهذا ما اكسب نشاطه صفة الشمول والأصالة، التي حرمت غيره من المصلحين، إلا أن التأويل والتخريج النوعي للفتاوى، وهي محصلة التوفيق بين المذاهب أبعده بفتاويه واجتهاداته عن الأسانيد الشرعية المباشرة في المذهب الحنفي الرسمي والتقليدي، مما أثار حفيظة الفقهاء والشيوخ التقليديين الذين يتربصون بمشروعه الإصلاحي، فقد خاض شيخنا في المعاملات، واعتبر ما طرحه القران الكريم والسنة المشرفة مبادئ كلية عامة، تركت تطبيقاتها الإجرائية الشرعية وتفاصيلها لاجتهاد المجتهدين طبقاً للشروط والقواعد التي حددها علم أصول الفقه. أما على مستوى المجتمع المثالي؛ أي المجتمع الإسلامي الحقيقي، فهو المجتمع المفارق لمجتمع الحاضر، المجتمع الذي يخضع لأوامر الله ونواهيه، ويطبق تعاليم الشرع التي تفهم فهماً عقلياً، والذي يتماثل بذهنه بمجتمع الرسول والصحابة، وعلى الفرد المسلم أن يستعمل عقله للفوز بالدنيا والآخرة، وتحقيق المجتمع الفاضل بالإعمال الصالحة التي هي سبب التطور والتقدم، وتحقيق الأمن والاستقرار، بقوله أن تعاليم الإسلام لا تناقض معايير العلم الاجتماعي الحديث لبناء المجتمعات الراقية، ولكن هذا المجتمع المنشود ليس خلقاً جديداً؛ أي ليس مثال ذاته؛ بل هو استعادة وإحياء بشروط، أولها بيان أسباب الانحطاط التي حاقت بالإسلام والمسلمين لمعرفة كيفية التخلص منها والبدء بالإصلاح الشامل، وتحقيق المجتمع الفاضل مجتمع السلف الصالح. ويحاول عبده الإحاطة بأسباب التأخر بسرد سلسلة سببية تتوالد فيها العلل حتى تصل إلى جذور الانحطاط، وهي تخلي المسلمين عن جوهر دينهم، وتحريفه من الغرباء والدخلاء في الإسلام، فيشير للشيعة، والصوفية، والأتراك، والمماليك، والتقليد الأعمى، والتطرف. إلا أن الانزلاق الذي وقع فيه عبده ولم يدركه، او يدرك أبعاده ونهاياته المنطقية في تحويره للمفاهيم الإسلامية ومقاربته للعلم الحديث، ومحاولاته التوفيقية الحثيثة هو فقدان الدلالة الخاصة لمبادئ الإسلام وخصوصيتها المميزة عن الأديان والعقائد الوضعية الأخرى، فما دام جوهر الإسلام يتماثل مع العلم الحديث، ويتماهى مع العقل والتطور، ألا يمكن الاستعاضة عن التوفيق؟ والتخلي عن احد أطراف المعادلة النهضوية دون حرج، وهذا ما أثار مرة أخرى المعارضين لمشروعه الإصلاحي، والذين أماطوا اللثام عن نهاياته ومراميه الخطيرة التي تصب في طاحونة الحداثة والليبرالية. لقد نوى إقامة جدار ضد العلمانية، فإذا به يبني جسراً تعبر العلمانية عليه لتحتل المواقع واحداً بعد الآخر، وليس من المصادفة أن يستخدم معتقداته فريق من أتباعه في سبيل إقامة العلمانية الكاملة! لذلك فقد سار تلاميذه بعد موته في دروبهم الخاصة لتحقيق مشاريعهم الإصلاحية، فمنهم من أعاد النظر بخطابه المعتدل وانفتاحه على العلم والمدنية الحديثة، ومنهم من تراجع إلى مواقع سلفية متشددة وأصولية، كما حدث مع الشيخ محمد رشيد رضا، ومنهم من نهج نهجاً ليبرالياً وعلمانياً، ودفع أفكاره إلى نهاياتها المنطقية كما فعل احمد لطفي السيد، ابرز رموز "حزب الإمام" الذي اعترف بأهمية الإسلام، إلا انه رفض أن يكون عاملاُ وحيداُ، مؤسساُ لمشروع التغيير والتطور، ومنهم من دعا للتحرر مثل تلميذه قاسم أمين،الذي طالب بتحرير المرأة، ورفع الظلم عنها، ورفض الانحطاط. وأما تلميذه الأخطر علي عبد الرزاق فقد شكك بمؤسسة الخلافة في الإسلام، وهي القضية التي اكتسبت قداسة دينية كتعاليم الإسلام نفسه، فواجه اعنف معارضة سياسية ودينية أوقفت مشروع الإصلاح والتجديد وإعادته إلى المربع الأول بصعود الأصولية والسلفية الجديدة. كاتب وباحث أردني متخصص بالفلسفة