يحيي العمّال وكل القوى الوطنيّة هذه الأيام ذكرى الاغتيال الغادر للزعيم النقابي والوطني الشهيد فرحات حشاد الذي نذر نفسه منذ الشباب المبكّر للنضال والعمل فجعل من نفسه مشروع استشهاد وهبة للوطن. وقد تميّزت مسيرة حشّاد بعدّة مواصفات استثنائيّة جعلت الحديث عنها بدوره استثنائيّا فهي سيرة أقرب للملحمة من حيث تسارع أحداثها وحجم البطولة والإقدام فيها وكذلك عظمة المكاسب المتحقّقة رغم قصر المدّة الزّمنيّة. لذلك كانت هذه المسيرة حافلة بالعبر والدّروس التي تحتاج اليوم فعلا وقفة تأمّل واعتبار. لقد عاش حشّاد صباه في قرية العبّاسيّة من جزر قرقنة وهي المكان الذي كان للاستعمار فيه الحضور الأبرز في الأرخبيل حيث توجد ملاّحة كانت خاضعة للإدارة الاستعماريّة عانى فيها العمّال شتّى أنواع الاستغلال والتنكيل تحت أنظار أبنائهم وأبناء عمومتهم وهو ما غذّى في حشاد وعيا اجتماعيّا ووطنيّا مبكّرا سارع بإنضاجه اضطراره للانقطاع مبكّرا عن الدراسة- رغم ما تشهد به نتائجه من نبوغ- والذهاب للعمل حيث تجاوز مرحلة المشاهد للاستغلال إلى مرحلة المعايش والمُعاني. لم يكن لحشّاد نظريّات أو إيديولوجيات يبني على أساسها مواقفه وتصوّراته بل كانت القاعدة الأخلاقيّة التي تربّى عليها وصدق إحساسه بمعاناة النّاس هما بوصلته الوحيدة التي قادته إلى ما صار إليه من كفاح وتضحية شعاره في ذلك قوله المأثور: "التضحية أساس النّجاح" فلم يكن دافعه في ذلك نزعة نرجسيّة أو رغبة في كسب لحسابه الخاص وإنّما هو فقط حبّه للوطن والشعب حيث عبّر عن ذلك بصرخة مدويّة جليّة المعاني لا لبس فيها: "أحبّك يا شعب" وهو حبّ استحقّ منه كلّ التضحية بما في ذلك التّضحية بالنّفس: " أفضل لي أن أموت ودمي يروي تراب وطني من أن أموت ودمي متجمّد في جسدي البالي ". تنقّل حشاد في عمله بين صفاقس وسوسة حيث نشط نقابيّا في نقابات "س-ج-ت" الفرنسيّة لكن لمّا تصادم النضال النقابي في هذا الإطار مع مقتضيات الوعي والعمل الوطنيّين انسحب من هذه النقابة الفرنسيّة وبدأ في البناء من حيث انتهى أب الحركة النقابيّة التّونسيّة محمد علي الحامّي مؤسّس "جامعة عموم العملة التّونسيّة" فانطلق مع رفاق له شاركوه الدرب واقتسموا معه التضحيات في تكوين نقابات تونسيّة وطنيّة المضامين فكان تأسيس النقابات المستقلّة بالجنوب والنقابات المستقلّة بالشمال لتتوحّد مع جامعة الموظّفين التي كان يرأسها آنذاك الشيخ محمد الفاضل بن عاشور في مؤتمر الخلدونيّة في 20 جانفي 1946 معلنة تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل التي أرادها وبقيّة رفاقه أمثال أحمد التليلي والحبيب عاشور والنوري البودالي ومحمود المسعدي وغيرهم منظمة وطنيّة تتجاوز المطلبي اليومي إلى البعد الوطني الشامل لتستهدف الحرية والكرامة في معناها الواسع، كرامة الانسان والمجتمع والوطن: " هل يستحقّ الحياة من لا يدافع عن كرامته؟ " . إنّ حجم الحركة والفعل الذي أنجزه حشاد على الساحة الوطنيّة خاصة بتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل الذي أراد الاستعمار الفرنسي قبره في المهد من خلال الهجوم الوحشيّ الذي قام به على النقابيين بصفاقس في 5 أوت 1947 والتي استهدف فيها حياة أحد القياديين في الاتحاد وهو المرحوم الحبيب عاشور لكنه فشل فشلا ذريعا فكانت مثل هذه الاستهدافات لا تزيد الاتحاد ومناضليه إلا قوّة وصلابة. بل إنّ حشاد قد تحوّل إلى قائد فعلي للحركة الوطنيّة ضدّ هذا المستعمر نتيجة قدرته الفائقة على تعبئة الناس وجمعهم حول الأهداف الوطنيّة النبيلة ممّا أثار أحيانا حتّى غيرة بعض زعماء وقيادات هذه الحركة الوطنيّة إضافة إلى ما حققه من إشعاع عالميّ في الهيئات النقابيّة والعمّالية العالمية جعل الاستعمار الفرنسي يستشعر أكثر فأكثر خطره خاصّة بعد أن نجح في بلورة حسّ راقي من الوعي بالتلازم العضوي بين البعدين الاجتماعي والوطني في نضال العمّال وهو ما انعكس مباشرة على طبيعة تحرّكات ونضالات المنظّمة النقابيّة التونسيّة التي لم تعد تخفي الأبعاد الوطنيّة لتحرّكاتها بل إنّ حشاد تجاوز في نظرته الوطنيّة الأبعاد الإقليمية الضيقة إلى البعد القومي العربي حيث كانت مساهمته الفاعلة في تنظيم حملة التطوّع إلى فلسطين سنة 1948 كما كانت كتابات رفيقه في التّأسي الشيخ محمد الفاضل بن عاشور تصبّ في نفس المصب فكان إلقاؤه لثلاث محاضرات أيام 7 و19 نوفمبر و3 ديسمبر 1947 بعنوان "فلسطين، الوطن القومي للعرب" ردّا على المقولة الاستعماريّة الصهيونيّة "فلسطين وطن قومي لليهود" . لأجل كل هذا لم يجد الاستعمار من مخرج ممّا يحدثه له حشاد من إزعاج شديد ومن دعوة دائمة للثورة والمقاومة إلا التخلّص منه بالاغتيال وهو ما كان حشاد يستشعره لكنه كان يتحدّى الأمر ويستصغره غير آبه بالتهديدات والتحذيرات حتّى كانت عمليّة الاغتيال الغادر صبيحة يوم 5 ديسمبر 1952 وهي عملية مازالت محاطة بالكثير من الغموض نتيجة عدم كشف الاستعمار الفرنسي عن الوثائق المتعلّقة بها في أرشيف الدولة الفرنسية وكذلك نتيجة تعدد الشبهات حول الفاعلين الحقيقيين والقوى المختفية وراءها رغم أن المتّهم الوحيد الذي لا يحوم حوله شك في هذه الجريمة هو المستعمر الفرنسي بأجهزته العسكريّة والأمنية والاستخباريّة. إلا أنّ الأهمّ في اعتقادنا من سرد سيرة حشاد هو الاعتبار بها والاهتداء بها في بناء المستقبل. فحشاد المولود في2نوفمبر 1914 والمستشهد في 5 ديسمبر 1952 لم يعمّر أكثر من 38 سنة ممّا يعني أنّه استشهد شابا لكنّه خلال هذه الفترة الوجيزة نجح في أن يضع بصمة في التاريخ خلّدته وخلّدت انجازاته والقيم النضاليّة التي أسس لها وفي هذا درس جليل لأجيال الشباب حتّى يعلموا أنّ مرحلة الشباب هي مرحلة فعل بناء وعطاء غزير وليست مرحلة ضياع وميوعة. وفي هذا الإطار فإنّ حشاد لم يكن استثناء إذ أن معظم قادة الحركة الوطنيّة والاجتماعيّة في تونس بدؤوا نضالهم وحققوا الكثير وهم في سنّ الشباب وقس على ذلك علي باش حانبة وجماعة الشباب التونسي والطاهر الحداد ومحمد علي الحامي وصالح بن يوسف ومحمد البدوي العامري مؤسس جمعية صوت الطالب الزيتوني ورفيق دربه عبد العزيز العكرمي وغيرهم كثير. كما أنّ سيرة حشاد تثير أيضا الحديث عن منظومة القيم التي تقود الفعل النضالي وتوجّه حركة الفرد والمجموعة فمتى كانت هذه القيم خالصة قائمة على نكران الذات والوفاء للأهداف السامية الموضوعة بعيدا عن البحث عن المكاسب الشخصيّة فإنّها لا يمكن إلا أن تُؤتي أكلها أمّا إذا كانت محكومة بروح انتهازيّة قائمة على الكسب الذاتي والأنانيّة فإنّ حصيلتها لن تكون إلا أهزل من مقاصدها. لهذا فإننا لم نكفّ يوما عن القول شعار " يا حشاد يا شهيد .. على دربك لن نحيد" هو تعبير مكثّف على ترسانة من القيم والمبادئ والالتزامات التي تثقل كاهل من يرفعه وتضع عليه التزاما عليه أن يعيه ويعمل على مقتضاه. كما أنّ قصّة نضال واستشهاد حشاد إنما هي مثال حيّ لما ارتكبه الاستعمار من جرائم في حقّ الوطنيين المخلصين وفي حق الأرض والإنسان وهو ما يجعل محاسبة هذا الاستعمار على جرائمه وعلى الأرواح الطاهرة التي أزهقها ظلما وعدوانا ومطالبته بالاعتذار والتعويض عن تلك الجرائم طلبا قائما لن يسقط بالتقادم ولن يأفل مهما حاول الاستعمار وأعوانه التغاضي عنه وتجاهله. صحيفة "الوطن" التونسية العدد 166 الصادر في 3 ديسمبر 2010 المصدر بريد الفجرنيوز