سعيد يكلف الحشاني بتمثيل تونس في قمة مجموعة الدول الصناعية السبع    تأجيل مباراة أنس جابر في ثمن نهائي دورة نوتنغهام للتنس    لا يدخل الجنة قاطع رحم    منها الطاعة والتضحية والتكافل ..أحكام وآداب عيد الأضحى المبارك    منبر الجمعة .. الاهتمام بحُسْنِ المنظر سُنَّة نبوية    تصل إلى 72 درجة.. الصحة السعودية تحذر الحجاج من خطر ارتفاع حرارة الأسطح بالمشاعر المقدسة    تكليف ربيعة بالفقيرة بتسيير وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية    كرة اليد.. لؤي مخلوف يطلق النار على مسؤولي النجم ويوجه لهم اتهامات خطيرة    الوسلاتية.. السيطرة على حريق اندلع بجبل زغدود    اليمين المتطرّف يجتاح أوروبا.. أي تأثير على تونس ؟    يوميات المقاومة..المقاومة تضيّق الخناق على الغزاة    بعد أكثر من 20 ساعة: السيطرة على حريق مصفاة نفط في شمال العراق    الصحة السعودية تحذر الحجاج من أخطار التعرض لارتفاع حرارة الأسطح بالمشاعر المقدسة    فظيع في منوبة.. الاحتفاظ بصاحب " كُتّاب " عشوائي لشبهة الاعتداء الجنسي على طفلة    سهلول.. حجز أكثر من 450 مليونا من العملتين التونسية والأجنبية وكمية هامة من الذهب    أردوغان يدعو الولايات المتحدة ومجلس الأمن إلى الضغط على دولة الاحتلال بشأن هدنة غزة    تونس توقع مذكرة تفاهم مع الاتحاد الاوروبي لتعزيز امكانيات الاستثمار في الطاقات المتجددة    الكاف: تقدّم هام في مشروع تعبيد الطريق المؤدية الى مائدة يوغرطة الأثرية وتوقعات بإتمامه خلال شهر جويلية القادم    رهانات الصناعات الثقافية والإبداعية في الفضاء الفرنكفوني وتحدياتها المستقبلية محور مائدة مستديرة    كتاب.. لاهوت التعدّدية الدّينية ل عزالدّين عناية    الرابطة 1 - الترجي الرياضي على بعد نقطة من حصد اللقب والاتحاد المنستيري من اجل تاجيل الحسم للجولة الختامية    كأس أوروبا للأمم 2024: استخدام تقنية الحكم المساعد "الفار" سيكون مرفوقا بالشرح الاني للقرارات    كاس امم افريقيا المغرب 2025: سحب قرعة التصفيات يوم 4 جويلية القادم بجوهانسبورغ    165 حرفيا ومهندسا داوموا على مدى 10 أشهر لحياكة وتطريز كسوة الكعبة المشرفة    محافظ البنك المركزي: السياسة النقدية المتبعة ستسمح بالتقليص من معدل التضخم    تونس تسجل ارتفاعا في عجز ميزان الطاقة الى 6ر1 مليون طن مكافئ نفط مع موفي افريل 2024..    وزارة التربية تتثبّت من معطيات الأساتذة النواب خلال الفترة من 2008 الى 2023    الشركة الجهوية للنقل بنابل تتسلم 4 حافلات جديدة    تأييد قرار تمديد الاحتفاظ بمحرز الزواري ورفض الإفراج عنه    ارتفاع حركة مرور المسافرين والشاحنات التجارية في معبر الذهيبة    فيديو - منتدى تونس للاستثمار : وزيرة التجهيز تتحدث عن الإتفاقيتين المبرمتين مع البنك الاوروبي للاستثمار    المرسى: بسبب خلاف في العمل...يترصد نزوله من الحافلة ليقتله طعنا    باجة : اعتماد طائرات درون لحماية محاصيل الحبوب    مجلس وزاري يصادق على خارطة الطريق المقترحة لإطلاق خدمات الجيل الخامس    مرضى القصور الكلوي يستغيثون اثر توقف عمل مركز تصفية الدم بمستشفى نابل    تفكيك وفاق اجرامي للاتجار بالمنقولات الأثرية    رابطة المحترفين تقاضي الفيفا بسبب قرار استحداث كاس العالم للاندية 2025    توزر: الجمعية الجهوية لرعاية المسنين تحتفل باليوم العالمي للتوعية بشأن إساءة معاملة المسنين    إستعدادا لكوبا أمريكا: التعادل يحسم مواجهة البرازيل وأمريكا    البنوك تفتح شبابيكها يوم السبت    الداخلية: سقوط عون الأمن كان فجئيا    مفتي الجمهورية: "هكذا تنقسم الاضحية في العيد"    الصوناد: هذه الإجراءات التي سيتم اتّخاذها يوم العيد    الكنام تشرع في صرف مبالغ استرجاع مصاريف العلاج لفائدة المضمونين الاجتماعيين    بطولة كرة السلة: تعيينات منافسات الدور النهائي    محمد بن سلمان يعتذر عن عدم حضور قمة مجموعة السبع    الرابطة المحترفة الاولى: الجولة الختامية لمرحلة تفادي النزول    اليوم: طقس مغيم مع ظهور خلايا رعدية بعد الظهر والحرارة بين 25 و46 درجة    عاجل: تفاصيل جديدة في حادثة وفاة أمنيّ اثناء مداهمة بناية تضمّ مهاجرين أفارقة    هكذا سيكون الطقس في أول أيام عيد الأضحى    باجة: تقدم موسم حصاد الحبوب بنسبة 30 بالمائة    بعد استخدامها لإبر التنحيف.. إصابة أوبرا وينفري بمشكلة خطيرة    دواء لإعادة نمو أسنان الإنسان من جديد...و هذه التفاصيل    120 مليونا: رقم قياسي للمهجرين قسراً حول العالم    هذا ما قرره القضاء في حق رئيس حركة النهضة بالنيابة منذر الونيسي..#خبر_عاجل    «غفلة ألوان» إصدار قصصي لمنجية حيزي    صابر الرباعي يُعلّق على حادثة صفع عمرو دياب لمعجب    شيرين تصدم متابعيها بقصة حبّ جديدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الضرر المنهجي في أزمة المواجهة : د. عبدالمجيد النجار
نشر في الفجر نيوز يوم 01 - 10 - 2008

حينما تنشب مواجهة بين طرفين من المجتمع الواحد فإنّ أضرارا كثيرة تصيب الطرفين في الغالب أو أحدهما على الأقلّ ، وحينما تشتدّ تلك المواجهة لتأخذ شكل تدافع صراعي عنوانه التنافي الذي يسعى من خلاله كلّ طرف إلى نفي الطرف الآخر فإنّ حجم الضرر يتوسّع في كمّه وكيفه،
وحينما يكون ذلك الصراع قائما على ظلم يشعر أحد الطرفين أنّه مسلّط عليه من قِبل الآخر فإنّ الضرر قد يبلغ مداه من العمق على واجهات متعدّدة، نائلا بالأساس من الطرف المظلوم أو الشاعر بأنه كذلك.
قد يكون معهودا ما يترتّب على المواجهات الصدامية من ضرر يلحق النفوس والأجسام: ألما معنويا وماديا، أو يلحق بالأسر: معاناة عاطفية وتفكّكا في الروابط، أو يلحق بالأموال: تلفا لأعيانها أو عجزا عن تحصيلها، ولكن قد يغفل كثيرون عمّا تسبّبه تلك المواجهة من ضرر بالغ في المنهج الذي يتمّ به التفكير في تقدير الأمور وصناعة الحلول، ويتمّ به اتخاذ المواقف العملية لمواجهة الأحداث، وهو الأمر الذي يزداد استفحالا حينما يتوالى أمد الصراع، ويمتدّ في الزمن طويلا، وأخطر ما في هذا الضرر أنه يطال الآلة التي تتمّ بها صناعة الأحكام، ألا وهي المنهج، فيمتدّ أثره بالسلب إلى كلّ ما تثمره تلك الصناعة من الأفعال والمكاسب والأعمال. وإن لهذه المقولة لمصداقا في الماضي والحاضر حتى لكأنها قانون تجري به الحياة الاجتماعية في كلّ زمان.
في الماضي اشتبك الخوارج في صراع مرير مع الحكام ومع غيرهم من طوائف المسلمين، فكان من الثمار المرّة لذلك ما ترسّخ لديهم من منهج تكفيري أصبحوا يزِنون به كلّ الآراء والمواقف، وحدثت من ذلك فتن كقطع الليل لا تزال آثارها فاعلة إلى اليوم. والشيعة في صراعهم مع أولي الأمر من الحكّام اختزنوا شعورهم بالظلم حتى تحوّل إلى منهج تأويلي باطني أتى عند بعضهم بالتحريف على أصول من الدين، وإلى الحكم بالضلالة التي قد تصل إلى حدّ الكفر على كلّ مخالفيهم فيما يعتقدون.
ولسنا اليوم في منجاة من أن ينطبق علينا هذا القانون، كما أنه لن يكون شفيعا لنا يحول دون ذلك حسنُ النوايا وصدق الضمائر والمصابرة على ما نعتقد أنه الحقّ؛ ولذلك فإن الصراع الذي تخوضه بعض أطراف المجتمع مع أطراف أخرى أو مع النظام الحاكم مرشّح هو أيضا إلى أن يفضي بنا إلى أخلال منهجية نلمح بعضا من إرهاصاتها بل بعضا من بوادرها فيما نقرأ من المقالات وما نشهد من المواقف؛ ولذلك وجب التنبيه إلى هذا الخطر حتى لا نفقد الميزان المنهجي الذي نزِن به الرؤى ونقدّر به المواقف، فتنكسر إذن مجاذفنا، ونلقي بأنفسنا إلى التهلكة. ولعلّ من أهمّ ما يصيبنا من خلل منهجي جرّاء الصراع الذي طال أمده في بلادنا بين بعض الأطراف فيها ما نورده تاليا:
أولا تقدير الوقائع بميزان العواطف.
لعلّ الخطوة الأولى في المنهج الصحيح الذي ينبغي أن يكون ميزانا للحقّ في الرؤى والمواقف هو تشخيص الواقع الذي هو مسرح التدافع على نحو ما هو عليه في حقيقته الذاتية، إذ ذلك هو المدخل الصحيح للتعامل معه التعامل المؤدّي إلى ما فيه الخير، ولكنّ الصراع حينما يطول أمده، وتشتدّ وطأته كثيرا ما يفضي بالمتصارعين إلى تشخيص الواقع من خلال ما تحكم به العواطف: نكالا في الطرف المقابل بتبشيع صورته إلى أقصى حدّ ممكن أحيانا، أو استخذاء انتهازيا أحيانا أخرى، وفي كلّ الحالات ترتسم صورة لمجمل المشهد لا تعكس الحقيقة الواقعية، وتُبنى على تلك الصورة الزائفة برامج العمل، وأساليب التعامل، ولا تكون النتيجة إلا خطأ لأنها بُنيت على الخطإ.
وقد تكون حقيقة الواقع معلومة أحيانا، ولكن يقع كتمانها وتُظهر بدلها الصورة الزائفة استجابة لما تقتضيه المناورات السياسية التي أصبحت لا تنضبط بضوابط العدل، وهي درجة من الخطإ فيما نقدّر بسيطة التركيب، ولكنّ الدرجة المركّبة من الخطإ والتي قد تنتهي إلى الضرر الأبلغ هي تلك التي تستقرّ فيها الصورة الزائفة للواقع في الأذهان منسوجة بخيوط العواطف مع الاعتقاد بأنها هي الحقّ، ثم يقع الانطلاق منها على زيفها لتكوين الرؤى والأفكار، ورسم خطط المواقف والمواجهات، ولا تكون النتيجة إذن إلا البوار في تلك الرؤى والمواقف، إذ شرط العلاج لكي يكون ناجعا هو أن يكون تشخيص الداء صحيحا، ولعلّ ذلك هو ما نبّه إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ' ولا يجرِمَنّكُم شَنآنُ قَوم على ألاَّ تَعدِلُوا اعدِلُوا هو أقربُ للتَّقوى ' ( المائدة/8 )، فمشاعر العداوة كما في الآية ينبغي أن لا تكون هي القيّمة على تشخيص واقع الأعداء وما يفعلون، وإنما ينبغي أن يكون ميزان العدل هو القيّم على ذلك التشخيص لتنقل الصورة على حقيقتها، وليكون الحكم إذن هو الحكم الصائب في صناعة المواقف وأساليب التعامل.
وربما ساعد اليوم على الوقوع في هذا المنزلق المنهجي ما يمكن أن نسمّيه بأوهام الانترنات؛ ذلك أننا نرِد كلّ صباح على هذا المعين، فنأخذ منه أخبارا جزئية عن أحداث تقع في بلادنا تكون أحيانا كثيرة فجّة غير نضيجة لسرعة ما يقع التقاطها ونشرها قبل أن تمتحنها يد التمحيص والتحرّي، وتكون في الغالب قد حررتها أقلام من هذا الطرف أو ذاك من المتدافعين، دون أن تتوفّر لنا فرصة للنقد العلمي في شأنها، أو دون أن نبذل جهدا في ذلك النقد، فإذا على سبيل المثال ترتسم في أذهاننا جرّاء تلك الأخبار الجزئية الطرية صورة لواقع يمور بأسباب من الاضطراب توشك أن تفجّر الوضع بأكمله في وجوه الحكّام كما نراه في كتابات بعض المعارضين وتصريحاتهم، أو صورة لواقع ينعم بأسباب من الرخاء توشك أن تجعل ذلك الوضع قريبا من فراديس الجنان كما تصوّره أقلام وألسنة استصحبت لغة خشبية سادت زمنا طويلا فأصبحت مطبوعة على المديح الذي لا يرى إلا البياض وحذفت من قاموسها ألوان السواد ، وهكذا تنطبع في النفوس والعقول صورة للواقع زائفة في اتجاهين متناقضين بحسب مواقعها في صفوف المواجهة وما هي به مستعدّة من المشاعر للقبول: هوًى من العداوة، أو هوًى من الممالأة والانتهاز. وعند التحرّي الرصين يتبيّن أنّ الواقع لا هو هذا ولا ذاك، وإنما هو مشهد يتكوّن من مربعات سواد ومربّعات بياض، ولكن تسبق الصورة الزائفة الموهومة بالانترنات لتؤسَّس بها على خطإ الأفكار وأساليب التعامل، إذ حينما تكون المقدمات خاطئة تكون النتائج كذلك على وجه اليقين.
ومنذ أشهر كتبت مقالة عما رأيته من واقع الوضع التونسي خلال العشريتين الماضيتين بناء على قدر من التحرّي الذي ترشد إليه الآية السالفة، ورسمت فيه مربعات لما في ذلك الواقع من بياض وأخرى لما فيه من سواد بغية أن ننطلق في التعاطي معه من منطلق حقيقته كما هو عليها، الأمر الذي رأيت أنّ من شأنه أن يسدّد خطانا في ذلك المسار، ولكن تلك المقالة قوبلت بنكير صاخب من قِبل بعض الأحباب، وربما بنكير أيضا من بعض الخصوم، وما زلت في حيرة من أمر ذلك النكير، هل هو بسبب أنّ ما قلته ليس حقّا فيُحاكم إذن إلى الوقائع كما ذكرتها وهي أصدق الشاهدين بخطإ المقولة أو صوابها، أم هو بسبب أنّ ما قلته حقّ ولكنه لا ينبغي أن يُقال من باب المناورة السياسية، ولمّا لم يصحب ذاك النكير بيان لا بهذا ولا بذاك، فلم يبق عندي من تفسير إلاّ أنّ ذلك ما هو إلا إفراز لخلل منهجي صنعته عشريتان من الصراع المرير مع السلطة الحاكمة، أصبحت الأذهان فيها لا تقبل في شأن ما تقول وما تفعل إلا السواد الذي تصنعه مشاعر الشنآن، أو البياض الذي تصنعه مشاعر العصبية أو الانتهازية، وهكذا تضيع حقيقة الوقائع لتحلّ محلّها الصورة الخطأ، فيُبنى عليها الرأي الخطأ، ويُتّخذ منها الموقف الخطأ بسبب من هذا الخلل المنهجي.
ثانيا الانشغال بالهدم عن البناء
صراع الفرقاء إذا ما طال أمده أفضى إلى ضرب من ثقافة الهدم؛ ذلك لأنّ الخصم بما يترسّخ في الأذهان من أنّه على الباطل يتأسّس، وعلى الخطإ تدور كلّ دواليبه، فإنه يكون من الحقّ أن يُعامل بالهدم لأسسه وأفكاره، ولمساعيه وأعماله، إذ هو العائق دون الحقّ الذي ينبغي أن يقوم، وهكذا يصبح الهدم هو الصناعة التي تتمحّض لها الجهود، أما البناء لتأسيس ما ينبغي أن يكون فيصبح متأخّرا في الرتبة، بل قد يصبح نسيا منسيا.
ويزداد هذا المشهد قتامة حينما يقَر في النفوس أنّ الهدم هو الواجب الأول في حلبة التدافع بين فرقاء الوطن حينما تعتقد أنّ خصمك يقوم على باطل، ويتبع ذلك شعور بأنّه إذا ما مُورس ذلك الهدم فإنّ الواجب يكون قد تمّ على أحسن الوجوه، وأنّ الضمير قد استراح إذا ما وقع التمادي في ممارسة الهدم للخصم المناوئ بأشكال مختلفة، تبشيعا وتشنيعا، وتزييفا للأقوال والأفعال، وتسفيها للرؤى والأفكار، وتبخيسا للمنجزات والأعمال، وقد يتعدّى الأمر إلى نصب المكايد المتبادلة للنيل من الوجود المادّي للخصم المناوئ، وهكذا تتكوّن بطول الصراع ثقافة للهدم ليس فيها للبناء مجال.
إنّ هذا الخلل المنهجي قد يصيب الحركات التي قامت بغية إصلاح تحمل فيه مشروعا نبيلا دون أن يعصمها منه نبل المقصد ولا صدق النوايا، وذلك في حال ما إذا امتدّ حبل المناوأة لمن تراه طرفا يعوق دون الإصلاح الذي تريد، وهو المشهد الذي بدأت تظهر منه في بلادنا مصاديق ملحوظة، سببها فيما نرى شدّة ما طال من صراع بين جملة من الفرقاء، وعلى رأسه يأتي صراع بين صفّ النظام الحاكم من جهة، وصفّ الفصائل المعارضة وفي مقدمتها المعارضة الإسلامية من جهة أخرى.
وقد كان يجب فيما يقتضيه المنهج السويّ أن تتّجه حركة التدافع إلى البناء لما ينبغي أن يكون في مشروع الإصلاح الذي تحمل: رؤى وأفكارا، وبرامج ومشاريع، لتكون تلك الأفكار والمشاريع هي القائمة بمهمّة الدفع لمن يُرى أنه باطل في الطرف المقابل، وتتولّى هي عملية الهدم بطريقتها بدل أن يُكتفَى بالهدم بالأقوال المشنّعة، والمواقف الشانئة، على أنّ ذلك الهدم قد يكون ضروريا هو أيضا في بعض الأحيان على وجه الابتداء، ولكن بتقدير دقيق، لا ينقلب فيه إلى ثقافة تحبط البناء وإرادة البناء.
ومما أعجبني في هذا السياق ما كتبه العالم المقاصدي الدكتور أحمد الريسوني من مقالة تأصيلية بعنوان ' إنجاز البدائل مقدم على مقاومة الرذائل '، ومن بين ما جاء فيها قوله:' ينبغي أن تعطى العناية والأولوية للأعمال والمبادرات والمشاريع الإيجابية البناءة والمفيدة ..وإن هذا المنهج سيقتضي حتما تقليصا في مقدار الاشتغال بمحاربة المفاسد والرذائل لفائدة إنجاز المصالح البدائل. إن القيمة الحقيقية أو القيمة المضافة لأعمالنا وجهودنا هي أن نوقد شمعة لا أن نلعن الظلام، فلعن الظلام يحسنه كل أحد ويمارسه كل أحد، وللأسف فإن كثيرا من الحركات والأحزاب الإسلامية قد حُشرت أو حشرت نفسها في مربع المعارضة وفي منطق المعارضة، ومنطق المعارضة هذا يلزمك أن تقف دوما بالمرصاد لكي تنتقد وتستنكر وتدين وتستهجن وتقاوم وتعارض وتفضح وتسبّ وتلعن، والاشتغال بالمعارضة والمناهضة ينبغي أن يكون مهمة عرضية لا مهنة دائمة، أما الأصل الدائم فهو الاشتغال بالبناء والإنجاز وتحقيق المصالح والمنافع' (مقالة بموقع الحوار نت).
وبالإضافة إلى ما أصّل به شيخ المقاصد رؤيته هذه في القرآن والسنة فإنني أضيف أنّ القرآن الكريم يوجّه دوما إلى أنّ الباطل الذي يُراد أن يُبطل ينبغي أن يستحضر مبطلوه الحقّ أولا لإبطاله به، وذلك ما يشير إليه قوله تعالى:' بل نقذِفُ بالحَقِّ على الباطِلِ فيدمَغُه فإذا هو زاهِقٌ' ( الأنبياء/18)، فلكي يُزهق الباطل ويهدم ينبغي أن يكون الحقّ جاهزا مسبقا ليُدمغ به، وما كان النبي صلى الله عليه وسلم يبطل فاسد المعتقدات والعادات إلا ومشروع الحقّ جاهز عنده ليقاوم به ذلك الباطل، وفي ذلك أسوة لنا في فقه التدافع، فلا يكون لنا مشروع هدم إلا ويتقدمه في العرض مشروع بناء.
إن أزمة الصراع حينما تستفحل فإنها تغوي حركة التدافع بأن تنحرف إلى الهدم وتعرض عن البناء، فإذا ما كان أحد الطرفين يستشعر المظلومية فإن تلك الغواية قد تنتهي به كليا أو جزئيا إلى اجترار أوجاعه، وإلى شنء أعدائه وترذيلهم، ثم يكاد ينغلق على ذلك فلا يكون للبناء في حركته مكان. وحينما طال صراعنا خلال العشريتين الماضيتين بقطع النظر عن المتسبّب في ذلك الصراع، فإن من الحقّ علينا أن نحاكم أنفسنا بالمبدإ القرآني الآنف الذكر: ماذا حققنا من بناء نواجه به الخصوم لنبطل به الباطل الذي نشنّعه عليهم؟ ماذا أنجزنا من رؤى وأفكار ومشاريع ندمغ بها ما نحسبه باطلا من رؤى الخصم ومشاريعه ورؤاه؟ فيما يخصّني لم أر من ذلك شيئا معتبرا، أما لعن الظلام فقد رأيت منه شيئا كثيرا، وحيث إنني على قناعة تامّة بأننا نتوفّر على قدرات هائلة تمكّننا من البناء، فإننا إذ لم نفعل ليس لي من تفسير لذلك سوى خلل في المنهج أصابنا جرّاء سقوطنا في مواجهة مستفحلة عطّلت فينا طاقات البناء، ونشّطت نوازع الهدم، فأصبح الهدم أصلا بعدما كان حقّه أن يكون فرعا.
ثالثا اختلال ميزان القسط
العدل بالإضافة إلى كونه قيمة عليا في مجال الأخلاق، فإنه أيضا قيمة منهجية في مجال التقديرات والأحكام. ومن فروعها إعطاء كلّ شيء حقّه دون تهويل أو تهوين، ودون مبالغة بالزيادة أو النقصان، ومنها تقدير الأفكار والآراء بحسب أقوال أصحابها لا بحسب نواياهم، ومنها أن تعتبر رأيك صوابا يحتمل الخطأ ورأي المخالف خطأ يحتمل الصواب، ومنها أن تقابل الحجة بالحجة لا بالتجريح والشتيمة.
وحينما ينشب الصراع ويستفحل فإنّ العدل قيمةً منهجية يكون معرّضا للانتهاك؛ ذلك لأن النفوس في هذا الصراع تكون مشحونة بالعواطف والأهواء، وخاصة إذا كان صراعا يُسلّط فيه الظلم على أحد طرفيه، وحينئذ فما أيسر أن تمتدّ تلك العواطف والأهواء لتجرف أمامها قواعد العدل، فتحاكم الآراء إلى النوايا، وتتجاوز الأحكام حدودها بالتهويل والمبالغة أو بالتهوين والاستنقاص، وتنشأ الدغمائية التي تدّعي الحقّ المطلق فيما هو نسبي، وتقاوم الحجة بالشتيمة والسباب. وفي كلّ ذلك مصاديق من واقع ما نرى، وهي إذا كانت الآن في بداياتها فإنها مرشحة للتفاقم حتى تصبح خللا منهجيا مهلكا تضطرب به بوصلة الحقّ الذي نريد.
فمنذ أيام كتب أحد الأساتذة في ركن من أركان أحد المواقع ملحوظة قال فيها إنه عند عودته إلى تونس لاحظ انتشارا للحجاب في الشارع بل وفي مراكز العمل الرسمية وغير الرسمية، واستنتج من ذلك أن منشور 108 وإن كان ما زال قائما قانونا فيبدو أن الحاكم غضّ الطرف عنه بعض الشيء واقعيا، ورأى أنّ ذلك بادرة إيجابية داعيا إلى إزالة هذا المنشور بصفة نهائية. وكتب أستاذ آخر رسالة وجهها إلى وزير الشؤون الدينية يرجوه فيها أن يسعى من أجل إبطال هذا المنشور السيء الذكر منوها بان المشرع التونسي لا تنقصه الحكمة التي تجعله يقدم على هذه الخطوة التي ترفع الحرج وتنقذ السمعة. وربما كان فيما كتبه هذا وذاك عبارات غير رشيقة أو جزئيات غير دقيقة، أو فلنقل أفكار غير نضيجة.
انبرى لهذين الأستاذين أحد الشيوخ الأفاضل من ذوي السبق في الدعوة، فانقضّ على كل واحد منهما بثلاث مقالات طويلات متتاليات مع وعد بالمزيد، وانهال عليهما بأقذع الأوصاف وأبشع النعوت وأقسى عبارات التجريم، ومن عينات ما قال في أحدهما وقد كان في تلك اللحظات في حاجة إلى المواساة لفقدان والده رحمه الله : ' ألا يكفي هذا السيد ما ارتضاه لنفسه من عودة ذليلة، أعطى بها الدنية في دينه، فأحبط بها أجر هجرته وجهاده، وخذل بها صفّ دعوته، وفرّق بها شمل جماعته ووهّن عزم إخوانه، وأقرّ عيون أعدائه، ألا يكفيه كل هذا حتى يأتي ليقف اليوم هذا الموقف الخذول؟' ( مقالة منشورة بموقع الحوار نت) ياإلهي؟ إذا كان هذا من أجل عبارات غير دقيقة، أو فكرة اجتهادية خاطئة، فماذا لو خطا أحد الأستاذين خطوة أخرى فقابل مثلا رئيس الجمهورية، أو تقلّد وظيفة سياسية، هل يكون الحكم عليه بالخروج من الملّة، فيُساق إذن إلى ساحات القصاص ؟
وإذ أعلم من فضل الشيخ وصدق نيته ما أعلم، ومن جهاده الدعوي ما هو مشهود، فليس لي من تفسير لهذا الذي قال سوى أنه خلل في المنهج أدى إلى ترتيب هذا 'العقاب القاسي' على ذلك 'الخطإ الصغير'، وكان يمكن أن يُحسم الأمر بتصويب ناصح يُسرّ به إلى الأستاذين أو يُعلن، فتحصل الفائدة المرجوة، ولكنه الخلل في موازين العدل الذي تصنعه مرارة الشعور بالظلم، والذي ينتهي إلى تقدير الأفكار والمواقف بغير أقدارها فيؤول في مبالغات تنتهي بالأمر إلى الجور في الأحكام، وكأني بهذا الجور قد أرسى عند البعض فيما نقرأ ونسمع على تخوم التكفير للخصوم، وذلك مؤشّر بالغ الخطورة إذا لم تتداركه يد الحكمة، وهكذا تضيع الحقيقة بسقوط العدل قيمةً منهجية توجّه إلى معادن الحقّ.
وفي ذات السياق نشرت جريدة الصباح منذ أيام ملخصا لأطروحة علمية عن حركة النهضة، وجاء فيها الأمر مخلوطا حقا بباطل فانبرى لها موقع الحوار نت للردّ بمقالة مشكوك في أنها من تحريرها بالرغم من أنه ممهور بتوقيعها، وإذ كان المقام مقاما علميا إذ يتعلق الأمر بأطروحة جامعية، فميزان العدل كان يقتضي أن يكون الردّ سجالا تتدافع فيه الحجج، وتتحاكم فيه العقول إلى منطق العلم، فيُدحض ما يُدحض مما ورد في الأطروحة من الخطإ، ويُثبت ما يُثبت فيه من الحقّ، وكلّ ذلك بمنطق البراهين والحجج المتعارف عليها في هذا الشأن، ولكن المقال جاء على خلاف ذلك زفرةَ موتور من صراع استحكمت فبه أهواء الشنآن ، فإذا هو في معظمه سنفونية من الشتائم لم تُطح بالعدل في معناه المنهجي المقتضي لمقارعة الحجة بالحجة، وإنما أطاح به في معناه الأخلاقي أيضا، فكان محور الردود في مناقشة هذه الأطروحة العلمية يتعلق ' بالعصابة المستولية على الحكم في تونس' ، وإذا هو يتحدث عن 'سوريا في أيام النعجة ( يقصد حافظ الأسد ) المقبور'، ويتحدّث عن مجلس النواب التونسي واصفا إياه بأنه ' مجلس الدواب ' وهلمّ جرا.
وعلى هذه الشاكلة نرى كثيرين مما يكتبون ويتكلمون تحكم عقولهم دغمائية قاسية فتنحرف بها عن النسبية فيما مجاله النسبية إلى الإطلاق الذي لا يحتمل مراجعة، كما تحكمها هواجس وتوجسات يُحرّف بها الكلم عن مواضعه، وتُبنى فيها الأحكام على النوايا لا على التعابير والأقوال، وتُحاكم فيها الأفكار والمواقف الواردة على أساس خارطة ذهنية مسبقة صنعها منطق الصراع لا على أساس معطيات موضوعية خارجية. وهكذا ينتهي الأمر إلى استهتار وإن يكن غير مقصود بميزان القسط في أبعاده المختلفة. وعلى غرار ما ذكرت سابقا، فإنه إذ لا يساورني شكّ في صدق النوايا وإرادة الخير فإنني لا أجد تفسيرا لما أوردت من عينات سوى أنه خلل في المنهج يؤدي لا محالة إلى خلل في النتيجة، فقديما قال شيخ المقاصديين الإمام الشاطبي :' إذا صار الهوى بعض مقدمات الدليل لم ينتج إلا ما فيه اتباع الهوى' (الموافقات:4/222).
ماذا فعلت عشريتان من الصراع المحتدم مع السلطة الحاكمة بقوم نهضوا من أجل النهضة، ومن أجل أن يقدّموا مشروعا متكاملا فيه للوطن خير؟ إن هذا الصراع بقطع النظر عن أسبابه والمتسببين فيه بالإضافة إلى أضراره في مجالات مختلفة، فإنه عطّل العطاء البنّاء: أفكارا ومشاريع ومقترحات في تفاصيلها النظرية والواقعية إلا أن تكون عناوين وشعارات عامّة ليس من شأنها أن تقوم وحدها بأعباء النهوض، وجنح بهم إلى ما يشبه أن يكون تمحّضا للهدم، اجترارا للآلام، ونقدا وتزييفا وإبطالا وتشنيعا وشتيمة لما يقدمه الآخرون من عطاء بقطع النظر عما فيه خطإ ومن صواب.
والأخطر من ذلك كلّه أنّ العدّة التي تنتج البناء وهي العدّة المنهجية قد بدأ يصيبها خلل يستفحل يوما بعد يوم بتوالي أزمة المواجهة، ففي سبيل أن تستقيم المعادلة، وأن يعود التدافع إلى نصابه الصحيح الذي يكون فيه البناء هو الأصل والهدم هو الفرع يتوجّب فيما أقدّر السعي الحثيث لتفكيك العلّة المُسبّبة لتفادي ما تسببه من أضرار بصفة عامة، ومن أضرار بمنهجية التفكير والتقدير والتعامل بصفة خاصة، وما تلك إلا علّة الصراع، وإذ يتوجّب العمل الجدي من أجل تفادي هذه الأضرار، فمن هذا الصراع ' هَل إلَى خُرُوج من سَبِيل' ( غافر/11).
وما توفيقي إلا بالله
(*) د. عبد المجيد النجار، أستاذ جامعي مقيم بباريس
تونس نيوز 1 اكتوبر 2008


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.