أثار المقال الذي نشره الأخ الحبيب أبو وليد المكني بعنوان "من وحي زيارتي لتونس" ضجة كبيرة وأعتبر البعض مقاله تزكية مجانية للنظام التونسي أو شهادة زورشهدها صاحبها كما أعتبر آخرون أن المقال قد أعد له ولم يكن له من "جهد" إلا الإمضاء عليه. والحقيقة أن المقال لم يفاجئني من حيث أفكاره ومضمونه ولكنه فاجئني من حيث عنوانه وتوقيته وذلك لسبب بسيط وهو أن العارف للأخ أبو وليد يعلم أنه يمثل هذه الأفكار، والتي يمكن تلخيصها في قضية فصل السياسي عن الدعوي، منذ سنوات عديدة. ولكن المقال فاجئني من حيث أنه كتبه مباشرة بعد زيارته لتونس فظهر وكأنه ألهمه من خلال هذه الزيارة ومما زاد الموضوع التباسا هو العنوان نفسه "من وحي زيارتي" فوقع التباس كبير مفاده أن هذه الزيارة هي التي قلبت موقفه رأسا على عقب. وهذا ليس صحيحا. وأود في البداية أن أنبه بأني لا أنوي في هذا المقال الدفاع عن الأخ أبو وليد لأنه أدرى بالدفاع عن نفسه وأقدر على توضيح أفكاره، كما أريد أن أعبر أيضا أن أبو وليد من المثقفين المرموقين وأنني شخصيا استفدت كثيرا من خلال نقاشاتي المتواصلة معه في مواضيع متنوعة أيما إفادة ولكنني أريد أن أنبه إلى بعض الأشياء الخطيرة التي وجدتها تتكرر في ردود عدد من القراء الأفاضل كلما كتب مقال أو رأي يخرج عن الموقف العام للإسلاميين التونسيين وأهمها: عند نقد أو معارضة أي فكرة أو نظرية يجب الإلتزام بتتبع الفكرة وليس الشخص حتى نضمن شكلا أفضل للحوار ونراعي حق الأخوة. الكف بشكل نهائي وفوري عن عمليات "اغتيال العقل" التي يمارسها البعض بوعي أو بدون وعي وأقصد بذلك اعتبار أن كل كلام أو موقف سياسي جديد أو مغاير لما هو متعارف عليه قد تم بإملاء من السلطة أو أنه كتب للشخص الذي أمضاه أو نشره باسمه، ويزداد هذا الأمر خطورة إذا تعلق الأمر الأمر بأحد المثقفين الإسلاميين، كما حصل مع الأخ أبو وليد المكني، فإذا أصبح المثقف الإسلامي بين أهله وإخوانه تافها وبسيطا وأبلها فماذا ننتظر من أعدائه. اقتصر الكاتب على تحليل قضايا أربع وهي "الهوية العربية الاسلامية، القرآن الكريم، المساجد، الحجاب) وهذه القضايا لها علاقة بالجانب الديني الإسلامي وإن كان لها تبعاتها السياسية ولكنه لم يتعرض إلى قضية خنق الحريات (في السياسة ، وفي الصحافة وفي تشكيل المؤسسات وغيرها) وهو ما أوحى للقراء بالتباس ضاعفته بعض ردود الفعل غير الدقيقة. ولو عدنا إلى الفكرة الجوهرية للمقال والتي مفادها فصل السياسي عن الدعوي، وهي النظرية التي يتبنّاه الأخ أبو وليد، لوجدنا أن هذه النظرية منتشرة بين عدد كبير من الإسلاميين التونسيين وإنما يقع الإختلاف بينهم أحيانا في التفاصيل وفي التنزيل، وهو ما تمنيت أن الأخ أبو وليد قام بإشباعه تحليلا حتى نتجنب سوء الفهم. وأما عن رأيه بأن السلطة في تونس لم تعترض على الصحوة الإسلامية الجديدة وغضت الطرف عنها ولم تراقب المساجد إلخ... وأن القول بغير ذلك هو نوع من "السياسوية" فهذا هو الإشكال لأن الصحوة الثانية، أي التي انطلقت بعد عمليات تجفيف منابع التدين التي بلغت أوجها في النصف الأول من تسعينيات القرن الماضي، لم تكن بدفع من النظام ولم يكن النظام محايدا تجاهها بل إنه سعى إلى القضاء عليها في البداية ففشل فحاول ترويضها وتهميشها ففشل وهو الآن يجاريها. فالصحوة في تونس كانت عملية طبيعية وتطورا عاديا لخط سير المجتمع، ذلك أن المجتمع أشبه بالجسد لا يمكن أن يبقى ثابتا كما هو لا يتحرك ولا يدافع عن نفسه وإنما له أجهزة مناعة خاصة به تتفاعل فيما بينها لتحدث هذا الحراك، وأما خضوعه أحيانا فهو أشبه بسكون الجسد عندما تصيبه حمى شديدة فتلزمه الفراش ولكنه سرعان ما يتعافي خاصة بعد تناول الدواء ليعود إلى النشاط والحركة من جديد وهو ما حصل في تونس عندما تعرضت في بداية التسعينات إلى عمليات تجفيف ممنهج لكل مظاهر التدين مما أقعد هذا الجسد عن الحراك وألزمه الفراش، ولكن الله قيض لهذا المصاب دواء تمثل في عاملين: الأول حالة طبيعية أثبتها هوركايمر عالم الإجتماع الألماني في بحوثه منذ الستينات حيث اعتبر أن المجتمع كلما تم التضييق عليه عاد إلى البحث عن معافاته وفي هذه الحالة تكون الهوية هي الملاذ الأساسي له، ولذلك فإن المجتمع التونسي عندما حوصر لم يجد له من ملاذا إلا في هويته، وهي في هذه الحالة الإسلام. الثاني والذي كان بمثابة الدواء الذي أعان هذا الجسد على المعافاة وهي تطور وسائل الإعلام والإتصال وخاصة القنوات الفضائية والإنترنت اللتين استطاعتا كسر الحصار المضروب على المجتمع التونسي ونتج عن ذلك أن موجة التدين الجديد كانت متعددة بتعدد مصادر التلقي فظهر المصدر السلفي، والشيعي وغيره وأحيانا على حساب السني المالكي المتعارف عليه في تونس مما جعل الحالة الإسلامية التونسية جديرة جدا بالدراسة الإجتماعية. وأمام هذا "الإنفلات" حاولت السلطة أيضا رد الفعل فحاولت في البداية التصدي له ففشلت فحاولت توجيه هذا التدين أو تمييعه ففشلت فالجأت إلى مجاراته وهي السياسة السائدة الآن، وهنا لا بد أم نستثني المبادرات الشخصية التي لا تزال في بدايتها والتي لا نستطيع بعد تقييم مدى فاعليتها إذا علمنا أن جناح دعاة تجفيف منابع التدين في تونس لا يزال قويا خاصة وهو يركب قاطرة مقاومة الإرهاب الذي تدعمه قوى خارجية قوية وقوى سند هؤلاء تورط بعض الشباب التونسيين في شبكات إرهابية وجعل ذلك حجة وذريعة للتصدي لكل مبادرة سياسية إسلامية. لا نريد هنا مزيدا من الإسترسال في التحليل لأنه ليس هدفنا في هذا المقال (ولمن أراد المزيد يمكنه الرجوع إلى بحث نشرته سابقا على صفحة الحوار نت وغيرها تحت عنوان "سقوط الإسلاموية، ج 6) وإنما نريد أن ندعو من جديد إلى التعامل مع الأفكار والمواقف التي نشرها الأخ أبو وليد بشيئ من الجدية والصراحة حتى وإن اعتبر البعض منا أنها أساءت إليه وأن توقيتها أو عنوانها م يكن مناسبا ولكننا بشر نخطئ التقدير والتوقيت وتلك إرادة الله أنه جعلنا لا نقدر على الإحاطة بكل شيء فيما نكتبه وما نقوله ولذلك كانت حياتنا ومسيرتنا كدحا متواصلا إلى الله من أجل تجاوز خطإ هنا وزلل هناك .. ولعلي أذا أردت أن أعبر عما كتبه الأخ أبو وليد المكني بلغة بعض العسكريين عنما يسقط أحد جنودهم بقولهم: إن الجندي كان في الوقت غير المناسب في المكان غير المناسب، وكذلك الأخ أبو وليد كتب مقاله في وقت ومكان غير مناسبين أي بعد زيارته لتونس وعودته منها.