هذا مقتطف من حوار مطول أجراه الصحفي عبد الله الزواري مع سجين الرأي السابق المهندس عبد الحميد الجلاصي.. ينشر الحوار كاملا قريبا إن شاء الله تعالى في مجلة أقلام أون لاين.. والمقتطف جواب عن سؤال: هل تشعر أنك أهنت في مرة من المرات داخل السجن؟ عند "مالرو", الروائي الفرنسي الكبير, السجن هو بالتحديد والتعريف مرادف للإهانة، بمعنى أن الإهانة حالة مصاحبة لوضع السجن، لا تنفك ولا تنفصل عنه، أي ليست إحساسا، أو حدثا، أو إجراء، أو ممارسة تعترضه أحيانا، وتغيب أخرى.. والسجن في حالة سجين الرأي، إهانة مقصود منها التحطيم، وكسر الإرادة، والترويض، والإعادة إلى صف القطيع، أي إلى صف " المواطنين الصالحين".. الإهانة هي ما يقصده السجان والإحساس بالإهانة هي ما يخطط له السجان أن يسكن السجين.. ولكن هذا الأخير يمكن أن ينقل المسألة (أي المعركة) من فضاء الوجدان والأحاسيس والانفعالات إلى فضاء التعقل والفهم والوعي بتبني طريقة تخرجه من مأزق الدائرة التي يحرص على رسم حدودها ومساحتها السجان إلى دائرة أخرى.. يمكن أن أحس بالإهانة: - حينما أحرم - أنا المتعلّم - من القلم والأوراق سنوات.. - وحينما أحرم من الكتب سنوات.. - وحينما أجبر عند الإمضاء على وثيقة على استعمال البصمة... - وحينما أعاقب بإيوائي أياما بغرفة الشواذ جنسيا، مع "طرشقانة" و"مادونا" و"شهلوبة"... - وحينما أقيد – عند العقوبة- بسلسلة إلى الجدار.. - وحينما يتجاهل الحارس طرقي على الباب ساعات، في حين أعلم بوجوده يتلصص خلفه. - وحينما تطلق الإدارة عيونها وآذانها وأياديها من أمثال "ناموسة" و "ترتفشة" و"كعكة" تتشفى في المساجين.. - وحينما يعامل حرس السجون ومسؤولوها المساجين كالحشرات: فيشتمون الآباء والأمهات، ويتطاولون على مقام الجلالة في حين يتصاغرون ليصبحوا أحقر من حشرة أمام كبرائهم إداريا.. - و حينما يلازمك الحارس أثناء مقابلة أهلك، يحصي عليك حتى الأنفاس فما بالك بالكلمة الرقيقة التي قد تقولها لرفيقتك والطرفة التي يمكن أن تتحف بها طفلتك... فيصبح فردا من العائلة، يعرف الصغير والكبير، والقريب والبعيد، وقد يسمح لنفسه، أو تسمح له التعليمات، بالتدخل في حديثك وتصنيف الحديث إلى مباح وغير مباح.. - وحينما يراد حشرك في دائرة المطالبة بأبسط الأساسيات.. - و حينما تتقابل في أوت 91 مع الرشيد إدريس عندما كان رئيسا للهيئة التي شكلتها السلطة لتهميش رابطة حقوق الإنسان فتلفت انتباهه إلى ما عاينته من تجريد بعض المساجين من كل ثيابهم و تقييدهم كالدواب بالسلاسل في رواق الجناح المضيق و تلفت انتباهه أيضا إلى ما تتعرض له ورفاقك من أصناف التعذيب والاهانة فيجيبك أن الفرنسيين كانوا يفعلون مثل هذا مع الوطنيين في أربعينات القرن 20 و تعاقب بعدها مباشرة لمدة 10 أيام فتتأكد أن هذا هو الرجل المناسب في المكان المناسب. - وحينما تصلك صحيفتك اليومية- من ضمن الصحف المرخص في اقتنائها- فتجدها خارطة من الثقوب والشبابيك بعد أن لعب فيها مقص الرقيب (والمقص هنا بالمعنى الحسي، المادي) وحماك من "الأخبار الخطيرة"... و قد تبحث عن هذا الخبر الذي مُنع للمحافظة على أمن السجن والبلاد والعالم والكون فتجده يتعلق بفوز قائمة حماس في الانتخابات الطلابية في إحدى الجامعات الفلسطينية أو تجده تحليلا إخباريا حول حزب العدالة والتنمية في المغرب.. يمكن أن تتعدد الأمثلة إلى ما لا نهاية، وقد يكون فيما ذكرت كفاية.. السياسة السجنية بما فيها من إجراءات و تدابير و ممنوعات تحدد ملامح المنتوج المراد تصنيعه، خاصة بالنسبة لسجين الرأي.. ننطلق من كائن حي ذي وعي عميق، و اهتمامات عالية، وصحة جيدة، ونفسية متوازنة، لنصل، بعد المرور عبر آلة الترويض والتكرير مرات إلى حطام إنسان بصحة معتلة، وإرادة منحلة، وتوازن مختل، واهتمامات صغيرة لا تتجاوز شهوة البطن.. يمكن أن أحس الإهانة من كل ما ذكرته، ومن كثير مما لم أذكره، ولكن يمكن أيضا أن نختار طريقا آخر لمواجهة هذه السياسة، ولإفشال هذا المقصد، وذلك بتحييد فضاء العواطف والوجدان والأحاسيس ما أمكن... فالتعقل والوعي هو الذي يلتقط ويترصد ويتصدى لفهم هذه السياسة ومواجهتها.. تفهم مقصد سجانك فتنقل المعركة إلى دائرة أخرى: المقاومة..أما شعوريا فقد لا تكافئه بأكثر من.... الاحتقار.