أخيرا: الطفل ''أحمد'' يعود إلى منزل والديه    زلزال بقوة 4.6 درجات يضرب هذه المنطقة..    الإطاحة بشبكة مختصّة في الإتجار بالبشر تنشط في هذه المناطق    عاجل/ ستشمل هذه المناطق: تقلبات جوية منتظرة..وهذا موعدها..    جائزة مهرجان ''مالمو'' للسينما العربية للفيلم المغربي كذب أبيض    بعد مظلمة فرنكفورت العنصرية: سمّامة يحتفي بالروائية الفسطينية عدنية شبلي    شركة نقل تونس: خط جديد يربط تونس البحرية بمطار تونس قرطاج    يوميا : التونسيون يهدرون 100 مليار سنويا    تقلبات جوية في الساعات القادمة ..التفاصيل    مفزع: 17 حالة وفاة خلال 24 ساعة في حوادث مختلفة..    عاجل : بشرى للتونسيين المقيمين بالخارج    مواجهة صعبة لأنس جابر اليوم في بطولة مدريد    دكتور مختصّ: ربع التونسيين يُعانون من ''السمنة''    تونس / السعودية: توقيع اتفاقية اطارية جديدة مع المؤسسة الدولية الإسلامية لتمويل التجارة    قرار جديد من العاهل السعودي يخص زي الموظفين الحكوميين    معز السوسي: "تونس ضمن القائمة السوداء لصندوق النقد الدولي.."    بطولة ايطاليا : رأسية أبراهام تمنح روما التعادل 2-2 مع نابولي    العثور على شخص مشنوقا بمنزل والدته: وهذه التفاصيل..    غوارديولا : سيتي لا يزال أمامه الكثير في سباق اللقب    سان جيرمان يحرز لقب البطولة للمرة 12 بعد هزيمة موناكو في ليون    ثمن نهائي بطولة مدريد : أنس جابر تلعب اليوم ...مع من و متى ؟    طقس الاثنين: تقلبات جوية خلال الساعات القادمة    حزب الله يرد على القصف الإسرائيلي ويطلق 35 صاروخا تجاه المستوطنات..#خبر_عاجل    السعودية: تحذير من طقس اليوم    السعودية: انحراف طائرة عن المدرج الرئيسي ولا وجود لإصابات    سينعقد بالرياض: وزيرة الأسرة تشارك في أشغال الدورة 24 لمجلس أمناء مركز'كوثر'    دولة الاحتلال تلوح بإمكانية الانسحاب من الأمم المتحدة    عملية تجميل تنتهي بكارثة.. وتتسبب بإصابة 3 سيدات بالإيدز    العروض الأجنبية بين الحقيقة والخيال...هل يحمي الترجي نجومه من لعبة «السماسرة»؟    الرابطة الثانية (ج 7 ايابا)    أسير الفلسطيني يفوز بالجائزة العالمية للرواية العربية    غار الدماء: قتيلان في انقلاب دراجة نارية في المنحدرات الجبلية    افتتاح الدورة السابعة للأيام الرومانية بالجم تيسدروس    البنك التونسي للتضامن يحدث خط تمويل بقيمة 10 مليون دينار لفائدة مربي الماشية [فيديو]    نابل: إقبال هام على خدمات قافلة صحية متعددة الاختصاصات بمركز الصحة الأساسية بالشريفات[فيديو]    عميد المحامين يدعو وزارة العدل إلى تفعيل إجراءات التقاضي الإلكتروني    بودربالة يجدد التأكيد على موقف تونس الثابث من القضية الفلسطينية    انطلاق فعاليات الدورة السادسة لمهرجان قابس سينما فن    تسجيل طلب كبير على الوجهة التونسية من السائح الأوروبي    جمعية "ياسين" تنظم برنامجا ترفيهيا خلال العطلة الصيفية لفائدة 20 شابا من المصابين بطيف التوحد    تونس تحتل المرتبة الثانية عالميا في إنتاج زيت الزيتون    الأهلي يتقدم بطلب إلى السلطات المصرية بخصوص مباراة الترجي    وزير السياحة: عودة للسياحة البحرية وبرمجة 80 رحلة نحو تونس    بمشاركة ليبية.. افتتاح مهرجان الشعر والفروسية بتطاوين    برنامج الدورة 28 لأيام الابداع الادبي بزغوان    في اليوم العالمي للفلسفة..مدينة الثقافة تحتضن ندوة بعنوان "نحو تفكرٍ فلسفي عربي جديد"    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف لقوات الاحتلال على النصيرات    مدنين: وزير الصحة يؤكد دعم الوزارة لبرامج التّكوين والعلاج والوقاية من الاعتلالات القلبية    القواعد الخمس التي اعتمدُها …فتحي الجموسي    وزير الخارجية يعلن عن فتح خط جوي مباشر بين تونس و دوالا الكاميرونية    طقس اللّيلة: الحرارة تصل 20 درجة مع ظهور ضباب محلي بهذه المناطق    السيناتورة الإيطالية ستيفانيا كراكسي تزور تونس الأسبوع القادم    بنسبة خيالية.. السودان تتصدر الدول العربية من حيث ارتفاع نسبة التصخم !    تألق تونسي جديد في مجال البحث العلمي في اختصاص أمراض وجراحة الأذن والحنجرة والرّقبة    خطبة الجمعة .. أخطار التحرش والاغتصاب على الفرد والمجتمع    منبر الجمعة .. التراحم أمر رباني... من أجل التضامن الإنساني    أولا وأخيرا...هم أزرق غامق    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



خفايا وأسرار تسليم الجزائر »عمر قرايدي« إلى تونس
نشر في الفجر نيوز يوم 02 - 07 - 2008


*طيلة وجودي بالسجن لم يقع التطرق لوضعيتي...
* عائلة الشيخ راشد الغنوشي، مرت بمدينة قلعة سنان أثناء هجرتها...
* هل يوجد تنسيق بين حركة النهضة التونسية... والمجموعات المسلحة بالجزائر؟...
* تم تسليمنا على متن طائرة عسكرية صغيرة مقيدي الأيدي، مثبتيْن في الكرسيين برفقتنا أعوان مسلحون من المخابرات العسكرية الجزائرية...
* قائد الطائرة العسكرية الجزائرية .. نظر لي ثم رفع نظره وسبابته اليمنى إلى السماء...
* لقد رأيت آثار التعذيب على المعتقلين الجزائريين...
* قلعة سنان ملاذ ثوار جبهة التحرير الوطني الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي...
*واقع الأمر في تونس رغم كثرة العراقيل...إلا أنه يبشر بخير...
*الذين عادوا إلى أرض الوطن، نظرت إليهم الأعين في الداخل على أنهم.... باعوا القضية، و بحثوا عن الخلاص الفردي، ورموا تاريخا... وراء ظهورهم...
* أسأل الذين خرجوا من تونس و بقوا بالمنفى: لماذا خرجتم من تونس إن كان سبب خروجكم ما زال قائما إلى حد اللحظة فلمَ الرجوع إذن؟

باريس / حوار الطاهر العبيدي
عمر القرايدي، لمن لا يعرفه هو أحد أبناء حركة النهضة التونسية، صدر فيه حكما غيابيا بالسجن لمدة 12 سنة من طرف المحكمة العسكرية التونسية سنة 1991، كان من الأوائل الذين فروا إلى الجزائر لطلب الحماية ومحاولة السفر من هناك لأوروبا، وهو كذلك من القلائل الذي عاش المنفى ليعود للسجن، حيث بقي في الجزائر أكثر من سنتين، ليقع تسليمه إلى السلطات التونسية، رغم أنه كان متحصلا على وثيقة من المفوضية السامية للاجئين بالجزائر، وبقيت زوجته "فاطمة " وابنتيه "نسيبة " "وتيسير" مشردين في العاصمة الجزائرية، وعند تسلمه من طرف الأمن التونسي تعرّض لأنواع شتى من التعذيب في مقرات وزارة الداخلية، لتعاد محاكمته من جديد ويثبت الحكم الأول 12 سنة سجن، أمضاها في سجون تونس الخضراء، وهو ابن مدينة قلعة سنان الواقعة في الشمال الغربي، وهي منطقة حدودية بين تونس والجزائر، كانت في وقت الاستعمار الفرنسي قاعدة عسكرية خلفية لجبهة التحرير الجزائرية، وفي باطن جبالها محفور مستشفى استخدمه ثوار الجزائر لعلاج جرحاهم، عمر القرايدي بعد خروجه من السجن الآن عضو بالمكتب التنفيذي لمنظمة حرية و إنصاف مكلف بالإدارة
ومنخرط بمنظمة العفو الدولية فرع تونس، طرحنا علية جملة من الأسئلة المرتبطة بالماضي والحاضر في جو من فرحة العائلة بفوز ابنته " نسيبة " هذه الأيام بنجاحها في امتحان الباكالوريا فكان هذا الحوار العفوي وثيقة في دفاتر التاريخ

سنة 1992 صدر فيك حكما غيابيا ب12 سنة سجن من طرف المحكمة العسكرية التونسية، وقد كنت من الأوائل الذين فرّوا إلى الجزائر، وبقيت هناك مدة طويلة، ثم تمّ تسليمك من طرف السلطات الجزائرية، فهل يمكن أن نعرف لماذا تعرّضت أنت بالذات للترحيل، في حين أن العديد وقع تسهيل سفره من الجزائر إلى الخارج ؟
بسم الله الرحمن الرحيم، تعرض أبناء حركة النهضة في مطلع التسعينات إلى محنة شديدة أتت على الأخضر واليابس، و بات مصير الواحد منهم إما سجين أو مهاجر، وكنت من القليلين الذين جمعوا بين صفتيْ الهجرة و السجن إذ بقيت في الجزائر من 14 أفريل 1991 إلى حدود 13 جوان 1993 تاريخ اعتقالي هناك،
واكتويت بنار الهجرة ، لأن البقاء في الجزائر أيام اندلاع الحرب الأهلية، وأيام شراسة الاشتباكات المسلحة، والتفجيرات اليومية التي كانت مركزة على العاصمة وضواحيها، يكون صعبا جدا إن لم نقل مستحيلا، وكنت من القليلين الذين بقوا في الجزائر ننتظر دورنا للانتقال من جحيم الجزائر إلى واحات الحرية الأوروبية، وكانت وتيرة السفر بطيئة للغاية، إذ يتم تسفير عائلة أو عائلتين كل شهر تقريبا، مما جعل الوقت يعمل لصالح الأجهزة الأمنية التونسية، التي تنتظر للانقضاض على بقايا حركة النهضة في الجزائر بعد خروج أهم القيادات الموجودة هناك، وكانت السلطة الجزائرية تعمل على تسهيل خروج الأفراد المتبقين مع بعض العائلات، إلا أنها كانت تحضر لاتفاقية تبادل المطلوبين بينها
وبين تونس، وبعد إمضاء الاتفاقية في شهر ماي 1993 تقريبا، تمت صفقة التبادل التي كنت من ضمنها ووقع تسليمي صحبة الأخ فتحي الورغي، في حين تسلمت الجزائر مطلوبيْن اثنين ينتميان للمجموعات المسلحة الناشطة آنذاك ضد سلطة الدولة الجزائرية، وربما وقع تسليمي أو مقايضتي صحبة فتحي الورغي لأننا الوحيدين اللذين بقيا هناك مما يعرف بالقضية الأمنية.

هل يمكن أن تستعيد لنا وصف تلك اللحظات، وما صاحب عملية تسليمك، وهل كنت وحدك أم معك بعض زملائك، وأثناء رحلة العودة هذه، هل كنت مقيّد اليدين، وماذا كانت مواقف الأمن الجزائري المرافقين الذين يدركون أنهم سيسلموك للعذاب بكل أشكاله؟
كانت لحظات عصيبة يقتاد فيها المرء إلى مصير مجهول، دخلت صحبة صديقي وأخي فتحي الورغي إلى المقر المركزي للأمن بالجزائر العاصمة، لاستكمال إجراءات السفر إلى ألمانيا، لم يكن ينقصنا إلا الترخيص الأخير من قسم الهجرة والأجانب بمركزية الأمن ، ذهبنا منذ الصباح الباكر وبقينا في الانتظار إلى المساء، إلى أن جاء أعوان من الأمن العسكري الجزائري
وأعلموا المسئول على قسم الهجرة والأجانب بأنني وفتحي الورغي مطلوبان لديهم، وعليهم إبطال إجراءات السفر، بما يعني أننا موقوفين على ذمة التحقيق، بقينا في المقر المركزي للأمن مدّة أسبوع للتثبت من صحة الهوية، وبعدها تم اقتيادنا في سيارة خاصّة، تحمل لوحة تفيد بأنها على ملك أحد التجار، لا يرى من خلالها أي شيء إلى مقر وحدة المخابرات العسكرية " ببوزريعة" وهناك دخلنا إلى بوابة من بوابات جهنم، وقع تفريقنا، أدخلوني إلى زنزانة انفرادية درجة الحرارة فيها مرتفعة جدا، ظلام دامس لا يوجد فيها إلا نصف حشية قديمة وغطاء ( زاورة )، أما الروائح و الناموس فحدث ولا حرج، للأمانة لم نتعرض للتعذيب، وإنما كنا نسمع أنات وصراخ المعتقلين الآخرين بالزنازين المجاورة، بقينا هناك ثمانية أيام تم التحقيق معي عديد المرات في غرفة لا يوجد بها سوى طاولة وكرسيين وأوراق بيضاء، وقلم
وكاميرا في أعلى السقف مصوّبة على الطاولة، أظن أن هناك فريقا كان يتابع البحث من خلال الكاميرا، كان همّ الجزائريين منصبّا على موضوع واحد: هل يوجد تنسيق بين حركة النهضة التونسية وبين قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ، والمجموعات المسلحة من خلالي أو من خلال من تبقى من التونسيين اللاجئين في الجزائر، وبعد قضاء الأيام المذكورة تم نقلي إلى سجن سركاجي ( السجن الجديد ) بأعالي القصبة وهو سجن قديم أسسه خير الدين بربروس وأضافت فرنسا جزءه الجديد، مشيّدا في شكل ثمانية ومتكون من طوابق عديدة، أدخلوني إلى الطابق السفلي الخاص بالعزلة الانفرادية والعقوبات ( تحس بدوار شديد وآلام حادّة بالرأس عند الوهلة الأولى من الدخول، ثم تبدأ تلك الحالة في النقصان والتلاشي ربما نتج ذلك عن شدة الرطوبة )، وهناك وجدت أخي فتحي الورغي صحبة شخص ثالث، بقينا هناك ثمانية أيام إلى جوار شيوخ الجبهة الإسلامية الذين كانوا في الزنزانات المجاورة أذكر من بينهم الشيخ عبد القادر حشاني رحمه الله، والشيخ يخلف الشراطي والشيخ عبد الحق العيادة
والشيخ عيساني وكذلك كان معنا في نفس الجناح الضابط بومعرافي المباركي المتهم بقتل الرئيس محمد بوضياف بالإضافة إلى عديد المعتقلين الآخرين.
بعد ثمانية أيام تم عرضي على المحكمة العليا بالجزائر العاصمة التي قضت بتسليمي للسلطات التونسية رغم أني قدمت ملفا للمفوضية السامية للاجئين التابعة للأمم المتحدة بالجزائر
واعتبرتني لاجئا وسلمتني شهادة تثبت وضعيتي مما يُلزم السلطات الجزائرية بأن لا تتخذ أي إجراء يتعلق بي دون مراجعة المفوضية السامية للأمم المتحدة إلا أن الرياح جرت بما لا تشتهي السفن، و تم نقلي على جناح السرعة صحبة فتحي الورغي إلى مطار البليدة العسكري، ومن هناك تم تسليمنا على متن طائرة عسكرية صغيرة لا تتسع لأكثر من عشرة أشخاص مقيدي الأيدي مثبتيْن في الكرسي وكان برفقتنا أعوان مسلحون من المخابرات العسكرية الجزائرية ، وحطت بنا الطائرة في مطار تونس قرطاج الدولي أين وجدنا بانتظارنا مجموعة من أعوان إدارة أمن الدولة تسلمونا بعد إجراءات البروتوكول مع زملائهم الجزائريين، واقتادونا إلى إدارة أمن الدولة بوزارة الداخلية بتونس.
أذكر لمّا ركبت في سيارة أمن الدولة في مطار تونس أن قائد الطائرة العسكرية الجزائرية التي أقلتنا نظر لي، وكان جالسا على مدرج الطائرة ثم رفع نظره وسبابته اليمنى إلى السماء ففهمت أنه دعا لي بالحفظ فابتسمت إليه لشكره ولإعلامه أن رسالته وصلت.
العديد من الفارين إلى الجزائر وغيرهم يثني على تعامل السلط الجزائرية مع وضعياتهم، ويصفونهم "بالرجلة" "والنيف" والشهامة فكيف تراه أنت؟
معاملة الأمن الجزائري لنا ولعائلاتنا كانت عادية يتخللها احترام متبادل، وهذه تحسب لهم ما عدا ما تخلل الإيقاف من إهانة في السجن سرعان ما وقع تفاديها بعد الاطلاع على ملفنا، أما معاملتهم لمواطنيهم رهن الاعتقال فلا يمكن تخيلها أو وصفها، لقد رأيت آثار التعذيب على المعتقلين الجزائريين، ولم أقابل واحدا منهم لم يذكر أنه تعرّض للتعذيب، حتى أنني التقيت شخصا جزائريا معتقلا بمقر الأمن المركزي وسط العاصمة يسأل كل داخل بلهجته العاصمية '' آي محمد جُزْتِ لا تورتير '' أي هل مررت بالتعذيب ؟ فيكون الجواب دائما '' نعم'' لأن التعذيب بالنسبة للمعتقلين الجزائريين نوع من التشفي
والتنكيل غير مرتبط بالبحث وانتزاع الاعترافات بالقوة.
كيف استقبلكم الأمن التونسي مباشرة بعد عملية التسليم، وهل صحيح أنك عذبت حتى فقدت القدرة على الوقوف على قدميك، وهل أعيدت محاكمتك من جديد وكم قضيت في السجن؟
بعد وصولنا إلى إدارة أمن الدولة بتونس وبعد الترحيب بنا في بلدنا، بدأت ساعة الحقيقة التي استمرت شهرين وخمسة أيام، نلت فيها ما لذ وطاب من الأكل من شهي جميع الموائد الدسمة المتنوعة من التعذيب بدون استثناء، سواء كانت دجاجا مشويا أو خروفا محنيا، كما سبحت في أحواض الماء، مع ما يرافق ذلك من تدليك جيد يساعد على الارتخاء والانتعاش، أما أسلاك التنشيط العصبي فهي جيدة لتنشيط الذاكرة وتنظيف جيوبها مما علق بها من أدران الماضي، و بعد تطهير الوعي
واللاوعي تم عرضي على المحكمة العسكرية، لأقوم بإجراءات الاعتراض لأنني محاكما غيابيا، وفي 10 أكتوبر 1994 قضت المحكمة العسكرية الدائمة بتونس بتأييد الحكم الصادر ضدي، بسجني مدة اثنتي عشرة سنة، قضيتها وخرجت من السجن بموجب سراح شرطي، وأنا الآن أخضع للعقوبة التكميلية المتمثلة في المراقبة الإدارية لمدة خمس سنوات.
خلال مدة السجن ما هي الحالات التي أثرت فيك أكثر من غيرها، وهل تعتبر نفسك ضحية صفقة أمنية، أم وقود لمعركة سياسية؟
يعيش الإنسان ليؤثر ويتأثر بما حوله، لذلك فكل هنيهة من زمن السجن تركت بصمتها في ذاكرتي وجسمي وعقلي وروحي
ونفسي سلبا وإيجابا ، أحتسب كل ما نالني عند الله سبحانه، فلست طالبا لسلطة ولا راغبا في جاه ولا طامعا فيما يملكه غيري، غيرتي فقط على ديني، انتميت لهذه الحركة المباركة التي آلت على نفسها أن تعيد للدين بريقه وأن تجدده في قلوب أبناء هذا الوطن العزيز وأن تتحمل الصعاب والمحن في سبيل ذلك، عملت في حقل الدعوة في المعهد عندما كنت تلميذا، وفي قلعة سنان المنسية رغم شهرتها، كنت مع لفيف قليل من الإخوة ندعو إلى العودة إلى الينبوع الصافي، ندعو إلى المحافظة على الصلاة
والتمسك بالقرآن، والتشبه بشمائل سيد المرسلين، كنا دعاة لا بغاة، لم نضمر الشر يوما لأحد حتى أسيء فهم مقصدنا فتأوّله المتأولون وزخرفه المغرضون ، واليوم و قد نالنا ما نالنا فإننا وقفنا على حظنا من أمرنا فما وجدناه سلبا نأينا بأنفسنا عنه
وطهرناه وما وجدناه حسنا زكيناه وأكدناه ، ربما زمن الاعتقال كنت ضحية صفقة أمنية، ولكن قلبي مطمئن الآن إلى عودتي فلو اطلعت على الغيب لرضيت بالواقع أما قولك أنني ربما كنت وقودا لمعركة سياسية، فهذا ما لا أرضاه لنفسي ولا لغيري لأن فيه من الغمز واللمز الشيء الكثير، أما فترة السجن فموقفي منها يعلمه إخواني الذين كانوا معي، فقد كنت أجيبهم دائما عن سؤالهم متى نخرج ؟ بقولي : عندما نحفظ القرآن، لقد دخلنا السجن لقضاء أحكام بلغت في عدها أعمار الدينصورات فوجدنا عبادا من فصيلتنا ( مساجين الحق العام ) يعيشون في ظلمات الجاهلية ( كفر وجهل وفقر وفسق ) فناضلنا من أجل الحفاظ على الكينونة وإثبات الوجود في مرحلة أولى ضد مشروع المسخ
والخسف والتجهيل والتجويع والإبعاد وفي مرحلة ثانية غلبت علينا طبيعتنا الدعوية فهدى الله على أيدينا الآلاف من مساجين الحق العام، الذين تذوقوا حلاوة الإيمان والقرآن للمرة الأولى في حياتهم، والذين وقفوا ويقفون الليالي الباردة الطوال قياما لله توبة مما اقترفت أيديهم وندما على ما فاتهم من أعمال البر والتقوى،
وها أن اليوم كالبارحة يصطفي الله لهذه المهمة من يكملها، فيدخل شبان من أبناء الصحوة الثانية ليتمّوا بناء ما زال في حاجة إلى بنّاء، أحسب أن السجن محنة للدعاة ليس مكتوبا عليهم جميعا ولكنه مرحلة ضرورية للتمحيص '' ليميز الله الخبيث من الطيب '' والسؤال الذي يطرح نفسه ليس: لماذا دخلنا السجن؟ أو من المسئول عن دخولنا السجن ؟ فالذي يطرح هذا السؤال حسب رأيي إما جاهل بالأمور وجب علينا أن نرشده أو فتان يريد إدخال الفتنة بيننا وجب التنبه إليه والحذر من نفثه ونفخه، لأن السؤال هو ماذا استفدنا من سجننا؟ وكيف السبيل لتدارك ما فاتنا ؟ مع الأخذ بعين الاعتبار بتغير الحال وثقل متطلبات المآل ، لقد أرادوها حالقة لا تبقي ولا تذر ومحنة تأتي على الأخضر
واليابس، فانقلبت بنعمة من الله وحفظه وفضله منحة ميّزت الخبيث من الطيب ونارا أذهبت ما تعلق بالذهب من الشوائب '' أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون ''.
بعد ترحيلك إلى تونس، بقيت زوجتك فاطمة ومعها بنتين مشرّدة في الجزائر وفي وضعية غير قانونية، فكيف تمكنت من العودة إلى تونس، وما هي جملة الظروف التي واجهتها خلال عودتها الاضطرارية؟
بعد ترحيلي إلى تونس في 8/7/1993 بقيت زوجتي فاطمة هناك صحبة ابنتيّ نسيبة ( 3 سنوات ) وتيسير ( سنتان ) بالجزائر العاصمة مع بعض العائلات التونسية الأخرى، التي تنتظر دورها للخروج إلى أوروبا، إلا أنه بعد اعتقال السلطات الجزائرية لمجموعة من الشباب النهضوي وتسليمهم للسلطات التونسية في منتصف سنة 1994، لم يعد هناك بدّ من الاستمرار في المكوث هناك، فقرّرت زوجتي صحبة عائلة أخرى تم تسليم عائلها مع المجموعة المذكورة آنفا الاتصال بالسفارة التونسية بغية العودة إلى تونس، وفعلا قامت السفارة التونسية بإجراءات السفر، وتمّت عودة عائلتي على متن الطائرة، ومن مطار تونس قرطاج تم اقتيادها إلى وزارة الداخلية أين قاموا ببحثها وإطلاق سراحها على أن تعود إليهم في الأسبوع المقبل.
بعد خلوّ التراب الجزائري من أفراد حركة النهضة الذين كانوا يقدمون العون لبعضهم البعض، عاشت زوجتي وبنتاي معاناة صعبة في ظروف قاسية للغاية، وانقطعت عنها كل السبل، ولم يعد بمقدورها الاتصال بأي جهة، فرأت أنه من الواجب أن تعود لتونس مهما كانت التكاليف، أما بعد عودتها فقد تعرّضت لكثير من المضايقات من قبل منطقة الأمن بالكاف ومركز شرطة قلعة سنان، أما بخصوص معاملة أعوان إدارة أمن الدولة بوزارة الداخلية، فقد أكدت للأمانة أنهم عاملوها معاملة حسنة هي
والعائلة التي وقع تسليمها معها.
بماذا تفسّر أن طيلة وجودك في السجن لم يقع التحرك من أجلك، ما جعل البعض يرد ذلك إلى كونك ابن مدينة قلعة سنان آخر نقطة في الشمال الغربي، مما يعني حسب هذه الرؤى أن الجهوية تتحكم في شكل التحركات السياسية والحقوقية لفائدة المساجين ؟
طيلة وجودي بالسجن لم يقع التطرق لوضعيتي إلا من خلال تقرير يتيم فيه قائمة اشتملت على أسماء من تبقوا بالسجن بعد سنة 2002، كما ذكر أيضا المرض الذي أعاني منه، وهذا ليس تقليلا ولا تحقيرا فالجهوية وإن كانت مترسّبة في لا وعي التونسي نسأل الله أن يشفينا جميعا منها إلا أنها أقل نسبة و ترسبا عند الإسلاميين مقارنة بغيرهم، و ليست الأسماء هي الأهم في قضية السجن والمساجين، بل الملف عموما فلو وقع تحرك معين في سجن ما، ووقعت تغطية إعلامية لذلك التحرك لاعتُبر ذلك تحريكا للملف برمته، مهما كانت استفادة شخص بعينه من ذلك التحرك.
إن قلعة سنان أكبر من أن يُبخس حقها بعدم ذكر واحد من أبنائها قضى ما يزيد عن العشرية بأحد سجون الخضراء فهي مائدة يوغرطة وقلعته الشهيرة التي حارب منها غزاة تونس وهي قلعة سنان باشا التركي التي تحصن بها عند طرده للأسبان، كما كانت قلعة للجيوش الإسلامية إبان فتح افريقية وهي ملاذ ثوار جبهة التحرير الوطني الجزائرية إبان الاحتلال الفرنسي وخصوصا بعد استقلال تونس إذ كانت تمثل لهم القاعدة العسكرية الأولى وبها مستشفى محفور تحت جبالها استخدمه ثوار الجزائر لعلاج جرحاهم، كما هي مدينة الشهيد أحمد العمري الذي قضى نحبه في الأحداث الطلابية الشهيرة 8 يوم ماي 1991.
ومن ملامستي للعمل الحقوقي بعد خروجي من السجن أستطيع أن أؤكد عدم صحة القول بتحكم الجهوية في شكل التحركات السياسية والحقوقية لفائدة المساجين، وإن كانت تفوح من بعضها رائحة هذه النزعة في بعض المناسبات القليلة كالتركيز على أشخاص معينين أو تضخيم بعض الأحداث.
ما صحّة ما يروى، أنك أنت من ساعد على تهريب عائلة الشيخ راشد الغنوشي؟
عائلة الشيخ راشد الغنوشي، وكثير من العائلات الأخرى مرت بمدينة قلعة سنان أثناء هجرتها، وقد نالهم جميعا بعضٌ من كرم جهة القلعة وأتمنى أن لا تكون الجهة قد قصّرت في وفادتهم حتى لا يقال عن أبناء مدينتنا بأنهم ليسوا كرماء.
بعد خروجك من السجن التحقت بمنظمة حرية وإنصاف، وقبلها كنت ضمن الجمعية الدولية للدفاع عن المساجين السياسيين، فكيف استطعت الانخراط في العمل الحقوقي في ظل المحاصرة الأمنية، واستلاب الحرية للمسرحّين من السجن عبر الإمضاء اليومي في مختلف المخافر ؟
الانخراط في العمل الحقوقي حق لكل مواطن تونسي، وليس منّة من أحد، ويبقى لكل واقع مقتضياته، وواقع الأمر في تونس رغم كثرة العراقيل فيه إلا أنه يبشر بخير عميم، سيعود على التونسيين جميعا في نهاية المطاف، لأن الواقع الحقوقي مرتبط بالأساس بالواقع الإعلامي الدولي، وكلما كان الرصد جيدا كلما تقلصت مساحة الانتهاكات، واتسعت مساحة الحراك الحقوقي، وانضافت إلى عقلية المواطن ثقافة جديدة لم يكن يستوعبها من قبل هي معرفته الجيدة بحقوقه، والأهم من ذلك معرفة المحافظة عليها
والدفاع عنها.
إن المحاصرة الأمنية وتضييق هامش الحرية للمسرّحين من خلال سيف المراقبة الإدارية، لا يحدّان بأي حال من الأحوال من إرادة الفرد في الانخراط في العمل الحقوقي، الذي يعود بالخير على البلاد و العباد.
منظمة حرية وإنصاف تتعرض للمضايقات والمحاصرة، والاعتداءات اليومية والتهديد بالقتل لبعض أعضائها، فكيف تمارسون عملكم في مثل هذا الوضع الذي يتسم بالرعب الأمني؟
الفعل الحقوقي مجهود يومي متواصل، فيه بذل وتضحية وتحدّي للصعاب، ولا يجرمننا شنآن قوم على التقاعس عن أداء واجبنا في رصد الانتهاكات، وكشفها وإنارة سبيل المتظلمين، ومواساة المكروبين، والاجتهاد في جعل الساحة التونسية ساحة تعترف للجميع بالحقوق، تقول للمحسن أحسنت وللمسيء أسأت، تشدّ على يدي المظلوم، وتبصّره بطرق الوصول إلى حقه، وتبين للظالم ظلمه، وتحذّره من مغبة التمادي فيه، نحن منظمة حقوقية مستقلة، لا نعادي أشخاصا بعينهم، وإنما نسعى في جهد مشترك مع كل الناشطين إلى أن تكون جميع الحقوق محفوظة ومحترمة، وأن يعم الإنصاف بلادنا، حتى لا يبقى تونسي واحد يرفع مظلمة.
كيف تنظر أنت من الداخل إلى عودة بعض أفراد من المنتمين لحركة النهضة، إلى تونس بعد سنوات من المنفى؟
أسأل الذين خرجوا من تونس و بقوا بالمنفى: لماذا خرجتم من تونس سنة 1991؟ إن كان سبب خروجكم ما زال قائما إلى حد اللحظة فلمَ الرجوع إذن؟ أما إذا زال السبب فلمَ البقاء بالمَهَاجر؟ أما رأيي في العودة كمبدأ فإنها حق لكل تونسي مهاجر، وزمانها رهين بإرادة الشخص الذي يرزح تحت ضغوطها، النفوس تختلف وقدرة التحمل تختلف من شخص لآخر ، '' و لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ''.
للأمانة أقول أن هؤلاء الرهط الذين عادوا إلى أرض الوطن، نظرت إليهم الأعين في الداخل بادئ الرأي على أنهم متساقطون باعوا القضية، وبحثوا عن الخلاص الفردي، ورموا تاريخا ناءت به أكتافهم وراء ظهورهم، أما أعين بعض المتتبعين الذين ركزوا على الجانب الإنساني للقضية، فرأوا أن من حق كل مواطن تونسي أن يعود لبلاده متى شاء ومهما كانت التكاليف، دون تبديل أو تحريف، وأن يواجه المشكلة أمامه ولا يهرب منها تاركا إياها وراء ظهره، وأنه من باب الإنسانية أن لا يظل المرء محروما من أقرب الناس إليه، فقد مات من مات وولد من ولد
وكبر من كبر، تقطعت صلة الرحم قسرا لا اختيارا وتغيرت ملامح شجرة النسب والقربى والناس في لهث شديد.
و إنني أستغل هذه المناسبة لأدعو السلطة التونسية أن تغلق هذا الملف نهائيا بسن عفو تشريعي يخرج بمقتضاه السجين من السجن و يعود المهاجر إلى وطنه ، إن المهاجرين اليوم في حاجة ماسة إلى تونس و تونس في حاجة ماسة إليهم، لم يعودوا كما كانوا فرادى هم اليوم في أضعاف أضعاف، أعدادهم التي خرجوا بها فيهم من أصبح جدا له أحفاد، وفيهم من أصبح أبا له أولاد ولا ننسى النساء كبارا وصغارا ( بحكم غلبة العاطفة عليهن ) اللواتي تمنين رؤية آبائهن أو أمهاتهن قبل ورود المنايا، أليس من الحكمة أن يصدر الأمر بالسماح لهم جميعا بالدخول إلى أرض الوطن في بادرة سيسجلها التاريخ في سجل تونس الخضراء العزيزة علينا جميعا، دون إقصاء أو تهميش أو تخوين أو تخويف؟
المصدر بريد الفجرنيوز


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.