شكّلت المواجهات الدّامية التي شهدتها صحراء شمال جمهورية مالي خلال الأسبوع الماضي، بين وحدات من الجيش الموريتاني وعشرات المقاتلين من تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، مُنعطفا جديدا في الصراع الدائر بين الطرفيْن منذ خمس سنوات، والذي بدأ بتنفيذ التنظيم أول عملية له على الأراضي الموريتانية، قتِل خلالها عدد من الجنود الموريتانيين. فقد قرّر الجيش الموريتاني اعتماد إستراتجية جديدة في مواجهته مع تنظيم القاعدة، تقوم على نقل المواجهات من الأراضي الموريتانية إلى شمال مالي، حيث توجد معاقِل ومُعسكرات التنظيم المسلّح الذي يتحرّك في مساحة جغرافية واسعة، فشلت الدول التابعة لها إداريا في بسْط السيطرة عليها، وتشمل مناطق شاسعة من ولايتيْ تَمنراست وآدرار في جنوبالجزائر، ومناطق شاسعة من شمال مالي وغرب وشمال النيجر. وقد شكّلت تلك المناطق خلال الأعوام الماضية، ملاذا آمنا لما يُعرف بإمارة الصحراء التابعة لتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، بقيادة الجزائري "يحيى جوادي"، الذي يأتمر بأوامر زعيم التنظيم "عبد الملك دوركدال"، الملقب ب "أبو مصعب عبد الودود" والموجود في جبال الجزائر. وقد نفّذ التنظيم انطلاقا من تلك الصحراء، عدّة عمليات في عُمق الأراضي الموريتانية، أسفرت عن مقتل عشرات الجنود الموريتانيين والاستيلاء على كميات كبيرة من الذخيرة والعتاد واختطاف وقتْل عدد من الرّعايا الغربيين. وقد ظل الجيش الموريتاني في السابق، يكتفي بموقف الدِّفاع عن النفس، فيما تولّت أجهزة الأمن ملاحقة عناصر التنظيم، الذين يتسلّلون إلى الأراضي الموريتانية. غير أن النظام الحاكم في نواكشوط حاليا، ارتأى اعتماد مقاربة جديدة، تقوم على توجيه الضربات العسكرية الاستباقية وسياسة المكايدة الفكرية والفقهية. فقد سبق لهذا النظام أن لدغ من جُحْر القاعدة مرّتيْن، منذ توليه السلطة في نواكشوط إثر انقلاب عسكري في أغسطس عام 2008، حيث قتَل التنظيم في سبتمبر من نفس العام 12 عسكريا موريتانيا في كمين نصَبه لهُم شمال البلاد، واختطف خمسة أجانب (ثلاثة إسبان وإيطاليان) سنة 2009 من داخل الأراضي الموريتانية، الأمر الذي دفع حكومة ولد عبد العزيز إلى بدء إستراتيجية جديدة في مواجهتها العسكرية مع التنظيم، تقوم على ضربه في معاقِله خارج الأراضي الموريتانية، فشرعت في تنفيذ عمليات ضدّ معاقل التنظيم والمتعاونين معه في شمال مالي، وهي المعاقل الذي ظلّت طيلة السنوات الماضية آمنة لا تصل إليها يَد أي حكومة من حكومات المنطقة، بعد أن قرّرت مالي والنيجر أنهما عاجزتان عن مواجهة القاعدة، ورفضت الجزائر مطاردة عناصر التنظيم خارج أراضيها، واكتفت موريتانيا في السابق بسياسة ردّة الفعل داخل حدودها. تبادُل الأدوار وجاءت أول عملية أمنية وعسكرية تنفِّذها القوات الموريتانية في عُمق الشمال المالي، في شهر فبراير الماضي وأدّت إلى اعتقال "عمر الصحراوي"، العقل المدبِّر لعميلة اختطاف ثلاثة عمّال إغاثة إسبان في موريتانيا، أواخر شهر نوفمبر عام 2009، كما نفّذ الجيش الموريتاني عملية ثانية بعد ذلك بأسبوعيْن، قُرب بلدة "المزرب"، في عمق الصحراء المالية، واستهدفت قافلة كبيرة من السيارات العابرة للصحاري والمسلّحين، تبيَّن لاحقا أنها تابعة لإحدى عِصابات تهريب المخدِّرات، وقد تمكّن الجيش الموريتاني من قتل ثلاثة من عناصر العصابة واعتقال عشرين آخرين ومصادرة كميات كبيرة من المخدِّرات والأسلحة. أما العميلة العسكرية الثالثة للجيش الموريتاني داخل الأراضي المالية، فقد تمّت بدعم فرنسي يوم 22 يوليو الماضي، واستهدفت مُعسكرا تابعا لإحدى سرايا "إمارة الصحراء"، التي تشكِّل العمود الفقري لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي، وقد أدّت العملية إلى مقتَل سبعة من عناصر التنظيم، لكنها فشلت في تحرير الرّهينة الفرنسي "ميشيل جيرمانو"، الذي أعدمه التنظيم بعد ذلك بيومين، ردّا على الهجوم الموريتاني الفرنسي. لماذا موريتانيا وحدها؟ وقد كشفت العمليات الموريتانية الأخيرة ضدّ تنظيم القاعدة في شمال مالي، عن عدم استعداد دول المنطقة، للتّنسيق في مجال محاربة الإرهاب، حيث اكتفت جمهورية مالي باستضافة المعارِك على أراضها ووقفت موقِف المتفرِّج وتوفِّر من حين لآخر مصادر أخبار للصحفيين عن المعارك الدائرة في مناطقها الشمالية، بين خصميْن غرببييْن على أراضيها. أما الجزائر، فقد وجدت في العمليات الموريتانية خروجا على زعامتها لمُعسكر محاربة الإرهاب في الصحراء، وشنّت وسائل الإعلام الجزائرية حربا نفسية وإعلامية على الموريتانيين عبْر بث بيانات ومعلومات تتحدّث عن خسائر فادِحة في صفوف الجيش الموريتاني، وهزائم نَكراء مُنِي بها على يَد مقاتلي القاعدة. أما النيجر، فقد اكتفت هي الأخرى بتتبُّع أخبار مَن اختُطِفوا على أراضيها من الفرنسيين، دون أن تُحرِّك ساكِنا لإنقاذهم، فيما بقِي الجيش الموريتاني وحيدا في ساحة المعركة يُلاحق "أشباح القاعد" في صحراء شاسِعة خارج حدود بلده. مُقاربة جديدة واليوم، وبعد خمس سنوات على بدء المواجهة المفتوحة بين القاعدة والحكومة الموريتانية، أدْركت هذه الأخيرة أن إستراتيجية القبْضة الأمينة والعسكرية الدِّفاعية، لا تكفي وحدها لمواجهة عُنف تغذيه الأفكار الأيديولوجية، ويؤمن أصحابه بأن الموت في سبيله شهادة والحياة لأجله جهاد، لذلك سارعت السلطات الموريتانية الجديدة إلى مراجعة المقاربة العسكرية، التي اعتادتها في السابق لمحاربة الجماعات الإسلامية المسلحة، وذلك من خلال تشديد وتعزيز قبْضتها العسكرية والأمنية، وتبادل الأدوار مع القاعدة عبْر الانتقال من موقِع الدفاع إلى موقع الهجوم، كل ذلك بالتوازي مع مدّ يَد للحوار وفتح باب التّوبة والتّراجع أمام الشباب الموريتانيين المُنخرطين في التنظيم، والراغبين في التراجع عنه، فضلا عن القيام برُزمة إجراءات وتحسينات على مستوى المؤسسة الدِّينية في البلد، بهدف العمل على تجفيف المنابِع الفكرية والموارد البشرية للمجموعات المتطرّفة، وذلك عبْر فتح حوار مع السجناء المحسوبين على تنظيم القاعدة في سجون نواكشوط، والإفراج عن عشرات منهم بعد توقيعهم على بيانات أكّدوا فيها تخلِّيهم عن العنف ورفضهم للأسلوب الذي ينتهِجه تنظيم القاعدة. ولم تكتف الحكومة بإخلاء سبيل هؤلاء، بل تمّت دعوَتهم لحفل عشاء رسمي، نظّمه على شرفهم وزير الشؤون الإسلامية وحضره عدد من أعضاء اللجنة العِلمية التي كلِّفت بالحوار معهم في السجن، وأعلن وزير العدل أن الحكومة مستعدة لدعمهم ومساعدتهم، من أجل الاندماج في الحياة العامة. مواجهة دِينية وبالتّوازي مع ذلك، أعلن الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز عن إنشاء إذاعة دينية تسمّى "إذاعة القرآن الكريم"، متخصِّصة في بث البرامج الدِّينية والتلاوات القرآنية، كما أمر الحكومة ببناء أكبر مسجد في تاريخ البلاد يتّسع لأزيد من 15 ألف شخص، وطباعة مصحف شريف برواية الإمام ورش عن نافع، وهي القراءة الأكثر انتشارا في موريتانيا، ويحمل اسم "مصحف شنقيط"، نسبة إلى مدينة شنقيط التاريخية العِلمية في موريتانيا، واكتتاب 500 إمام مسجد يتقاضَون رواتبهم من ميزانية الدولة. كما صادق البرلمان الموريتاني على قانون جديد لمحاربة الإرهاب تقدّمت به الحكومة، ينُصّ على تشديد الإجراءات والعقوبات في حقّ المتَّهمين بالإرهاب، مقابل فتح باب التّوبة والتراجع أمام الرّاغبين في العدول عن نهْج التطرف والغلو. وتأمل السلطات الموريتانية أن تساهم هذه الإستراتيجية، المتعدّدة الجوانب، في التخفيف من وطْأة مواجهتها مع المجموعات المتطرِّفة، التي ترابط في صحراء شمال مالي على تُخوم حدودها الشرقية والشمالية، والتي استقطبت عشرات من الشباب الموريتانيين، باتوا يشكِّلون نسبة مُعتبرة بين مقاتلي التنظيم، ونفَّذ بعضهم عمليات انتحارية في موريتانيا ومالي والنيجر والجزائر، ومات آخرون في مواجهات مع جيوش المنطقة، وما يزال آخرون ينتظرون مصيرهم ويتدرّبون على القتال والمواجهة في مُعسكرات تنتشِر في صحراء "سائبة"، لا سلطان لأي دولة عليها، يسمِّيها أمراء التنظيم "صحراء الإسلام" و"طورا بورا المغرب الإسلامي". محمد محمود أبو المعالي- swissinfo.ch نواكشوط 29 سبتمبر 2010